#########

آراء

أهمية القضاء الدستوري في مستقبل سوريا


يضمن القضاء الدستوري انتظام الحياة السياسية في الدولة من خلال دوره المهم في الإشراف على قوانين الانتخاب وعلى العملية الانتخابية والتصديق على نتائجها

17 / تشرين أول / أكتوبر / 2019


أهمية القضاء الدستوري في مستقبل سوريا

 

المصدر: “بروكار برس” 

 

حتى وقت قريب كانت فكرة قيام قضاء دستوري تبدو غير قابلة للتطبيق بسبب انتشار أنظمة الحكم المطلقة والاستبدادية، واعتقاد كثير من الناس باستحالة إلزام أصحاب السلطات العليا باحترام القانون. إلا أن هذه المقولة لم تصمد مع الأيام، إذ سرعان ما تحوّل موضوع  إلزام الحكام والسلطات الحاكمة باحترام القوانين إلى فكرة واقعية بعد الويلات والكوارث التي خلفتها الأنظمة الاستبدادية في العالم، لا سيما في الحربين العالمتين، فشرع عدد من الدول الأوروبية في تحصين أنظمته ضد عودة الاستبداد والتسلط من خلال النص في دساتيره على رقابة دستورية صارمة كرّست علوّ الدستور وحددت قواعد عمل السلطات العامة والفصل بين السلطات، وكذلك القواعد التي تدير العلاقات بين هذه السلطات والمواطنين، ومنحت الهيئات المكلفة بالعمل على احترام القانون سلطة فرض احترام القواعد الدستورية.

وعلى الرغم من أن سوريا كانت السبّاقة في إصدار الدساتير على الصعيد العربي، إلا أن الرقابة على دستورية القوانين بقيت حبراً على ورق ولم تشهد أي تقدم، لا بل إن دور القضاء الدستوري تراجع عمّا كان عليه الأمر في خمسينيات القرن الماضي، فبعد أن حظي القضاء الدستوري باستقلال نسبي عن السلطتين التنفيذية والتشريعية في دستور 1950، جاءت الدساتير اللاحقة لتلغي وجوده تارة أو تحوّله إلى محض أداة في يد السلطة، وقد تجلّى ذلك بوضوح في دستوري 1971 و2012.

ومع أنه كُتب وقيل كثير عن أهمية إصلاح القضاء الدستوري وضمان استقلاله، إلا أن القاســم المشترك بين كل ما قيل وكتب هو أن إصلاح القضاء الدستوري وباقي الجهات القضائية وضمان استقلالها بات اليوم يمثّل ضرورة وطنية قصوى وبخاصة في هذه الأوضاع المأساوية التي تمر بها سوريا.

أصبح القضاء الدستوري اليوم يؤدي دور الحامي لتطبيق الفصل بين سلطات الدولة، ويمنع  تغوّل سلطة على سلطة أخرى، وطغيان أكثرية على أقلية في البرلمان أو فئة حاكمة على فئة معارضة، من خلال ممارسته لوظيفته الرقابية على مدى التزام المشرع بمبدأ الفصل بين السلطات والحفاظ على التوازن بينها واحترام حدود كل سلطة منها.

والقضاء الدستوري يقوم أيضا بدور الضامن للتوازن بين المعارضة والأكثرية في البرلمان من خلال إفساح المجال للمعارضة البرلمانية للجوء إلى القضاء الدستوري عندما تتجاوز الأكثرية البرلمانية بالتحالف مع الحكومة النصوص الدستورية، بما يشكل ذلك رادعاً للأكثرية واضطرارها إلى الالتزام بالنصوص الدستورية. ويؤدي ذلك إلى تصحيح التوازن المختل بين المعارضة والأكثرية، ويحول دون جنوح الأكثرية الحاكمة إلى الهيمنة على الحكم. ويمنعها من إصدار قوانين تنتقص من حقوق الأقلية.

ويدعم وجود القضاء الدستوري بقوة مبدأ سيادة القانون، وذلك من خلال تطبيق النصوص الدستورية وإنفاذها تجاه المؤسسات والإدارات العامة والمسؤولين، وتأمين الدعم للقضاء العادي بدعم القواعد العادية تجاه الدولة. وهو الأمر الذي يشجع على التنمية وجذب الاستثمار الدولي الذي سيطمئن إلى وجود سلطة قضائية فعّالة تحمي حقوق الملكية الخاصة من تسلط المتنفذين.

ويحمي القضاء الدستوري الدولة من النزاعات التي قد تنشأ بين الأحزاب السياسية والحكومة بصفته المسؤول عن تحديد دستورية جميع القوانين عندما يطرح نفسه بوصفه مكانا لحل تلك النزاعات والحيلولة دون تحولها إلى نزاعات طويلة قد تعرقل السير المنتظم للسلطات.

ويضمن القضاء الدستوري انتظام الحياة السياسية في الدولة من خلال دوره المهم في الإشراف على قوانين الانتخاب وعلى العملية الانتخابية والتصديق على نتائجها.. وفي هذا الصدد يقول الدكتور عصام سليمان:” للقضاء الدستوري دور أساسي ليس فقط في الحفاظ على الالتزام باحترام الدستور في عملية التشريع وإدارة الشأن العام، وإنما أيضاً في انتظام أداء المؤسسات الدستورية وتكريس شرعية السلطة وتطوير المنظومة الدستورية وبناء دولة الحق

ويشكل القضاء الدستوري مظلة مهمة لحماية حقوق الناس وحرياتهم من خلال مراقبته تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات والعمل على التوازن بينها، ومن هنا تأتي ضرورة النص في أن يلحظ الدستور في أحكامه على الحقوق والحريات للفرد بما يتوافق والشرعة الدولية لحقوق الإنسان، حتى يتمكن القضاء الدستوري من مراقبة الالتزام بتلك النصوص وبناء قراراته عليها تحقيقاً للعدالة الدستورية التي هي أساس العدالة، إذ إن القضاء يبني أحكامه على القوانين، وإذا كانت القوانين غير عادلة فإن الأحكام التي يصدرها القضاء ستكون أيضاً غير عادلة، وهنا يأتي دور القضاء الدستوري في النظر في عدالة تلك القوانين في ضوء نصوص الدستور والمبادئ الدستورية ليحقق في النهاية العدالة.

والقضاء الدستوري هو وحده القادر على منع إنشاء محاكم استثنائية، من خلال ممارسة دوره الرقابي على قوانين تلك المحاكم التي يمثل إنشاؤها اعتداءً صارخاً ليس على حرّية الإنسان وحقوقه وحسب، بل يمثل اعتداءَ أيضاً على اختصاص السلطة القضائية صاحبة الولاية الكاملة والاختصاص الشامل لمختلف المنازعات بموجب أحكام الدستور الذي أناط بها وحدها أمر العدالة مستقلة عن باقي السلطات.

وإضافة إلى ما تقدم، يمكن للقضاء الدستوري أن يساعد السوريين في إعادة إعمار بلدهم على أسس جديدة بعيداً عن الاستبداد والطغيان والتطرف من خلال وظيفته ودوره بوصفه أعلى سلطة قضائية في البلاد.

لذلك، بات من الضروري اليوم أن يُحصّن القضاء الدستوري بنصوص واضحة في أي دستور جديد لسوريا بما يمكنه من أداء دوره المستقل بعيداً عن أي تدخل من أي جهة كانت.

 

المادة من المصدر