#########

الجرائم

مجزرة في حي التضامن: كيف قام أكاديميان بمطاردة مجرم حرب سوري


تعلمت الأجهزة الأمنية السورية جيداً فن الترهيب، حيث تم تدريب عناصرها من قبل ضباط سوفييت، وضباط أمن دولة في حقبة الستينيات من القرن الماضي. في كثير من الأحيان، لم يكن ولاء أولئك الذين يتم اعتقالهم عند نقاط التفتيش والحواجز ينتج عنه عواقب فادحة؛ كان الخوف هو أكثر وسائل النظام فتكاً للتشبث بالسلطة.

28 / نيسان / أبريل / 2022


مجزرة في حي التضامن: كيف قام أكاديميان بمطاردة مجرم حرب سوري

*ترجمة: مع العدالة | المصدر: صحيفة الغارديان

قبل ثلاث سنوات، تم تسليم مجند جديد في ميليشيا سورية موالية لنظام الأسد، جهاز كمبيوتر محمول، تعود ملكيته إلى أحد الأفرع  الأمنية الأكثر رعباً ووحشية في سوريا. فقام المجند بفتح “ملف فيديو” داخل الجهاز، حيث تعتبر هذه الخطوة ذات عواقب وخيمة، إذا ما تم ضبطه وهو يقوم بمشاهدة محتوى الجهاز.

كان محتوى الفيديو متقطعاً، والمشاهد غير واضحة في البداية، إلى أن ركّز الجندي الشاب نظره على حفرة قد حفرت حديثاً، تقع وسط بنائين شبه متهالكين بفعل القذائف والرصاص. حيث شاهد ضابضاً يقفُ بالقرب من حافة الحفرة، مرتدياً زياً عسكرياً ومعتمراً قبعة صيد، ويقوم بالتلويح ببندقية يحملها مع التهديد والصراخ.

تجمد الجنديُ من الخوف، عندما ظهرت له مشاهد قاسية: كان يظهر في الفيديو رجلٌ معصوب العينين يقتاده شخصٌ من مرفقه وطلب منه الركض نحو الحفرة الكبيرة، التي لم يكن يعرف أنها تقع أمامه مباشرةً. كما أن الضحية، لم يتوقع وابلاً من الرصاص، وصليات اخترقت جسده، ليستقر في الحفرة، على كومة من الرجال القتلى تحته. عقب ذلك، واحداً تلو الآخر، تبع الرجل معتقلون آخرون؛ قيل لبعضهم إنهم سوف يهربون من قناص يتمركز قريباً في الحي.. كما تعرض آخرون للسخرية والإساءة في اللحظات الأخيرة من حياتهم. بدا أن الكثيرين يعتقدون أن القتلة كانوا يقودونهم بطريقة ما إلى بر الأمان.


“مسلح يعتمر قبعة صيد في لقطة من الفيديو. الصورة: فيديو الغارديان”

بعد أن تمت عملية التصفية، كان ما لا يقل عن 41 رجلاً لقوا حتفهم في المقبرة الجماعية في حي التضامن بدمشق، الذي تحول إلى جبهة قتال آنذاك بين قوات الأسد  والمعارضة الذين اصطفوا ضده. إلى جانب أكوام من الأتربة المتراكمة التي ستستخدم لاحقاً لإنهاء المهمة. سكب القتلة الوقود على الجثث وأشعلوها، ضاحكين وهم يطمسون حرفياً معالم جريمة حرب على بعد عدة أميال فقط من مقر الرئاسة في سوريا. وعن تاريخ الفيديو كان يظهر في 16 نيسان 2013.



استولت على المجند دهشة وغثيان منعاه من الحراك، لكنه اتخذ قراراً فورياً أن هذه المجزرة في الفيديو، والمشاهد الإجرامية، يجب عرضها في مكان آخر. وقد قاده هذا القرار، بعد ثلاث سنوات، في رحلة محفوفة بالمخاطر، تعتبر واحدة من أحلك لحظات تاريخ سوريا الحديث إلى الأمان النسبي في أوروبا. التقى هناك بشخصيتين أكاديميتين كانتا تمضيان سنوات في محاولة الوصول إليه حيث هو – المصدر الرئيسي في تحقيق استثنائي – ومن جهة أخرى ومهمة، هي سعيهما إلى تحديد الرجل الذي ارتكب أو أدار تلك المجزرة، لإقناعه بالاعتراف بالدور الذي قام فيه.


