#########

الضحايا

برقيّة مستعجلة من قتيل سوري ينتظر الحريّة _2_


بقيت على تلك الحال من العيش بالمجهول حتى أتى صوت تلك الطائرة المروحية لتوضح لي في أي جحيم أوصلني إليه وطني، هذا الجحيم يسمى "مطار حماه العسكري"، والذي استخدم كمركز اعتقال بعد اندلاع الحراك الثوري.

28 / أيلول / سبتمبر / 2018


برقيّة مستعجلة من قتيل سوري ينتظر الحريّة _2_

 

“سلسلة توثيقية لمراحل الاعتقال” 2

 

*فادي مطر ــ مع العدالة

 

دفعوا بي إلى جَيبِ السيارة الخلفي، وما هي إلا ثوانٍ حتى ساد سواد حسبته لحظي، ولم أعرف أنه سيمتد لشهور وسنين، لا أعرف ما هو مصيري، هل سينتهي مطاف الحلم في هذا الجيب؟ هل يمكن لحلم الوطن الحرِّ أن يأتي بكل هذا السواد؟ من هؤلاء الذين يقتادونني وإلى أين؟ ما هي تهمتي؟ هل رفع الورود في شوارع المدينة تهمة؟ وأي قانون قذرٍ ذاك الذي يحاسب عليها؟ كل ذلك يتبادر إلى ذهني وأنا في هذا الصندوق الأسود؛ بعد عشرات المطبات، والكثير من اللكمات التي فاقت قدرتي على إحصائها، توقفت رحلتي لينزلون بي  والأصفادُ تسوّرُ معصميَّ، كتلك التي كنت أراها في الأفلام، معصوب العينين كسجناء أبو غريب وغوانتانامو، وما هي إلا لحظات أتلمس فيها مكاني الجديد، والذي هو مركز تجميع المعتقلين.. “الري”، يرأسه “وريس اليونس” هذا الشخص الذي يشغل منصب قيادي في الدفاع الوطني، وهو نفس الشخص الذي كان يشغل منصب عضو في مجلس الشعب، لكن بعد اندلاع الثورة، كلف بمهمته الجديدة لقمع وإخماد الحراك الثوري في مدينة السلمية، ليمتهن فيما بعد ترهيب المدينة من خطف واعتقال وإخفاء كل من تسوِّل له نفسه الإفصاح عن موقفه المعارض لحكم الاستبداد، إلى أن تمت تصفيته من قبل النظام نفسه، بعد أن أصبح عبئاً ثقيلاً عليه، ليستلم أخوه “رجب اليونس” ذات مهمة أخيه القذرة. في اليوم التالي، تم نقلي بنفس طريقة اعتقالي من هذا المكان دون معرفة الوجهة التي يقتادونني إليها، وبعد وقت قصير، تم التوقف من جديد واقتيادي بنفس الطريقة، ولكن هنا لا يوجد ظلمة كما في المركز السابق، هذا ما قدَّرته من كمية الضوء المتسللة لعيني عبر القطعة القماشية التي تلفهما “الطماشة”، أصيخ السمع لحديث الأشخاص الذين يقودون جسدي من تحت ذراعي كدفة سفينة تمخر عباب بحر، بحرٍ مظلم ومرعب، يأتيني الحديث الذي يدور بينهم: “من هذا؟ يأتيه الجواب: هذا الإرهابي الذي كلفنا النقيب شادي بإحضاره”..شادي!!؟ لم أسمع به من قبل، أجيب نفسي.. ما هي إلا لحظات حتى كنت أجثو على ركبتيَّ أمامه، مرغماً على هذه الوضعية..

