#########

أبحاث

الأمن الغذائي و النزاع في سوريا


تعد سياسة الحصار الأخطر حيث تم تجويع السكان من خلال “العقوبات الجماعية” ضدهم بغرض الخضوع

05 / تموز / يوليو / 2019


الأمن الغذائي و النزاع في سوريا

 

المصدر: المركز السوري لبحوث السياسات

 


يهدف البحث لتحليل الاقتصاد السياسي للأمن الغذائي في سوريا قبل النزاع ودور السياسات العامة في توفير واستخدام واستدامة الغذاء. كما يقدم دليلاً لقياس حالة الأمن الغذائي أثناء النزاع، بناء على مسح حالة السكان، لتقييم أثر النزاع على المستويين الوطني والمحلي . و يدرس البحث المحددات الديمغرافية والاجتماعية والاقتصادية والمؤسساتية للأمن الغذائي خلال النزاع ويقدم اقتراحات لخيارات السياسات التي يمكن أن تسهم في مواجهة تدهور حالة الأمن الغذائي.

بالرغم من تراجع حدة العنف المسلح مؤخراً في بديات 2019، إلا أن مقومات العنف مستمرة مع تراكم الخسائر البشرية والمادية والمؤسسية وتفاقم الظلم والاحتياجات الإنسانية. لقد حول النزاع سوريا إلى بلد يعاني سكانه من أزمة غذائية حادة في مجالات التوفر والنفاذ والاستخدام والاستدامة وعدالة التوزيع.

يعد انتهاك حق الإنسان في الغذاء أحد الجوانب المظلمة للنزاع، فقد استخدم حرمان الناس من الغذاء بشكل ممنهج كأداة من أدوات الحرب من قبل القوى المتنازعة. فالحق في الغذاء، بالإضافة لكونه حاجة أساسية من حاجات الإنسان، فهو أساس لحفظ مقومات الحياة الكريمة. حيث تنص شرعة حقوق الإنسان على أن حق الإنسان بالغذاء الكافي والصحي التزام يجب توفيره للمواطنين كافة، وأقرت الشرعة بأهمية توفر البيئة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الملائمة كأساس جوهري لتوفير الأمن الغذائي والحد من الفقر والحرمان

شكل النزاع كارثة للأمن الغذائي حيث تراجع دليل الأمن الغذائي بشكل حاد بحوالي 40% بين عامي 2010 و2018. وسجل التدهور الأكثر حدة في مكون الحصول على الغذاء بحوالي 46%، متأثراً بحالات الحصار والتهجير القسري والقيود على الانتقال وتراجع القدرة الشرائية ومصادر الدخل. كما تراجعت كل من مكوني الإنتاج والاستخدام بحوالي 38% ومكون الاستدامة بحوالي 36% خلال نفس الفترة. وبالرغم من تحسن مكون النفاذ للغذاء بشكل طفيف بحوالي 3% مع تراجع حالات الحصار وحدة العمليات العسكرية في العام 2018، لكن مكونات الوفرة والاستقرار والاستخدام استمرت في التراجع.

لقد استخدم حرمان الناس من الغذاء بشكل ممنهج كأداة من أدوات الحرب من قبل القوى المتنازعة. وأظهرت النتائج تفاوتاً كبيراً بين المناطق حيث أن المحافظات الأكثر تدهوراً في دليل الأمن الغذائي كانت كل من الحسكة والرقة وحلب والقنيطرة ودير الزور وإدلب التي تراجعت بمعدلات أكبر من المعدل الوطني.

بالرغم من تراجع حدة العنف المسلح مؤخراً، إلا أن مقومات العنف مستمرة مع تراكم الخسائر البشرية والمادية والمؤسسية وتفاقم الظلم والاحتياجات الإنسانية. لقد حول النزاع سوريا إلى بلد يعاني سكانه من أزمة غذائية حادة في مجالات التوفر والنفاذ والاستخدام والاستدامة وعدالة التوزيع.

تدهور الناتج المحلي الزراعي في سوريا إلى النصف عام 2018 مقارنة بالعام 2010. وبالرغم من تراجع حدة القتال في 2018 إلا أنها شهدت تدهوراً في الإنتاج الزراعي وخاصة للمحاصيل غير المروية التي تعتمد على الأمطار نتيجة الظروف المناخية غير الملائمة. وبالرغم من التدهور الحاد في الإنتاج الزراعي فقد لعب القطاع دور شبكة الحماية الاقتصادية خلال النزاع حيث وفر فرصاً للعمل ومصادراً للغذاء وسط ظروف النزاع المأساوية.