“الصورة: من فيديو الغارديان”

إنها قصة جريمة حرب، تم تصويرها أثناء ارتكابها، من قبل أحد أشهر منفذي النظام السوري، الفرع 227 من جهاز المخابرات العسكرية في سوريا، والتي تفصّل أيضاً الجهود المضنية لقلب الطاولة على مرتكبيها – بما في ذلك كيف خدع باحثان في أمستردام أحد أكثر ضباط الأمن شهرة في سوريا من خلال إرضائه، و”إشباع غروره” عبر الإنترنت، ليقوم بالتحدث، ونشر أسرار الحرب الوحشية التي شنّها الأسد وحلفاؤه ضد السوريين.

سلّط عملهما ضوءاً غير مسبوق على الجرائم التي كان يعتقد سابقاً أنها ارتكبت على نطاق واسع من قبل النظام في ذروة الحرب السورية، لكنه نفى ذلك لاحقاً، أو ألقى باللوم على الثوار والجماعات المسحلة والجهاديين.


“الصورة: من فيديو الغارديان”

بعد تسع سنوات، ومع احتدام الحرب في أوكرانيا، يقوم الروس بإعادة تفعيل قواعد إرهاب الدولة على السكان المدنيين، التي سبق أن تدربت عليها، ومارستها في سوريا، حيث تتحول ما يسمى بالعملية العسكرية الخاصة لفلاديمير بوتين إلى احتلال وحشي لأجزاء من شرق البلاد. وكانت وحدات الاستخبارات العسكرية هناك في الطليعة، لتقوم بالعمليات الوحشية، وغرس الخوف في المجتمعات من خلال الاعتقالات الجماعية والقتل، على غرار ما قام به الأسد في محاولات دموية للتمسك وتعزيز سلطته.

“الصورة: من فيديو الغارديان”

تعلمت الأجهزة الأمنية السورية جيداً فن الترهيب، حيث تم تدريب عناصرها من قبل ضباط سوفييت، وضباط أمن دولة في حقبة الستينيات من القرن الماضي. في كثير من الأحيان، لم يكن ولاء أولئك الذين يتم اعتقالهم عند نقاط التفتيش والحواجز ينتج عنه عواقب فادحة؛ كان الخوف هو أكثر وسائل النظام فتكاً للتشبث بالسلطة، حيث استخدم كل الوسائل المتاحة لغرس الخوف في قلوب السوريين. في هذه الحالة، لم يكن الضحايا معارضون، بل من المدنيين الحياديين، الذين ارتأوا وقبلوا على مضض حماية الأسد.

  • لقد عرف وأيقن أغلب أهل حي التضامن، على نطاق واسع، أن قتلهم عبارة عن رسالة واضحة مفادها: “لا تفكر حتى في معارضتنا.”

عقب تسريب فيديو، أولاً إلى ناشط معارض في فرنسا، ثم إلى الباحثين، “أنصار شحود” والبروفيسور “أوغور أوميت أونغور” من مركز المحرقة والإبادة الجماعية في جامعة أمستردام، تحتّم على المصدر أن يهزم خوفه، من الاعتقال، وربما القتل، أو التضييق ونبذه من عائلته – التي تنتمي إلى الطائفة العلوية المنحدر منها الأسد– إضافة إلى أقارب له بارزين في مناصب عليا محصورة بما تبقى من سلطة الأسد في سوريا.

لكنه في نهاية المطاف، أيقن أن مئات من الناس في جميع أنحاء العالم يعملون على تقديم الأسد إلى العدالة عن جرائم الحرب التي ارتكبها، وعليه، سيكون هذا الفيديو دليلاً قاطعاً وبارزاً في القضايا التي سوف ترفع ضد بشار الأسد.

