#########

آراء

مجزرة الأسد الأب في حماه 1982 دليلاً لمجازر الابن


في الأسابيع التي سبقت الربيع العربي، سُمع الأسد يقول لأقاربه: "كان أبي على حق، إن آلاف الوفيات في حماه ضمنت ثلاثة عقود من الاستقرار"

08 / شباط / فبراير / 2019


مجزرة الأسد الأب في حماه 1982 دليلاً لمجازر الابن

 

*أحمد عيشة – مع العدالة

 

في ساعات الصباح الأولى من الأربعاء 3 شباط 1982، وحوالي الثالثة صباحاً، كان أخي الذي يعمل في لبنان يطرق نافذة الغرفة التي كنت أستأجرها في أحد الأحياء الشعبية في حلب، كنت وقتها في السنة الجامعية الأولى أحضّر للامتحان الفصلي، وبعد استراحة قصيرة، ونحن نشرب الشاي، قال لي شيء ما يحدث في حماه، لقد منعوا الباصات من الدخول إلى حماه، والحواجز منتشرة قبلها وبعدها.

كثرت التأويلات، لكن لم تكن ثمة معلومات مسربة عما يجري في حماه، بعد أن قام النظام بقطع الطريق بين حلب ودمشق لأكثر من أربعين يوماً، ولم يفتحه إلا في يوم 8 آذار، حيث كان يجبر الناس في حماه وغيرها من المدن السورية على الخروج احتفالاً بالانتصارات… انتصارات الأب القائد على “أعداء التقدم والاشتراكية” على الشعب بأكمله عدا “المواطنين الشرفاء” الذين كانوا أداة ذلك الانتصار.

 

الجهة الأولى التي سربت أو تحدثت عما يحري في حماه وبإيجاز شديد، هي هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، إذ ذكرت في أحد نشراتها بعد أكثر من عشرة أيام أن الجيش السوري يرتكب مجزرة في حماه.

 

بدأت الأخبار تتسرب شيئاً فشيئاً من خلال الهاربين من جحيم الموت، الذين استطاعوا الفرار عبر البراري والبساتين إلى مدن وبلدات أخرى، ومنهم من وصل إلى حلب، حيث كان الناس يتناقلون أخبارهم بسرية وصمت في مملكة الخوف التي أسسها ويحكمها حافظ الأسد. كان الناس متعاطفين جداً مع الناجين، لكنهم خائفون، ومن كان يأوي لاجئاً حموياً، كان يتكتم على الأمر، لكن بدايات المعلومات عن المجزرة بدأت في الانتشار.

بعد شهرين، سافرتُ إلى دمشق في نيسان 1982 لزيارة مريض في مشفى المواساة، توفى بعد فترة قليلة لإصابته بمرض السرطان، كان الطريق مفتوحاً عبر المدينة، على جانبي الطريق كان الدمار، أحياء سُويت بالأرض، مدينة رمادية وسوداء من أثر الرصاص والقذائف والحرائق، لا صوت حتى لنواعيرها الحزينة، لا شيء سوى الدمار من كل الجهات، عبرنا المدينة، الجميع يلتفتون نحو بعضهم، لكن من دون كلام.

في أيار عام 1983، اُعتقلت من الغرفة نفسها، وبعدما نقلونا إلى السجن، كان بين المعتقلين شباب من حماه، كان منهم من كان يؤدي الخدمة الإلزامية ضابطاً برتبة ملازم، في الوحدات الخاصة، التي اجتاحت إلى جانب سرايا الدفاع، التابعة للقائد رفعت الأسد، كما كان يسميه جماعته (حافظ الرئيس، لكن رفعت القائد)، حيث روى الكثير عن الفظائع التي ارتكبها الجيش في حماه: لا توجد جريمة لم يرتكبوها من قتل وبقر بطون ومراهنات على معرفة نوع الجنين في بطن أمه.