أدى النزاع إلى تدمير هائل ومتفاوت لمقومات الإنتاج البشرية والمؤسسية والمادية والبيئية، فمن ناحية القوة البشرية قتل مئات الآلاف وجرح الملايين وتعرض حوالي نصف السكان للتهجير القسري، وتراجعت العمالة الزراعية إلى حوالي النصف بين 2010 و2018 وخسر القطاع الكثير من الكوادر المؤهلة. من الناحية المؤسسية تشكلت عدة منظومات حددت السياسات الزراعية بحسب القوى المسيطرة عسكرياً خلال النزاع، واشتركت “الأنظمة” الزراعية المختلفة في محورية النزاع، وتحويل الموارد الزراعية والغذائية لصالح تفوق القوى المسيطرة، واستباحة الحق في الحماية والغذاء والملكية، واستهدف كل طرف تدمير مقومات الأمن الغذائي “للآخر” وتخصيص الموارد بما فيها الموارد الغذائية للداعمين. أدى النزاع لتدمير كبير في الثروة المادية الزراعية بما فيها الموارد الطبيعية والبنية التحتية والتجهيزات والمعدات والثروة الحيوانية من خلال الاستهداف المباشر بالقصف والنهب والتخريب أو غير المباشر من خلال التعديات على الأراضي والغابات أو ندرة مستلزمات الإنتاج وارتفاع تكاليفها كالطاقة والأسمدة.

تعد سياسة الحصار الأخطر حيث تم تجويع السكان من خلال “العقوبات الجماعية” ضدهم بغرض الخضوع. وتعرض حوالي 2.5 مليون شخص للحصار منذ عام 2015 لغاية عام 2018 ووصلت ذروتها في 2017 حيث خضع حوالي 970 ألف شخص للحصار في وقت واحد، في الغوطة ودير الزور وحلب والرستن وغيرها.

ساهمت المبادرات المحلية والدولية الإنسانية في توفير المساعدات الغذائية إلا أنها كانت أقل بكثير من الاحتياج المطلوب، كما أنها تأثرت إلى حد كبير بسياسات قوى النزاع التي أثرت في توجيه جزء من هذه الموارد في خدمة اقتصاديات العنف، كما أنها بالغت بالتركيز على الجانب الإغاثي على حساب التنموي.

استمرت التكاليف المعيشية بالازدياد في ظل تراجع مصادر الدخل وانخفاض الأجور وتراجع فرص العمل. وأظهرت ارتفاعاً حاداً في مؤشر أسعار المستهلك والذي وصل في بعض السلع الأساسية إلى أكثر من عشرة أضعاف مستوياته قبل النزاع. وساهمت سياسات تقليص دعم السلع الرئيسية مثل المشتقات النفطية والكهرباء وانخفاض القدرة الشرائية لليرة السورية في قفزات كبيرة في الأسعار. ارتفعت معدلات الفقر والحرمان إلى مستويات خطيرة وصلت إلى 93.7% في نهاية عام 2017 بالاستناد إلى خط الفقر الكلي للأسرة الواحدة بينما بلغ الفقر المدقع إلى 59.1% في نفس العام.

بينت نتائج البحث التدهور الكبير في جودة المواد الغذائية المتوفرة، والخلل الواضح في التركيب الغذائي أثناء النزاع حيث ارتفعت نسب الاعتماد على الحبوب على حساب اللحوم والألبان والخضراوات. ويظهر ذلك من خلال تراجع مؤشرات التغذية للأطفال خلال النزاع خاصة في المناطق التي عانت من القتال الكثيف أو الحصار.  كما تشير النتائج إلى تدهور مكون الاستقرار نتيجة زيادة الاعتماد على الاستيراد والمساعدات وتردي الظروف المعيشية ومصادر الدخل للأفراد بالإضافة إلى التدهور البيئي.

تبين النتائج أن المحدد الأكثر أهمية للأمن الغذائي هو الأداء المؤسساتي، فالاستبداد والإقصاء والتهميش والتمييز بين السكان واستخدام العنف المسلح يسقط الحق في الغذاء ويؤدي إلى تدهور مقومات السيادة الغذائية. كما يرتبط رأس المال الاجتماعي بالأمن الغذائي مما يدل على أهمية عوامل الثقة والتضامن والتعاون والتطوع في التخفيف من حدة أزمة الأمن الغذائي للسوريين خلال النزاع. لقد ساهم تصدع العلاقات الاجتماعية من خلال الاستقطاب وانتشار ثقافة العنف والكراهية والتمييز ورفض الآخر وتسييس الهوية في تدهور حالة الأمن الغذائي. وأظهرت النتائج علاقة سلبية بين انتشار الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالعنف ودليل الأمن الغذائي، حيث ارتبط الانخراط في الأعمال غير القانونية مع تدهور الأمن الغذائي، وهي قضية هامة في تغيير هيكلية العلاقات والسلطة والثروة في المجتمع حيث تم استغلال تفقير المجتمع وتدمير مقومات العيش من قبل القوى المسيطرة وبالمقابل قدمت حوافز للانخراط في العنف والولاء لها.

إن الأولوية القصوى هي وقف العنف وتفكيك المؤسسات المتسلطة لبناء مؤسسات تشاركية وكفؤة ومساءلة وتعمل على معالجة مظلوميات النزاع وتؤسس لاحترام للحقوق وتضمن الأمن الإنساني. بالإضافة إلى بناء الاقتصاد المنتج في مواجهة اقتصاديات العنف، والتركيز على تحفيز الريف والإنتاج الزراعي. والعمل على المصالحة المجتمعية والاستثمار في بناء الثقة والتضامن بين الأفراد كجزء أساسي من معالجة مسببات الحرمان الغذائي.


pdf

المادة من المصدر