#########

آراء

في ظل عجز الجنايات الدولية: ما احتمال تحويل الملف السوري لمحكمة خاصة؟


/الدوافع والمعوقات/

05 / أيلول / سبتمبر / 2018


في ظل عجز الجنايات الدولية: ما احتمال تحويل الملف السوري لمحكمة خاصة؟

 

 

 

أحمد طلب الناصر

 

كلما طال عمر الثورة السورية، ازدادت معه تعقيدات ملف الانتهاكات والجرائم المرتكبة من قبل نظام الأسد وحلفائه بحق الشعب السوري؛ لتفتح المجال واسعاً أمام تساؤلاتٍ وطروحاتٍ عن مدى إمكانية الوصول لحلٍّ ناجع ينتشل السوريين من جحيم الفوضى الذي يتقاذفهم من كل حدب وصوب.

سبع سنوات ونيف من التقتيل والتدمير والاعتقال والتهجير، طالت ما يقرب نصف سكان سوريا، حسب تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الدولية؛ إلا أن المجتمع الدولي لم يتحرّك بالشكل المطلوب لوقف آلة العنف الدائرة، على الرغم من تكدّس ملايين الصفحات الموثِّقة لانتهاكات النظام في المراكز والمنظمات الحقوقية بمعظم الدول الأوروبية وأمريكا منذ آذار/ مارس 2011.

 

إن مرور الوقت يؤدي إلى المزيد من التأخير في بدء التحقيقات، وهذا التأخير يترتب عليه العديد من المشكلات التي تجعل من تحقيق العدالة أمر في غاية الصعوبة، نتيجة التغيرات التي قد تطرأ على مرتكبيها من جهة، وعلى الضحايا من جهة ثانية.

فالزمن من شأنه أن يؤثّر على أطباع الشخوص وذاكراتهم وعواطفهم، وكذلك الأمر على حيواتهم، لا سيما وأن نظام الأسد حريص كل الحرص على تصفية الشهود ومنفّذي أوامر الانتهاكات التي يصدرها، منها ما طالت العديد من ضباطه، وغالبيتهم من الصف الأول (مثال على ذلك ما حصل في حادثة تفجير خلية الأزمة عام 2012، وكذلك اغتيال مدير سجن صيدنايا “محمود معتوق” مطلع عام 2018 بعد انتشار تقرير “المسلخ البشري” وإعدام 13 ألف معتقل)، إضافة إلى إتلاف الوثائق والأدلة التي من شأنها أن تدينه –النظام- أمام المحاكم الدولية، ناهيك عن احتمالية رحيل أو انتقال الأشخاص المستهدفين أو وفاتهم.

 

ونتيجة الطلبات المتكررة لمجلس حقوق الإنسان الأممي -لجنة التحقيق الخاصة بسوريا- من مجلس الأمن  إحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية، وفشلها في ذلك، بسبب (الفيتو) الروسي- الصيني الداعمين لنظام الأسد؛ فإن المجتمع الدولي اليوم بأمسّ الحاجة إلى تشكيل آلية بديلة يمكن من خلالها ملاحقة الجناة وتحقيق العدالة قبل فوات الأوان.

 

إذن، ما الآليات البديلة التي يمكن اللجوء إليها بدل المحكمة الجنائية الدولية؟

بعد استبعادنا، بالمطلق، خيار اللجوء إلى تطبيق آلية محاكم القضاء السوري، كونها طرف من أطراف المشكلة وليس الحل، لارتباطها المباشر بنظام الأسد منذ 1970 وحتى اليوم؛ سنرى إن كان بالإمكان طرح آلية “محكمة دولية خاصة بسوريا”، شبيهة بتلك التي شُكّلت لمحاسبة مجرمي الحرب في “يوغسلافيا” و”رواندا” و”سيراليون”، وأيضاً في لبنان بقضية اغتيال رفيق الحريري.

 

في العموم، نجحت تلك الآلية في محاسبة مجرمي الحرب في يوغسلافيا، ونسبياً في الدول الأخرى؛ ولكن ما يجهله معظمنا أن عمل المحكمة الخاصة بيوغسلافيا مثلاً، استمر قرابة 24 عاماً، وعقدت المحكمة، خلال فترة عملها أكثر من عشرة آلاف يوم محاكمة، استمعت فيها إلى شهادات قرابة خمسة آلاف شخص، وقدمت 161 متهمًا إلى العدالة الدولية، كما حكمت على 90 شخصًا في جرائم، منها الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية؛ ليتم إنهاء عملها في نهاية عام 2017! أما في لبنان فبدأت المحكمة الخاصة عملها بعد انقضاء 4 سنوات على اغتيال الحريري، أي في عام 2009، وما زال عملها جارياً حتى اليوم دون توقيف أحد من متهميها!

