#########

آراء

روسيا وهدنتها المخادعة في سورية


استمر القصف الوحشي أكثر من تسعين يوما؛ طاول قرى وبلدات في ريفي حماة وإدلب، واستهدف المدنيين والبنى التحتية، حيث تم تدمير عشرات المشافي والعيادات والمدارس والأسواق والأماكن العامة

08 / آب / أغسطس / 2019


روسيا وهدنتها المخادعة في سورية
 
المصدر: العربي الجديد_ علي العبد الله

اختلفت قراءات المحللين والمعلقين السياسيين لإعلان “الهدنة” المشروطة في سورية؛ بين من اعتبرها نتيجة منطقية لفشل حملة القصف الوحشي في إحداث تحوّل استراتيجي يجبر مسلحي الفصائل على قبول الانخراط في مصالحة مع النظام على طريقة مصالحات الغوطة الشرقية والجنوب السوري، ومن اعتبرها تكتيكا روسيا؛ حيلةً ذكية بإيعاز روسي على الأرجح، بهدف تعزيز مصداقية محادثات أستانة وفعاليتها، في وقتٍ كان قد بدأ فيه التشكيك جدياً بفعاليتها، وفق الباحث المتابع للشأن السوري صامويل راماني، وبين من اعتبرها وسيلة للاحتفاظ بعلاقة التعاون والتنسيق مع تركيا، وتعزيزها بعد التوتر الذي أثاره القصف على ريفي حماة وإدلب، واستهداف نقاط مراقبة تركية أكثر من مرة. 
الواقع أن “الهدنة” المشروطة التي أُعلن عنها يوم الخميس (1أغسطس/ آب الجاري) في اجتماعات دول مسار أستانة (روسيا وتركيا وإيران)، لم تكن هدنة حقيقية، إنها خدعة روسية هدفها احتواء ردود الفعل الدولية على القصف الوحشي؛ وقطع الطريق على اللجنة الأممية التي شكّلها أمين عام الأمم المتحدة للتحقيق في استهداف مؤسسات تدعمها المنظمة الأممية؛ نحو 14 موقعاً، سبق وأعطيت إحداثياتها لروسيا كي لا تستهدفها بالخطأ فاستهدفتها عامدة متعمدة. 

استمر القصف الوحشي أكثر من تسعين يوما؛ طاول قرى وبلدات في ريفي حماة وإدلب، واستهدف المدنيين والبنى التحتية، حيث تم تدمير عشرات المشافي والعيادات والمدارس والأسواق والأماكن العامة؛ نجم عنه قتل أكثر من 780 مدنيا، بينهم 204 أطفال و151 امرأة، وجرح آلاف، ونزوح حوالى 450 ألف نسمة؛ ثلثاهم بقي تحت أشجار الزيتون من دون خيام، وقد أثار ردود فعل دول ومنظمات حقوق إنسان: هيومن رايتس ووتش ومنظمتي العفو الدولية وأطباء بلا حدود، ودفع عشر دول من الخمس عشرة دولة الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا والبيرو وبولندا والكويت وجمهورية الدومنيكان وإندونيسيا، إلى الطلب من الأمين العام للأمم المتحدة تشكيل لجنة تحقيق أممية للتحقيق في قصف منشآتٍ تدعمها الأمم المتحدة؛ أوضحت مصادر دبلوماسية أن التحقيق سيكون مشابهاً لذلك الذي جرى بعد قصف قافلةٍ تحمل مساعدات أممية شمال حلب في سبتمبر/ أيلول 2016، فـ”الأمين العام لديه مسؤولية بإجراء تحقيق بأي هجماتٍ تتعرّض لها ممتلكات  الأمم المتحدة وشركائها” على أن يتم إنجاز التحقيق خلال 45 يوماً، واتهام منسق الشؤون الإنسانية، مارك لوكوك، روسيا بدعم المذابح في محافظة إدلب، وهي منطقة مشمولة بـ “خفض التصعيد”، ومطالبته إياها بوقف دعم النظام في حربه على المستشفيات وبقية المرافق المدنية، بما فيها الأحياء السكنية. المرة الأولى التي توجّه فيها الأمم المتحدة إصبع الاتهام إلى دولة بعينها. وهذا دفع روسيا إلى العودة إلى الاسطوانة المشروخة بنفي صحة المعلومات التي اعتمدت عليها الأمم المتحدة، واتهام منظمة القبعات البيضاء بفبركة الفيديوهات والصور المؤثرة والترويج للأكاذيب كي تدينها والنظام السوري، من جهة، والضغط على النظام السوري لإعلان “هدنة” من طرف واحد، أي من دون التفاوض حولها مع المعارضة المسلحة، من جهة ثانية. اعتبرها مندوب النظام السوري لدى الأمم المتحدة ورئيس وفده إلى اجتماع مسار أستانة، بشار الجعفري، بادرة حسن نية. 