 

كانت الأوامر واضحة وصارمة، لا تحتمل التأويل أو التفسير: في حماه، جماعة من عصابة الإخوان المسلمين استولت على المدينة، وقتلوا واستباحوا أهلنا، وعليكم أن تحرروهم، يجب ألا يبقى أمامكم أي شيء لا من بشر ولا من حجر، لديكم كل الصلاحيات، كلهم مجرمون، وعقاب المجرم القتل فقط.

اُستبيحت المدينة على يد عصابات البربرية الحديثة، المدفعية دكّت المدينة لأيام، الدبابات الحديثة وقتها، ت 72، والتي كانت فقط سرايا الدفاع من يمتلكها، وطائرات الكازيل الفرنسية وراجمات الصواريخ السوفيتية، كلها موجهة نحو المدينة، بعدها جحافل البرابرة إلى المدينة، المدينة المستباحة في كل تفاصيلها، أطفالها ونسائها وبناتها وأموالها، في كل شيء.

كان الفاشيون يتسابقون في قتل الناس، لدرجة أن بعض الجنود منهم، من غير الفاشيين، كانوا يبكون بصمت وحرقة، كانوا يشيحون بوجوههم عما يشاهدونه من عمليات قتل واغتصاب ونهب، حيث كان إطلاق النار على البشر فعلاً يدعو للتباهي بين البعض، مشاهد لا يحتملها إلا الفاشيون، كانت حالة تُدخلك في نوع من الجنون.

بعد سبعة وعشرين يوماً، أُخضعت الميدنة بعد تدميرها، وأما عن عدد الذين قُتلوا فيها فأمر مختلفٌ عليه، لكن التقديرات تتراوح بين (20 – 30) ألف إنسان، وهُجر منها حوالي المئة ألف.

 بعد أكثر من ثلاثين عاماً، وكما قال ميشيل دوكلو “وهو سفير فرنسي سابق في دمشق”: في الأسابيع التي سبقت الربيع العربي، سُمع الأسد يقول لأقاربه: “كان أبي على حق، إن آلاف الوفيات في حماه ضمنت ثلاثة عقود من الاستقرار”.

ويتابع القول: بالنظر إلى حمض بشار الأسد النووي DNA، كان من شبه المحتم ألا يردّ نظام الأسد على الاحتجاجات سوى بالعنف، وأن أمراً واحداً مؤكداً، هو أن بشار نتاج نظام وثقافة.

بالتأكيد فهو سليل عائلة انتهجت أساليب القمع والاعتقال ومواجهة الناس بالرصاص وتدمير المدن المتمردة، وهو ما شجّعه عليه أكثر، سيده بوتين، مستلهماً من تجربته في الشيشان الكثير: انظروا هكذا هو مصير من يتمرد من بشر وحجر.

اعتماداً على ذهنية والده التسلطية، التي لا ترى سوى في القمع والحديد والنار أسلوباً للتفاهم مع المحتجين، واجه بشار الأسد المتظاهرين والمدن التي ثارت ضده، فمن يرى اليوم أحياء حمص ودرعا وحلب والغوطة الشرقية يتذكر مدينة حماه 1982، مع فارق وحيد، أن أساليب الدمار صارت أكثر حداثة، فإضافة للأسلحة التي اُستخدمت في حماه، جرّب الروس ما أنتجوه حديثاً من صواريخ موجهة وقنابل ذكية، إذ جعلوا من سورية ومن أجساد السوريين ميداناً لتجريب أسلحتهم.

نقول لكم، لقد نجحت تجاربكم، وعرفنا قدرة أسلحتكم على القتل، ولربما تزيد من مبيعاتكم من تلك الأسلحة إلى شبيهتكم من الأنظمة الديكتاتورية، ولكنكم ستبقون كما كنتم: ساقطين أخلاقياً وفاشيين، وسيأتي يوم ما، وإن طال، ستجدون أنفسكم في المكان المخصص لأشباهكم من كل طغاة وزناة الأرض، في المزابل.

حماه 1982، ودرعا وحمص وحلب ودمشق والرقة ودير الزور وإدلب وكافة المدن التي دمرتوها ستظل لعنة تلاحقهم إلى حين إحقاق العدالة.. إلى حين إدانتكم، وستُدانون عاجلاً أم آجلاً.