بالنسبة لسوريا، طالبت أطراف دولية عدة بتشكيل محكمة خاصة بعد فشل إحالة الملف لمحكمة الجنايات، ولعل من بين أصدق المطالبات، تلك التي أطلقتها القاضية (كارلا دي بونتي)، المدعية العامة السابقة لمحكمتي يوغسلافيا ورواندا، قبل استقالتها من لجنة تقصي الحقائق حول سوريا في آب/ أغسطس 2017، والتي كان سبب استقالتها من منصبها عدم حدوث أي تغيير خلال السنوات السبع التي مرت على الصراع السوري.

 

طالبت بونتي بإنشاء “محكمة دولية” خاصة بسوريا قائلة: “سبع سنوات من الجرائم في سوريا وسط إفلات تام من العقاب، وهذا ليس مقبولا؛ كان يمكننا أن نحصل من المجتمع الدولي ومجلس الأمن على تشكيل محكمة تعنى بجميع الجرائم المرتكبة في سوريا، لم لا يمكن الحصول على محكمة؟”.

نعم، تبيّن أن ثمّة إمكانية لإنشاء محكمة دولية لمحاكمة مجرمي الحرب بسوريا، وبُدئ بالفعل بذل جهود في هذا الاتجاه من قبل مسؤولين أمريكيين وأعضاء في الكونغرس الأمريكي وخبراء في القانون الجنائي الدولي، خاصة بعد حادثة تسريب صور “قيصر” التي تجاوزت 50 ألفاً لضحايا معتقلات الأسد، قدّر عددهم بـ 11 ألف جثة هامدة من جلد وعظم!

 

ولكن، تلك المحكمة بحاجة إلى تقييم خطط خاصة بالمشهد السوري المغاير لمشاهد الدول السابقة؛ فهل هي قادرة على إجراء تحقيقات وملاحقات قضائية دون تأخير، وبشكل موثوق ومستقل ومحايد، مع الالتزام بالمعايير الدولية للمحاكمة العادلة؟

النظام السوري لا يزال خاضعاً لإجراءات محاكمة تفجير موكب الرئيس الحريري ومقتله، كونه من بين المتهمين مع حليفه حزب الله في تخطيط وتنفيذ حادثة الانفجار تلك، ومع ذلك، ورغم مرور 13 عاماً على الحادثة وما يقرب من 10 سنوات على مباشرة المحكمة الدولية عملها في لاهاي، مازال رأس النظام في سوريا وحسن نصر الله طليقين يمارسان جرائمهما بحق السوريين على أكمل وجه!

العوامل السابقة التي ذكرناها، تضعنا أمام عوائق جمة تحول بين الجحيم السوري، وتشكيل محكمة دولية خاصة به، بالإضافة إلى عوامل أخرى مهمة، كالجدوى العملية والسياسية والمالية لإنشاء تلك المحكمة، وقدرتها على الاستمرار في ظل عدم تعاون النظام السوري والدول الشريكة معها.

 

ثم، وعلى افتراض الحصول على الموافقة الأممية بتشكيل المحكمة الخاصة بسوريا، ستطفو على السطح معوقات تنفيذية أخرى تتعلق بآلية إنشائها من الصفر –إن صح التعبير-، من ناحية تحديد المقرات، واختيار القائمين عليها وضمان تعاون الدول معهم، لا سيما وأن معظم الدول التي كانت في الأمس ضد النظام السوري وانتهاكاته أضحت اليوم تتقبل خيار وجوده مقارنة بالتنظيمات “الإرهابية” التي أفرزتها تلك الانتهاكات.

 

والحال، فإن الحل الوحيد الذي من شأنه تجاوز كل تلك العقبات والعوائق، في حال تشكيل محكمة خاصة بالجرائم في سوريا مستقبلاً، هو العمل سريعاً على فتح ملف التحقيقات في سوريا من قبل المحكمة الجنائية، كونها الجهة الرسمية الوحيدة، والقائمة على رأس عملها؛ ويتم ذلك من خلال طلبها جميع التقارير التي أجرتها الهيئات والمنظمات الحقوقية حول الانتهاكات في سوريا، ودراستها بشكل منهجي وموثّق، تحضيراً للتنفيذ المباشر في مرحلة تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا؛ حينها فقط، سيتمكن المجتمع الدولي من تحقيق عاملين رئيسين: الأول، منع استمرار الانتهاكات بحق الشعب السوري؛ والثاني، تحقيق العدالة المثلى قبل فوات الأوان وفقدان الثقة بمنظمة حقوق الإنسان الأممية لدى الشعوب، لا سيما وأن السوريين المضطهدين يقيمون اليوم بين شعوب دول العالم بعد تهجيرهم القسري.

.

.