#########

آراء

الفاجعة السورية: التضحية بالعدالة على مذبح السياسة


المعضلة الكبرى كانت في تسويغ استمرار المقتلة السورية، بدواعٍ سياسية تم استخدامها، لمنع توظيف السياسة بما يخدم الاعتبارات القانونية والإنسانية للشعب السوري

31 / آذار / مارس / 2019


الفاجعة السورية: التضحية بالعدالة على مذبح السياسة

 

 

 

*أيمن أبو هاشم- مع العدالة 

 

مع دخول الثورة السورية عامها التاسع، يغدو سؤال الوجع السوري أشدَّ سطوةً، في كشفه التناقض الرهيب بين الواجب الإنساني وعدم الوفاء به، كما تصرخ به حناجر الضحايا بكل مرارة السؤال: ماذا سيكون الفارق لو اتخذ المجتمع الدولي خطوات حاسمة، لردع نظام الأسد عن التوغل في جرائمه بحق السوريين في وقت مبكر؟ هذا السؤال ليس تعبيراً عن تقدير افتراضي، ولا خياراً سياسياً من بين خيارات أخرى. إذ إن المعقولية البشرية ونوازعها الأخلاقية في طرح مثل هذا السؤال، لا تقبل أن يقف العالم مكتوف الأيدي، منذ أن افتتح نظام بشار الأسد مجازره الجماعية، لقمع ثورة الشعب السوري منذ بداياتها.

تغييب اتخاذ تدابير رادعة على امتداد السنوات الثماني الماضية، أدى فعلياً إلى نتائج كارثية، جعلت من سورية على رأس الدول المنكوبة في العالم، بينما كانت مسارات العملية السياسية التي تزامنت مع فصول الحرب السورية، بمثابة تغطية دولية فاضحة، على تقطيع الوقت المطلوب لاستمرار المذبحة السورية، وليس العمل الجدي على وقفها بأسرع وقت. الفارق هنا لا يمكن قياسه بعقل بارد وموقف محايد، لأن عداد الموت السوري ورزنامة المجازر اليومية هما أداة القياس الوحيدة في معاينة الزمن السوري، بين ممكنات تجنب المأساة ووقائع حصادها المروّع. لا أدل على ذلك من محطات يستعيدها السؤال عينه، كي تحافظ الرواية السورية على حقائقها الكبرى. ومن أكثرها مدعاة للخذلان الجمعي؛ قبول المجتمع الدولي في صيغته المؤسساتية “الأمم المتحدة ” ومن خارجها التضحية بالعدالة على مذبح السياسة في تعامله مع القضية السورية.

 ربما ليس في هذا الاستنتاج اكتشاف جديد لواقع دولي له سوابق في تمرير هذه المعادلة الظالمة، فما تزال القضية الفلسطينية دليلاً عربياً آخر دامغاً عليها. لكن ذلك لا يخفف من فداحة التجربة السورية، بل يضاعف من التمسك بحق ضحاياها في دحض المنطق السياسي البراغماتي الذي يغطي على الجريمة القانونية والأخلاقية، التي شارك فيها المجتمع الدولي، حين توفرت له كل البراهين والأدلة القاطعة عن مسؤولية النظام في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، منذ السنة الأولى للثورة، ولم يحرك ساكناً لإجبار النظام على وقفها مبكراً.

 

 

لما هو أكثر من التذكير، في  تشرين الثاني/23/ نوفمبر 2011، أكدت لجنة التحقيق الدولية المستقلة الخاصة بسوريا في تقريرها الأول ” أن النظام قام بارتكاب أنماط من عمليات الإعدام بإجراءات موجزة، والاعتقالات التعسفية، وحالات الاختفاء القسري والتعذيب، بما في ذلك العنف الجنسي، فضلاً عن انتهاكات حقوق الطفل”. كما صدر تقرير ثانٍ عن اللجنة بتاريخ 22 شباط/فبراير2012، تحدث عن ” تدهوُر حالة حقوق الإنسان في سورية، وعن فشل الحكومة السورية في الاضطلاع بمسؤوليتها في حماية الشعب، حيث ارتكبت قواتها منذ نوفمبر /2011 المزيد من انتهاكات حقوق الإنسان الواسعة والمنهجية والجسيمة “. توالت التقارير الدولية طرداً مع تراكم المجازر والجرائم التي ارتكبها النظام خلال سنوات الثورة. وعلى ضفافها تتالت التصريحات النارية لقادة الدول النافذة، وهي تتوعد نظام الأسد وتضع له الخطوط الحمراء، فيما تتسع خارطة انتهاكاته لتصل كل بيت وقرية وحي ومدينة في سورية. أبداً لم تكن المشكلة في قلة الأدلة أو ضعف المطابقة بين الجريمة ومرتكبيها، وأبداً لم تكن المشكلة في الالتباس بين جرائم النظام والأطراف الأخرى، لأن جرائمه بدأت واتسعت قبل ظهور قوى التطرف بمسمياتها المختلفة.  