لكن أولاً، احتاج الباحثان أنصار وأوغور إلى العثور على الرجل الذي يعتمر قبعة الصيد، فقاما باللجوء إلى “الرجل” الوحيد الذي اعتقدا أنه يمكن أن يساعدهما، وهو: “ضابط الأمن الذي خدعاه أو تم أغراؤه عبر الإنترنت“.


“البروفيسور أوغور أوميت أونغور. تصوير: أليكس أتاك”

“آنا .. ش”

كانت السيدة “أنصار” من أشرس منتقدي “الأسد” منذ اندلاع الثورة السورية؛ حيث كانت وأسرتها، وأقاربها، في مجتمع احتفظ إلى حد كبير بعلاقات جيدة مع “آل الأسد”، لكن الصراع والانهيار الاقتصادي الذي أعقب ذلك أدى إلى توتر التحالفات ووجدت أنصار نفسها مصممة بشكل متزايد على محاسبة الأسد، بغض النظر عن الثمن الشخصي التي ستدفعه هي وعائلتها.

انتقلت إلى بيروت في عام 2013 ثم إلى أمستردام بعد ذلك، بعامين، التقت بـ البروفيسور أوغور”، في عام 2016، حينذاك، شارك كلاهما في حملة لتوثيق ما اعتقدا أنه إبادة جماعية ترتكب في سوريا.

كان تجميع قصص الناجين وعائلاتهم معاً إحدى الطرق للقيام بذلك. منها، التحدث إلى الجناة أنفسهم. ورغم ذلك، كان اختراق النظام السوري يعتبر مهمة مستحيلة تقريباً. لكن أنصار كانت لديها خطة: قررت أن تلجأ إلى “الإنترنت”، وتجد طريقها إلى الصندوق الداخلي لمسؤولي الأمن في النظام، من خلال التظاهر بأنها معجبة ببطولاتهم، وتتبنى قضيتهم بالكامل.


حساب “آنا” (أنصاف) على الفيس بوك

يقول البروفيسور أوغور وهو يجلس في غرفة الرسم الخشبية، داخل مركز “الهولوكست” والإبادة الجماعية: “نظام الأسد من الصعب جداً دراسته، وهذه مشكلة بحد ذاتها. فليس باستطاعتكَ أن تسافرَ إلى دمشق، فاتحاً ذراعيكَ وتقول إنك عالم اجتماع من أمستردام يريد طرح بعض الأسئلة!… ولأجل ذلك؛ لقد توصلنا إلى نتيجة مفادها أننا في الواقع نحتاج إلى شخص يقوم بدور فعّال، ويجب أن تكون امرأة علوية شابة.” 

برهنت أنصار أن الجواسيس والضباط العسكريين التابعين لنظام الأسد في سوريا يميلون إلى استخدام “الفيسبوك”، وعلى الرغم من حياتهم العملية السرية، إلا أنهم لا يعمدون إلى جعل إعدادات صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي خاصة، لذلك قررت إنشاء صفحة باسم مستعار، وهو “آنا ش“، وطلبت من “صديق مصور” أن يلتقط لها صورة جذابة ومغرية لوجهها، ثم نشرت في صفحتها الرئيسية منشوراً يدعم الأسد وعائلتهِ في محاولة لتجنيد الأصدقاء.

ليلاً ونهاراً على مدى عامين مقبلين، وهي تتصفح في “الفيسبوك”، تبحث عن شخصيات مشتبه بها، إلى أن عثرت على أحد الأشخاص في الفيس بوك، فأخبرته بأنها باحثة تدرس النظام السوري من أجل أطروحتها. نهاية الأمر، ومع البروفيسور أوغور، قاما بتأليف “قصص” وإحداث ثغرات ونقاط ساعدت في الحوار، ووضع منهج معيّن. سرعان ما أصبحت “آنا ش” معروفة بين أجهزة الأمن كشخصية متفهمة، ومتعاطفة بشكل واضح. 