بدأ القصف الوحشي بقرار روسي في ضوء حاجة روسية لتحقيق مكاسب ميدانية قبيل استحقاقات مهمة: محادثات مع الأميركيين والإسرائيليين في اجتماع مستشاري الأمن القومي في القدس، لقاء الرئيسين الأميركي، دونالد ترامب، والروسي، فلاديمير بوتين، في أوساكا على هامش قمة العشرين، اجتماع مسار أستانة المقرّر يومي 1 و2 أغسطس/ آب الجاري، فروسيا لا تريد الذهاب إلى أيٍّ من الاستحقاقات المذكورة من دون أن يكون بيديها أوراق قوة، ولو مؤقتة، لمواجهة مطالب أميركية وأوروبية وأممية بالعودة إلى مسار جنيف لتطبيق القرار الدولي رقم 2254، والمجموعة المصغرة التي تضم أميركا وبريطانيا وفرنسا والسعودية والأردن وألمانيا، والتي تعتبر، على الضد من المقاربة الروسية التي تنطلق من اعتبار مسار أستانة الوحيد الذي يحقق تقدما على طريق الحل السياسي، أن مسار أستانة وتشكيل اللجنة الدستورية لا يقدّمان حلاً سياسياً مناسباً للملف السوري، شدّدت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية، مورغن أورتاغوس، في بيان على هامش زيارة وزير الخارجية، مايك بومبيو، أستراليا، إن “ما يهم بالفعل أن الهجمات على المدنيين والبنى التحتية المدنية يجب أن تتوقف. سنُقدّر كل الجهود المبذولة لتحقيق هذا الهدف المهم”. وشددت أيضا على أن “المسار الوحيد الممكن لحل سياسي هو العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة في جنيف، بما في ذلك إصلاح دستوري وانتخابات تشرف عليها المنظمة الدولية”. 

تربط روسيا بين تنفيذ تصورها للحل السياسي في سورية وفرضه على القوى الأخرى الفاعلة في الملف السوري بسيطرة النظام على إدلب. ولكن طول مدة القصف وفشله في إحداث تغيير ميداني استراتيجي، والتحرّك الدولي المعارض لاستمراره دفع روسيا إلى لعب ورقة التهدئة بالإعلان عن “هدنة” مشروطة من جانب واحد، على خلفية التمسّك بالذهاب في الحملة إلى نهاياتها: سيطرة النظام على أجزاء واسعة من ريفي حماة وإدلب، عبر توظيف “الهدنة” المشروطة، والتي تعلن شروطا سبق الاتفاق عليها بين روسيا وتركيا في اتفاق سوتشي لوقف إطلاق النار في محافظة إدلب (عقد في سبتمبر/ أيلول 2018، ونص على إقامة منطقة منزوعة السلاح بعمق 15 إلى 20 كيلومترا تفصل بين مناطق سيطرة قوات النظام والفصائل وسحب الفصائل المعارضة أسلحتها الثقيلة والمتوسطة، وانسحاب المجموعات الجهادية من المنطقة المعنية)، ما يجعلها شروطا شرعية، من جهة، ويسمح بالعودة إلى قصف المنطقة تحت ذريعة عدم تنفيذ هذه الشروط في ضوء إعلان مجموعات جهادية عدم الالتزام بها، من جهة ثانية، وتقليص فرص القبول بها وتنفيذها عبر رفض عودة قوات النظام السوري إلى مواقعها قبل حملة القصف، من جهة ثالثة. 

عزّزت روسيا تكتيكها بعرض مساعدة تركيا والفصائل المعتدلة في تنفيذ هذه الشروط والتصدّي للمجموعات الجهادية، وبتكثيف مراقبة تحركات الفصائل المسلحة، الجهادية بشكل خاص، ورصد انتهاكاتها المحتملة، وربطت استمرار وقف إطلاق النار بنجاح الفصائل المعتدلة في تطبيق مذكرة سوتشي، فيما يخص إعلان منطقة منزوعة السلاح في إدلب، وفرض سيطرتها عليها ومنع الهجمات الاستفزازية منها على المناطق الخاضعة لسيطرة جيش النظام، مبرزةً وجود مسلحين أجانب كثيرين في صفوف التنظيمات الإرهابية المتمركزة في إدلب، قال المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سورية رئيس الوفد الروسي إلى محادثات أستانة، ألكسندر لافرنتييف، “إن عدد عناصر هيئة تحرير الشام نحو 20 ألف مسلح، وما بين خمسة وستة آلاف منهم أجانب، وهم من أنصار الحزب الإسلامي التركستاني، والإيغور، والوافدين من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، وإن الحرب ضدهم سوف تتواصل”. وهذا يعني أن عمر “الهدنة” قصير، وأنها ليست أكثر من محطةٍ ضمن خطة قضم مساحات واسعة من الأراضي التي تسيطر عليها الفصائل المسلحة على طريق تحقيق حسم عسكري على مراحل يضع المعارضة، السياسية والعسكرية، أمام خيار وحيد: القبول بمشاركة النظام في الحكم من موقع الضعيف والمضطر.

المادة من المصدر