المعضلة الكبرى كانت في تسويغ استمرار المقتلة السورية، بدواعٍ سياسية تم استخدامها، لمنع توظيف السياسة بما يخدم الاعتبارات القانونية والإنسانية للشعب السوري. من قبيل ذلك، التنصل من المسؤولية الدولية الجماعية، بحجة “الفيتو” الروسي والصيني، الذي يمنع تفعيل التدخل الدولي في القضية السورية تحت الفصل السابع. علماً أنه بعد الحرب الباردة ، شهد العالم العديد من الأزمات الحادة، التي قامت لأجلها أحلاف دولية، استخدمت فيها القوة تحت غطاء التدخل الإنساني، من خارج الأمم المتحدة، مثل تدخل حلف الأطلسي في كوسوفو 1999، وتدخل الولايات المتحدة واحتلالها العراق عام 2003. تلك التدخلات لم تُخفِ أغراضا سياسية تناقض معايير التدخل الإنساني التي بدأ المجتمع الدولي، يتجه إلى تبنيها كما فعل “كوفي عنان” الأمين العام للأمم المتحدة عام 1999، حين قدّم مشروع قانون إلى الجمعية العامة في دورتها رقم (54 لعام 1999) اعتَبر فيه “أن السيادة لم تعُد مسألة تخص الدولة الوطنية التي هي الأساس الذي تقوم عليه العلاقات الدولية، بل تخص الأفراد أنفسهم، ومن هنا يصبح من حق المنظمة التدخل لحماية الوجود الإنساني لأي فردٍ في العالم، والتصدّي لمن ينتهكون حقوقه وينالون من كرامته “.

آذان كثيرة في الفقه الدولي تلقفت هذه المقاربة، لأنها تشكل إحدى الاقتراحات الحساسة، حول إمكانيات تجاوز عقبة السيادة، حين يكون مصير مجموعات بشرية، معرضاً لانتهاكات جسيمة وفق معايير القانون الدولي. بمعنى أدق، إسناد الواجب الأخلاقي لإنقاذ المستهدفين بمثل هذه الانتهاكات، باللجوء إلى قواعد قانونية تشرّعن التدخل الإنساني، وتضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، في مطابقة توجهاته السياسية، مع ضرورات ردع ومواجهة مرتكبي الجرائم الدولية. ثمة ردود عكست المواقف الرسمية للدول، ورأت في تلك المقاربة وحيثياتها، تحفيزاً للدول على التدخل في شؤون الدول الأخرى، لتحقيق مصالحها السياسية تحت غطاء التدخل الإنساني” كان ما نجم عن حصار واحتلال العراق مثالها الأكبر” للبقاء في دائرة تقديس السيادة، وإزاحة فكرة التدخل الإنساني من خيارات التعامل مع تلك الصراعات.

 أظهرت مسارات القضية السورية، أنها من أكبر الاختبارات، على ضرورة إحياء تلك المقاربة، التي وضعها كوفي عنان أمام المجتمع الدولي، حتى قبل ولادة المأساة السورية، لكن الدول المتدخلة في سورية، أطاحت بها على حساب دماء وأوجاع السوريين، لأنها اتبعت سياسات غاشمة، ليس فقط لأنها فشلت في العمل من داخل مجلس الأمن، إنما وهو الأهم، لأنها ضربت عرض الحائط بكل موجبات التدخّل الإنساني، في قضية كان كل يوم يمضي في تواريخها الدامية، دون توجيه رسائل قوية لنظام الأسد، بمثابة تشجيع الأخير على القتل الجماعي في اليوم الذي يليه.

 لم يكن المطلوب أكثر من إرساء مبدأ التدخل الإنساني في سورية، وعدم استغلاله لأسباب سياسية تناقض أهدافه الإنسانية، كما حصل في سوابق دولية، بل تطبيقه وفق بواعث قانونية وأخلاقية، تسمو على اعتبارات السياسة، طالما أن المسألة تتعلق بإنقاذ حياة ملايين الناس. وبالمحصلة، لم يتم إنقاذ هؤلاء الملايين في سورية، وما حدث هو التضحية بالعدالة على مذبح السياسة، واستمرار الجحيم السوري إلى يومنا هذا.      

 

 المزيد للكاتب: 

ثقافة الحقوق شرط الدفاع عن قضايانا العادلة

تداعيات قوانين التنظيم العمراني على المخيمات الفلسطينية في سورية