قالت أنصار:” لقد كانوا بحاجة إلى التحدث إلى أي شخص ما، وكانوا بحاجة إلى الحديث عن تجاربهم”. “شاركناهم بعض القصص، واستمعنا إلى قصصهم، ولم نركز على جرائمهم.”

وتعقيباً على ذلك، قال أوغور: “بعض هؤلاء الناس تعلقوا بآنا.. وبعضهم بدأ يتصل بها في منتصف الليل.”

“الصورة: من فيديو الغارديان”

على مدى العامين التاليين، عاشت أنصار واستراحت، أمام شخصيتها الجديدة. وفي بعض الأحيان كانت تتراجع عما أصبحت عليه – شخص دخل في أذهان الضحايا، ويمكنه في بعض الأحيان فهمها على المستوى البشري الصرف الذي تجاوز حدود أبحاثها.

لكن العودة إلى الواقع كانت مفاجئة عادة. كان العديد من أولئك الذين تحدثت إليهم أعضاء نشطين ومتورطين في آلة القتل، وكان آخرون مستعدين للقتل ولارتكاب جرائم ضمن العصابة التي مكنتهم، أو انتسبوا إليها.

هذه التجربة، التي دخلت فيها، دهورت صحتها، كما أثرت على حياتها الاجتماعية وسلامتها العقلية. لكن، كانت الجائزة تستحق كل هذا العناء. إذا تمكنت من العثور على المسلح في الفيديو، فيمكنها أن تبدأ في تحقيق العدالة لعائلات من قتلهم. وربما، بوسعها أن تبدأ أو تكمل بما قام به عدد قليل من السوريين في الصراع الذي دام عقداً من الزمن: بدء عملية تدين وتربط بشكل قاطع “الدولة السورية” ببعض أسوأ الفظائع والجرائم خلال الحرب.

في آذار 2021، تم الاختراق أخيراً. في ذلك الوقت، وصل متابعو “آنا ش” إلى أكثر من 500 شخصية من أكثر المسؤولين المخلصين في النظام. من بين صور أصدقائها، برز وجه دائري فيه ندبة لشخص أطلق على نفسه اسم “أمجد يوسف“، وكان يشبه إلى حد كبير المسلح الذي يعتمر قبعة الصيد في الفيديو، التي أنهكت نفسها في البحث عنه. بعد ذلك بوقت قصير، تلقت أنصار، أو آنا ش- حتى الآن أصبح من الصعب التمييز بين الاثنين-تأكيداً من مصدر داخل التضامن بأن القاتل كان رائداً في الفرع 227 من جهاز المخابرات العسكرية السورية.

فقالت:” كان الخبر لا يوصف”. “هنا الشخص الذي لديه مفتاح كل شيء. والآن أنا بحاجة لجعله يتحدث.”

تتذكر أنصار جيداً اللحظة التي نقرت فيها إرسال طلب الصداقة على فيس بوك، والإثارة التي شعرت بها عندما قبلت “ضحيتها” الدعوة. بعد كل هذا الوقت، كانت المكالمة الأولى عابرة؛ كان أمجد يشك فيها، وأنهى المكالمة بسرعة. لكن شيئاً ما في تلك المحادثة الأولية أثار فضوله. أصبح الصياد هو المطارد. هل كان من التشويق والتحدث إلى امرأة غريبة، الحاجة لاستجواب شخص تجرأ على الاقتراب منه، أو أي شيء آخر؟ لذلك، وعلى أية حال، عندما اتصل أمجد اتصالاً عن طريق الفيديو بعد ثلاثة أشهر، استجابت أنصار، مع الضغط على “زر” التسجيل، باسم “آنا”.

بعد كل هذه السنوات، استطاعت “أنصاف-آنا” إيقاع أمجد في الفخ، حيث إنه كان حذراً وصارماً في البداية، إلى حد كبير، في شخصيته كجاسوس، يسيطر على جميع محادثاته. كان ينطق بكلمات قليلة، وعندما يتحدث، يتمتم، مما يدفع مستمعه إلى الإنصات بحذر. أما “آنا” فعلت كل ما في وسعها لتجريد أمجد من أسلحته النفسية، وأساليبه، حيث بدأ يبتسم، بخجل، ويضحك معها، فضلاً عن طرحه لأسئلة عديدة، وكانت آنا وقتها تستسلم لشروطه وطلباته.

