#########

آراء

أين جثث عشرات آلاف البشر؟


غلب تجارب الأمم الأخرى التي شهدت حركات تحرر من الطغاة انتهت بسقوطهم، وببداية مختلفة كليًا أو جزئيًا للنظام التالي، ما قدم تسهيلات ومبادرات لمعرفة مصير المفقودين والجثث

10 / شباط / فبراير / 2019


أين جثث عشرات آلاف البشر؟

 

المطالبة بتسليم الجثث أو الكشف عن مصيرها يجب أن تكون أولوية للمنظمات الحقوقية

 

*المصدر: منصور العمري ــ عنب بلدي

 

في 4 مارس/آذار 1991 غادر خالد خضير (13 عامًا) وابن عمه فؤاد كاظم (33 عامًا) قرية البوعلوان وسارا إلى مدينة الحلة جنوبي العراق لشراء بعض المواد الغذائية، لم يرهما أحد بعد ذلك على قيد الحياة. اعتقلهما نظام صدام حسين “البائد”، واختفيا مثل عشرات آلاف العراقيين من أبناء المدن التي تقطنها أغلبية شيعية في جنوب العراق. يقدر عدد المختفين على يد النظام العراقي بنحو 300 ألف.

بعد أكثر من 12 عامًا، وفي 2003، انتهى بحث أسرتيهما عنهما أخيرًا عندما عُثر على أوراق هويتهما مع البقايا المتحللة لجثث مستخرجة من مقبرة جماعية. اكتشفت مقبرتان جماعيتان ضخمتان قرب قاعدة المحويل العسكرية شمال الحلة، ويعتقد أنه توجد مقبرة جماعية ثالثة على أرض القاعدة العسكرية نفسها. دفنت الجثث في تلك المواقع دفعة واحدة، فوق بعضها لا في حفر منفصلة لكل جثة. لم يكن هذا الاكتشاف ممكنًا لو بقي صدام حسين حاكمًا للعراق.

كانت الرفات في هذه المقابر الجماعية لضحايا حملة منسقة من القمع والاعتقال والإعدام قامت بها الحكومة العراقية بعد انتفاضة عام 1991. يقدر عدد المقابر الجماعية في العراق بـ 400، لكل مقبرة تاريخها الخاص، ولكن جميعها شاهدة على عقود من القتل الجماعي على يد الحكومة العراقية.

وثّقت تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية والسورية، آلافًا مؤلفة من حالات القتل تحت التعذيب والوفيات والإعدامات داخل سجون النظام السوري، بالإضافة إلى ضحايا القتل الجماعي والميداني. أقرّ النظام السوري بعديد من حالات “الوفاة” في أثناء الاحتجاز، من خلال تسجيلها في القيود المدنية. لم تخبرنا الحكومة السورية حتى اليوم أين جثث هؤلاء القتلى. اكتشفت عدة مقابر جماعية في مناطق داعش وتم استخراج جثث منها وإعادة دفنها، رغم أن التعامل مع هذه المقابر وجثث الضحايا والأدلة ليس كافيًا على الإطلاق.

أغلب تجارب الأمم الأخرى التي شهدت حركات تحرر من الطغاة انتهت بسقوطهم، وببداية مختلفة كليًا أو جزئيًا للنظام التالي، ما قدم تسهيلات ومبادرات لمعرفة مصير المفقودين والجثث. عدد ضئيل من الدول شهدت تجارب ثورية فشلت، من أهمها ربما بحكم القرب مع الحالة السورية هي انتفاضة 1991 في العراق التي سحقها صدام حسين ديكتاتور العراق السابق. بقيت مسألة المفقودين والمقابر الجماعية معلقة حتى سقوط النظام فيما بعد على يد تحالف تقوده القوات الأمريكية عام 2003.

بعد حرب الخليج عام 1991، اندلعت انتفاضات جماهيرية ضد النظام العراقي في الشمال الكردي والجنوب الشيعي، وهم يشكلون نحو 70% من سكان العراق. بدأت الانتفاضة في مدينتي الزبير والبصرة الجنوبيتين في 28 فبراير/شباط و1 مارس/آذار، وبحلول نهاية الأسبوع الأول من شهر مارس/آذار، انتشرت في المناطق الحضرية الكبرى. اكتسبت الانتفاضة دعمًا من السكان الشيعة الذين عانوا طويلًا من قمع نظام صدام حسين الذي يهيمن عليه السنة. في جميع أنحاء الجنوب، سحقت القوات العراقية انتفاضة الجنوب.

في محاولة الجيش لاستعادة المدن، قتل آلاف المدنيين العزل من خلال إطلاق النار العشوائي في المناطق السكنية، وأعدم الشباب في الشوارع وفي المنازل والمستشفيات، ولاحق المشتبه بهم، وخاصة الشبان، في أثناء عمليات التفتيش من منزل إلى منزل، واعتقل من يشتبه به دون تهمة أو أطلق النار عليهم بشكل جماعي، واستخدم طائرات الهليكوبتر لمهاجمة المدنيين العزل في أثناء فرارهم من المدن.

بعد هزيمة الانتفاضة في الشمال والجنوب، بدأت الحكومة باعتقال عشرات آلاف الأشخاص عشوائيًا للاشتباه في دعمهم للانتفاضة، واستهدفت الشيعة بشكل خاص. نظمت القوات العراقية نقاط تفتيش، وداهمت منزلًا خلف الآخر لجلب المشتبه بهم. لم تقل وحشية حملة الاعتقال العشوائية عن الحملة العسكرية التي سحقت الانتفاضة. اعتقل عدد لا يحصى من المدنيين، وفي بعض الأحيان عائلات بأكملها، و”اختفوا”.

أخفى نظام صدام جثث ضحايا الانتفاضة والمعتقلين في مقابر جماعية يقدر عددها بـ 400.

هل يجب على السوريين انتظار سقوط نظام الأسد، وهو ما لا يراه البعض قريبًا، حتى يجدوا جثث أحبائهم؟

لكن في وقتها ربما ستكون معظم الجثث اختفت، ولم تعد قابلة للتعرف، أو أفناها نظام الأسد لإخفاء جرائمه، إما حرقًا أو تذويبًا أو أعاد البناء فوق المقابر والجثث في إطار إعادة الإعمار، أو غير ذلك، فهو أيضًا يتعلم من تجارب الأمم الأخرى، وبالأدق من تجارب مجرمين آخرين.

العنصر الأهم في مسألة الجثث والمقابر الجماعية، هو عدم الانتظار لسنوات بل محاولة معرفة مصيرها والمطالبة بذلك في أقرب وقت ممكن، ودمجها مع المطالبات بإطلاق سراح المعتقلين، فكلما طال الوقت، تتآكل الجثث وتختفي الأدلة وتضيع الحقوق.

لا يجب الاعتماد على جمع الأدلة وتوثيق المفقودين والمعتقلين، ومراكمة هذه البيانات انتظارًا للحظة إمكانية التحرك، للثقة بتطور التكنولوجيا وآليات التعرف على الجثث أو الأدلة، بل يجب التحرك بالترافق مع التوثيق.

تتطور آليات التوثيق وأدواتها التكنولوجية، لكن في الوقت ذاته تطور الأنظمة الإجرامية أدواتها أيضًا بما يتوافق مع العصر، للتهرب من المسؤولية والعدالة.


مراجع:

تقرير هيومن رايتس ووتش:

THE MASS GRAVES OF AL-MAHAWIL :THE TRUTH UNCOVERED

pdf