 

صمت مطبق يلفُّ المكان مما يزيد الرعب من المجهول، وبعد بضع دقائق يأتي صوت بسؤالي عن حالي: كيفك؟! أتى صوته ليعيدني لسنوات مضت، هذا الصوت أعرفه جيداً، وأستطيع تمييزه من بين جميع الأصوات، كيف لا، وهو نفس الصوت المتفاخر بأن عمَّه “منير سليمان” أحد ضباط المخابرات الجوية، وشادي سليمان هو ابن أخيه وقد أصبح ضابطاً برتبة نقيب في المخابرات الجوية أيضاً!! كنت ألتقي به فيما مضى ببقالية يتسوق بعض حوائجه وكما كل السوريين يدركون مفاخرة عناصر المخابرات بوظائفهم، ويثابرون أن يعرف المحيطون بهم بأن عملهم في هذا المجال، ويعود هذا الأسلوب إلى أيام سرايا الدفاع المشؤومة، التي كانت تتبع للمجرم رفعت الأسد شقيق حافظ الأسد، وكان المقصود ترويع وترهيب الشعب السوري، وإضفاء رعب المخابرات على سائر البشر..

 

هنا، يبدأ فصل آخر لرحلتي، التي ربما بدأت في هذه اللحظات تأخذ شكل حقيقة لم أدركها في كل تلك اللحظات التي مررت بها، معتبراً إياها حلماً ثقيل الظل، وسأصحو منه بعد قليل، لكن للأسف ها هو يتضح بأنه حقيقيٌّ جداً، يجرني لعالم الأرقام ما بين ألوف المعتقلين الذين سبقوني..

 

***

كيف حالي !

وبمَ أجيبُ شادي سليمان؟!

وهل الإنسان في هذا المكان له حال ويقبض على أمر حاله ليعرف أسارير نفسه!

لم أجب على سؤاله، واكتفيت بالصمت ملاذاً، وبقيت على هذه الحال لبعض الوقت، ولم أخرج إلا بعد أن تكرر سؤاله مرفق بشتيمه لفظية بسيطة، لكن كانت في هذا الوقت فظة بالنسبة لشخص لم يسمع بشتمه من قبل، وفيما هو آتٍ، اكتشفتُ مدى رقتها لما سمعته..

كيف حالك ياابن”…….” ويصمت بانتظار الجواب.

لا أعلم كيف حالي ولا لي علم لما أنا هنا هكذا كان جوابي.

وفي هذه اللحظة، ومع آخر حرف تم لساني بنطقه، أتتني أول لكمة في كابوس الرحلة السوداء..

 

ليسَ عليك أن ترتكبَ أي جناية حتى تعاقب عليها في سوريا، التهم جاهزة وبكل المقاييس العالمية والماركات، كل ماعليك فعله أن تحضر  إلى أحد أقبية الفروع الأمنية، وهم يتكفلون بإلباسك التهمة المناسبة، حسب المقياس المذهبي والمناطقي والطائفي، الذي يرونه مناسباً لكل شخص، وهذا ماحدث معي؛ فأنا ابن طائفة تعدُّ من الأقليات، وابن مدينة تشتهر بالوعي الفكري والعلماني، لهذا من غير المجدي اتهامي بأنني سلفي متشدد، أو أمتّ بصلة لما يسمونهم بالإسلاميين، ولهذا، وجدوا لي في بادئ الأمر تهمة التواصل مع الإرهابيين وإعطائهم معلومات مقابل المال، لأصل في نهاية فترة التحقيق إلى أخطر إرهابي أوجده التاريخ؛ (هذه السياسة التي يتبعها المحققون.. والتي تبدأ بأخذ القليل لتنتهي حسب ما يريدون).

لم أعطِ  لهم ماهم بصدده، وهنا بدأ نهج التعذيب الجسدي.