ثم طرحت سؤالاً عليه، غيّر نبرة المحادثة بأكملها: “كيف كان شعورك أن تجوع، وأيضاً تكون محروماً من النوم، وتقاتل،- وتخاف على والديك وعلى شعبك. إنها مسؤولية ضخمة – لقد تحملت الكثير على عاتقك “.

جلس أمجد على كرسيه، وكأنه يقر بأن شخصاً ما قد فهم العبء أخيراً. منذ ذلك الحين، كان هو في مقعد الاستجواب. المحادثة لم تعد له. حصلت آنا على إجابة لكل رد من ردوده؛ لقد أصبحت له معالجاً نفسياً، و”مرآة لأفكاره”، وامرأة موثوق بها يمكنها التعرف على عقله دون إصدار حكم عليه.


قالت أنصار: “لا أنفي بأنني كنت أشعر بالحماس وأنا أتحدث إليه؛ لأجل ذلك، كنت أبتسم، فأنا سعيدة بالحديث إليه. هكذا، حتى نعرف قصصهم وتجاربهم، علينا أن نخبرهم ونقنعهم بأننا باحثون فقط، عقبها، سيفتحون لنا قلوبهم؛ هذا لم يكن عبر مقابلة واحدة، بل بعد أربع سنوات من التستر والتخفي، تعلمت عبرها، تدريجياً كيف يكون باستطاعتي فصل نفسي عن تلك الشخصية التي كانت “معجبة” بالفعل بما يقومون به، وهذا صار شيئاً قاسياً علي، وبالأخص، حينما أغلق الكمبيوتر المحمول، أشعر بأني قمت بمهمة كبيرة، ولها إيقاع شديد، إنما هي ضرورية للغاية؛ لكنني كنت أرغب في التعرف إليه كإنسان”.

.. نعم، قتلت كثيراً

أمجد كان أكثر استرخاءً، بشكل أكبر هذه المرة- أي في المقابلة الثانية؛ كان يرتدي قميصاً داخلياً، وإلى جانبه على الطاولة زجاجة مشروب (كحول)، وأخذ يدخن بطريقة شرهة، معتبراً أن الجولة الآن لصالحه، وأخذ يطرح أسئلة غير مباشرة على “آنا”، التي انتهزت الفرصة، وسألته عن شقيقه، وقتها، بدأ القاتل، الذي يخشى منه الجميع بالبكاء، فما كان من آنا إلا أن تواسيه، أو تلعب دور الطبيبة النفسية، حتى أخبرها بأن عليه البقاء في الجيش بالرغم من احتمال أن تفجع والدته بفقدان ابن آخر.. مضيفاً بعد هذا ” لقد فعلت ما يجب علي فعله”، ليأتي بعد ذلك أول اعتراف له حينما قال” لقد قتلتُ كثيراً .. نعم، وأخذتُ بثأري”.

عندما أدرك أمجد خطورة ما اعترف به، قطع المحادثة، وأنهى المكالمة. وكان من الصعب العثور عليه، أو التواصل معه خلال الأشهر القليلة التالية، حيث كان يرد فقط على الدردشات، ويسأل عن موعد عودة آنا إلى سوريا.
كما لو أن أمجد أدرك خطورة اللحظة ، أغلق المحادثة وأنهى المكالمة. خلال الأشهر القليلة التالية ، كان من الصعب العثور عليه ، حيث كان يرد فقط على الدردشات ويسأل عن موعد عودة آنا إلى سوريا. من كانت هذه المرأة التي سيطرت عليه، أو تمكنت من قلبه؟ ومتى سيحصل على فرصة لاستجوابها على أرضه وبشروطه؟

بدأ أمجد في لعب دور العاشق الغيور، وسأل آنا هي حياتها، وعلاقاتها، وما إذا كانت تشرب، وأين كانت تعيش.

