#########

الضحايا

كتاب “سجن صيدنايا خلال الثورة السورية”: شهادة أبو الفتح


عندما كنا في فرع فلسطين، قبل الثورة طبعاً، كانوا يتوقفون عن التعذيب، غالباً، إن فقد السجين الوعي، فقد كانوا يحسبون حساباً لموته بين أيديهم، أو ربما يكون ذلك تنفيذاً لأوامر رئيس الفرع.

04 / آب / أغسطس / 2020


كتاب “سجن صيدنايا خلال الثورة السورية”: شهادة أبو الفتح

*المصدر: رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا 

في الشهر الخامس من عام 2011 وصلنا إلى المبنى الأبيض بسجن صيدنايا. كنا سبعةً قادمين من فرع فلسطين التابع للأمن العسكري. أدخلنا عناصر الشرطة العسكرية إلى غرفة وأمرونا أن نخلع ثيابنا بغرض التفتيش، وأوعزوا لنا أن نخلعها كلها. رفضنا ذلك. بقي بعضنا بملابسه الداخلية واحتفظ بعضنا بالبنطال. كان هذا مفاجئاً لهم، فقد كان توافد الضباط المتهمين بالانشقاق قد بدأ منذ مدة وكان السجانون يعاملونهم بشكل سيئ جداً. تلاسنّا معهم فاتصل الضابط بمدير السجن. أخذوا وقتاً كي يعتادوا على ردودنا عليهم ويعرفوا أننا سجناء قدامى من أبناء الدعاوى الإسلامية.

 

عزلونا في قسم خاص، في آخر غرفة على جهة اليسار من المبنى الأبيض، بجانب غرفة المشرفين على المهاجع. كان لغرفتنا شباك يطل على الجبال القريبة، فاعتدنا مشهد راعٍ بعيد يأتي بقطيعه كل يوم وصرنا ننتظره لنشعر بالأنس. تحسنت نفسياتنا عما كانت في الأفرع الأمنية. صارت معاملة السجانين لنا جيدة ومختلفة تماماً عن المهاجع المجاورة لنا، حتى أننا فوجئنا بدرجة سوء المعاملة التي كان الضباط المنشقون يتعرضون لها، فقد كانوا يُعاقَبون في الممر أمام مهجعنا وكنا نسمع الأصوات، كما كنا نستطيع رؤيتهم من شبك أسفل الباب. كان السجانون يسألون العسكريين المعتقلين عن رتبهم ومدنهم، ويتهمونهم بخيانة الوطن الذي “أكلوا من خيره”. كان بوسع أي مجند توجيه هذه الاتهامات والإهانات لأي ضابط حتى لو كان برتبة معتبرة.



أذكر أننا، في أحد الأيام، سمعنا جلبة كبيرة وأصوات صياح. كان السجانون يفتشون المهاجع الواحد تلو الآخر، وأثناء ذلك كانوا يخرجون النزلاء ويعاقبونهم عقاباً شديداً. نحن انهرنا بصراحة، لكنهم لم يقتربوا من مهجعنا. منذ قليل فقط كان أحدهم عندنا، ربما كان ضابطاً، وقال إننا سنُنقل إلى سجن آخر حيث سنلتقي بأبناء دعوتنا وسنتلقى معاملة جيدة وسنُعرَض على محاكم. كان التعذيب الذي رأيناه وسمعناه مما تعرضوا له أشد من كل ما تعرضنا له نحن أو رأيناه أو سمعناه في الأفرع الأمنية. نحن متأكدون من أن بعضهم قد مات تحت الضرب غير الطبيعي بعصيّ الحديد والخشب على أي مكان من أجسادهم بما فيها الرأس. حصلت حفلة تعذيب كهذه أكثر من مرة أثناء وجودنا، وفي كل مرة كان عناصر الشرطة العسكرية يمسحون بقع الدم والقيح عن أرض الممر بعد انتهاء الجولة.


عندما كنا في فرع فلسطين، قبل الثورة طبعاً، كانوا يتوقفون عن التعذيب، غالباً، إن فقد السجين الوعي، فقد كانوا يحسبون حساباً لموته بين أيديهم، أو ربما يكون ذلك تنفيذاً لأوامر رئيس الفرع. أما هنا فكانوا يضربون المنشقين على رؤوسهم بالعصيّ المعدنية، وعندما يهوي الضحية ساكناً كانوا يتابعون الضرب. لم يكن ذلك ضرباً، بل إعداماً عن طريق الضرب.


طالبنا بوصول الجرائد كي نعرف ما يجري في الدنيا فاستجابوا لنا. أحضروا لنا جرائد متراكمة لشهرين فائتين، أي منذ بداية الثورة. كنا نعرف كيف يفبرك النظام الأخبار ولذلك كنا قادرين على استنتاج القصة الأصلية من ركام الرواية الموجّهة التي نشرتها هذه الجرائد الرسمية التي لم يكن الحصول على غيرها ممكناً. فمثلاً إن كتبت الصحيفة أن السلطات شنت حملة اعتقالات ضد “مجموعات إرهابية” في بانياس كنا نستنتج وجود حراك ثوري في هذه المدينة، وهكذا.

معاملتهم لنا كانت جيدة. وكانوا يشترون لنا “ندوات خارجية”، وهي أن تطلب ما تريد شراءه من الخارج وتدفع ثمنه مما لديك من نقود في “الأمانات”. في كل مدة كان يزورنا ضابط، ربما كان برتبة ملازم، فيسألنا عما نحتاج ويتودد لنا.

 

كنا نريد الالتقاء بأبناء دعوتنا الموجودين في المبنى الأحمر فطلبنا التحويل إلى هناك، لكن السجانين أبلغونا أن ننتظر حتى نُعرّض على المحكمة. وبالفعل، بعد حوالي أسبوعين من وصولنا حولونا إلى محكمة عسكرية عُقدت داخل المبنى الأحمر. هناك التقينا بأبناء دعوتنا الذين كانوا مرتاحين جداً لا يأبهون حتى لتعليمات مدير السجن طلعت محفوض. ولما رأونا مقتادين، مكلبشين مطمشين، هاجوا وطالبوا رئيس المحكمة بنقلنا إليهم. وفعلاً، في صباح اليوم التالي نقلونا إلى المبنى الأحمر فالتقينا محفوض الذي كان متعجرفاً جداً، لكنه يحتفظ للسجناء القدامى بمكانة، فنبهنا إلى عدم إثارة المتاعب وقال: “أنتو بحالكن ونحن بحالنا”.

 

أقمنا ثلاثة أيام فقط في قسم السجناء السياسيين في المبنى الأحمر، قبل أن يبدأ، في مطلع حزيران، الإفراج عن البعض وتحويل آخرين إلى السجون المدنية في محافظاتهم، أما أنا فحولوني إلى سجن دمشق المركزي (عدرا).