 

يداي خلف ظهري مكبلتان بحبل من ألياف، صعدوا بي أعلى كرسي خشبي وقيدوا يديّ بحبل آخر مثبتاً أعلى سقف الغرفة، وحينما تأكّدوا من شدة وثاقي، قاموا بسحب الكرسي لأبقى معلقاً من يديّ أتأرجح في الهواء؛ لن أصف الألم الجسدي لهذه الحالة، فهو أصعب من أن يوصف. بقيت على هذه الحالة والتي عرفت تسميتها فيما بعد بــ :(الشبح)، حتى فقدت الوعي؛ ولأصحو بعدها بين أشكال الأحذية التي أركل بها، وكل هذا، فقط لأقول لهم” نعم كنت على صلة بما أسميتموهم بالإرهابيين”. بنفس الوضعية ظللت لعدة أيام، وأنا أساءل نفسي: أنا الآن متهم، وألقى ما ألقاه من تعذيب، فكيف وإن أعطيتهم مرادهم؟ أسأل نفسي هذا، وهم يستخدمون أساليبهم من ترغيب بأن اعترافي هو الخلاص مما أنا فيه؛ وعندما رضخت لقولي نعم، قد كنت على صلة بالإرهابيين، وبما يرغبون به، ويعود ذلك لما أعانيه من تعذيب، ولشعوري بطول يديَّ اللتين أخذتا بالتمدد تحت تأثير الشبح، وليس الوثوق بوعودهم!

 

كفّوا عن تعذيبي، وفي اليوم التالي عُدت لأجد نفسي مقيد اليدين ومعصوب العينين داخل سيارة تنقلني إلى مجهول آخر، لا أحد يعرفه سواهم، وبعد مضي بعض وقت غير طويل، وصلنا المكان المراد وصولي إليه؛ توقفت السيارة والتي علمت بأنها سيارة “شادي سليمان” الخاصة، وذلك بعد أن تكلم إلى أحدهم وهو يقول: “هذا هو من طلبتم مني بإحضاره وقد تجاوب معنا، فلا تقسو عليه، أصلحوا له أمره لنعيده إلى منزله”.

منزله !!؟

كم الفرحة كبيرة في تلك اللحظة..

أخذت أحلامي تذهب إلى المنزل لأرى عينيَّ أمي الباكيتين تعد لحظات الغياب بالدموع ، لأمسح وجه أبي الذي يلفه قهر غيابي ،لإخوتي وضحكاتهم المتلهفة للقائي، والتي تمتزج ببعض السخرية لما أصابني وتخفيف الأمر عني.

 

كل ذلك من أحلام بدّده أحد السياط الذي كان ظهري محط نزوله.. صحوتُ من تلك الأوهام ،أي منزل وأي وضع سيتم تسويته وكيف سأعود للمنزل وأنا في هذا الجحيم؟ . تم أخذ بياناتي الثبوتية هنا، وكلما نطقت بحرف من كلمة، وقعت ببحر التأتأةِ من الخوف؛ كان لي لكمة أو أحد السياط الكثيرة هناك والمتلهفة بأن تقع على جسدي. بقيتُ على هذه الحال بالرغم من انتهاء أخذهم للبيانات، وكانت تلك تسمى بحفلة الاستقبال، هنا أخذ جسدي بالتأقلم مع بعض أنواع التعذيب، وهو الضرب المبرح ،لياتي بعد هذا أمر جديد لم يألفه سوى من سبقوني إليه، وهو الصلب على أحد الأبواب المعدنية، لا يختلف عن صلب عيسى المسيح سوى المسامير استبدلوها بربطات بلاستيكية. كل هذا ولا أعرف أين أنا، ولا ما هو الشيء الجديد المطلوب من هذه الحفلة الاستقبالية؟!

 

بقيت على تلك الحال من العيش بالمجهول حتى أتى صوت تلك الطائرة المروحية لتوضح لي في أي جحيم أوصلني إليه وطني، هذا الجحيم يسمى “مطار حماه العسكري”، والذي استخدم كمركز اعتقال بعد اندلاع الحراك الثوري.

 

بقي الأمر بي على هذه الحال مدة زمنية لا أدري عدد ساعاتها، حتى أتى شخص يكنّى بالرقم عشرة، وهذا الشخص هو أحد المعتقلين الذين أوكل إليهم تعذيب رفاقه المعتقلين، بعد تعاونه معهم، وأخذ به الأمر لأن يتقن الدور الذي كُلف به على أكمل وجه، ولم يُخلع عنه هذا الرقم في تفكيري حتى علمت باسمه الحقيقي والذي هو “محمد الضاهر” من إحدى قرى سهل الغاب، وكان سبب وجوده بأن أخذوا زوجته وأولاده من قبل، حتى سلّم نفسه، وهو الذي كان منخرطاً بالعمل العسكري في صفوف الثورة، وأبقوا عليه لما التمسوا من فائدةٍ ترجع إليهم بإخبارهم كل ماهم يرغبونه، ليصل الأمر بهم أن يقلدوه هذا المنصب، ضمن وعود  بتسوية وضعه. ألبسني هذا الجلاد المنفصم عن واقعه برقم يشابه رقمه، وقال هذا هو اسمك الجديد، حين تسمعه تلبي مناديه بالحضور. اقتادني هذا الشخص وأنا على وضعية المعتقل من تقييد وتعصيب العينين  بقطعة قماشية إلى إحدى الغرف الموجودة هناك ..

 

في نهاية الممرّ المظلم، بحالته الطبيعية دون تلك العصابة التي تلف رأسي، أدخلني تلك الغرفة، ليأتي منها صوت مزمجر يتلفظ أقبح ما أنتجه الشارع المنحل أخلاقياً من شتائمَ وألفاظٍ لاترقى بأي إنسان عاقل؛ وكل سبابه وشتائمه موجّهةٌ إليّ،  لأنني من هذه المدينة المسماة “السلمية”… ويسألني بلهجته المخابراتية: (هنتو أهل سلمية شو بدكن، بدكن السنة يحكموكن ولك راح يدبحوكن ويسبو نسوانكن). كل الفلك الذي كان يدور حديث ذاك الشخص حوله على هذا النهج !

 

بقي على هذه الحال بعض الوقت، ليهدأ بعدها ويأتي بسياسة اللين، وأخذ يشقّ الحديث لذلك بتعريفي عن نفسه:  أنا المقدم حافظ سليمان (حافظ سليمان قائد فرع التحقيق الذي يتبع لفرع المخابرات الجوية؛ هذا الفرع الذي تم من خلاله اعتقال العدد الأكبر من أبناء محافظة حماه وريفها، والذي بأمره كان يتم التعامل مع المعتقلين، منهم من تم تصفيته في هذا الفرع، ومنهم من تم تحويله إلى دمشق، ومن ثم إلى سجن صيدنايا سيئ الصيت، ومنهم من تم تحويله إلى سجون مدنية).

 

وكان لهذه السياسة الخبيثة عندهم تأثيرها على نفسية المعتقل، واللعب على أوتار العاطفة من ترغيب وإعطاء الوعود، بأن لمجرد الاعتراف، سيتم تسوية وضع المعتقل وإطلاق سراحه، والحقيقة غير ذلك، فهي كالهرّ الذي يلعق مبرد، فمجرد أن يأتي المعتقل حسب هواهم، يكون قد دقّت أولى الخطى بمسيرته المدماة.

 

أخذ المقدم حافظ باستخدام هذه السياسة والظهور بوجه المُصلح، إن كان لأمري، أو أمر رفاقي الذين هم في الخارج، ومن هم متخفٍ عن أعين المخبرين، والذي يتوجّب عليّ قول أسمائهم،  وكل ذلك، تحت اسم أنتم أبناء الوطن الذي غرر فيكم، وماعليهم سوى مدّ يد العطف ومسامحتنا، لنعود لرشدنا ونحارب مخططات العدو الصهيوني .

 

وأي عدو غررتم بنا فيه لمدة عقود!؟ والذي لم يفعل ولم يقتل ربع ماقتلتم ومافعلتم بنا، بالمقارنة لذاك العدو، وإن كان عدواً غاشماً..

فتحت أي تصنيف علينا تصنيفكم !!؟

.

.

اقرأ المزيد للكاتب:

برقيّة مستعجلة من قتيل سوري ينتظر الحريّة_ 1_

.

.