في هذه الأثناء، بدأت أنصار-آنا تشعر بأن شخصيتها الأخرى قد بلغت إلى أقصى حدود صلاحياتها، وأن “آنا ش” بحاجة إلى الراحة، تماماً.. هذا ما قامت به. تحدثت الشخصية (آنا) إلى ما يقرب من 200 مسؤول في النظام، بعضهم جناة مباشرون في جرائم قتل، وآخرون جزء من المجتمع (الطائفة العلوية) التي ساعدت وحرضت محاولات الأسد الوحشية المتزايدة للتشبث بالسلطة. بدأوا يتحدثون فيما بينهم عن المرأة الغامضة في الرسائل الواردة لبريدهم الإلكتروني.


حي التضامن الذي دمرته القنابل في 22 أيلول2013. الصورة: أساهي شيمبون / غيتي إيماجيس

في أواخر العام الماضي، بعد أن تحدثت أنصار إلى امرأة اتهمت أمجد بالاعتداء عليها، كان لديها ما يكفي من القلق. كل هذا التعاطف مع الجناة بدأ يتسرب إلى روحها. لذلك، أيضاً بالنسبة لتقمص شخصية أخرى.

قالت: “أنصار تستحق أيضاً أن تعيش”. “ثم كان السؤال، أين هي أنصار؟ من هي أنصار الآن؟ هل فقدت في البحث؟ كانت آنا قادرة على التظاهر أنها موجودة، فتاة علوية، تتظاهر لساعات هنا في أمستردام. وأعتقد أن آنا ذهبت بعيداً، إنها مجرد شخصية وهمية في عالم رقمي. أين هو الشخص الأصلي في كل هذا؟ أين أنصار؟ لذلك قررت إعدام آنا.”

في صباح بارد خلال كانون الثاني من هذا العام، قام أوغور وأنصار بتعبئة صندوق صغير به نسخة مطبوعة من ملف آنا على فيسبوك، وقلادة على شكل سيف (علي بن أبي طالب) يستخدمه رجالات الأسد أو العلويون كرمز لهم، وبعض الحلي وتوجها إلى محمية طبيعية خارج أمستردام. هناك، حفرا حفرة ودفنا شخصية “آنا”، يرافقهما كلب مذهول كان الشاهد الوحيد الذي يرى زوال مفتشة رقمية، حيث كان من شأن ذلك أن يجعل أي جاسوس حقيقي فخوراً بعمله.

يقول أوغور:” لا بد أن يخبرك علماء النفس والمعالجون إذا كانت لديك فترة صعبة بشكل خاص، يمكنك تحديد تلك الفترة بطقوس”. “لذا فإن طقوس شيء ما تساعدك في الواقع على وضعه خلفك، والانتهاء منه.

لقد حان الوقت للباحثين لبدء التركيز على المواد التي جمعاها ولم يتمكنا من معالجتها أثناء انشغالهم بعمق في الشخصية التي دفنوها للتو في غابة مع الوقوف دقيقة صمت .

“أنا أضحك عليها طوال الوقت”، تقول أنصار ذلك “دائماً نتذكر آنا.”

القاتل وآنا.. المواجهة 

كان هناك شيء آخر يتحتم عليهما فعله؛ مواجهة أمجد بما يعرفونه عنه. هنا يقول أوغور “لأن كم من الوقت تريد أن تستمر في التودد إلى ضابط مخابرات. “أعتقد أنه في اللحظة التي كشف ما في داخله، وتحدث حول شقيقه، وأنه انتقم له، هذا أقرب ما يمكن أن تحصل عليه في هذا السياق بالذات.”

عبر تطبيق ما سنجر في الفيسبوك، قامت أنصار باستخدام هويتها الحقيقية هذه المرة بدلاً من “آنا”، فأرسلت لأمجد  تسجيلاً مصوراً مدته 14 ثانية.

“كان سؤاله الأول:” هل هذا أنا في الفيديو؟ فقالت له: نعم أنت. قال: نعم، هذا أنا. ولكن ماذا يحتوي هذا الفيديو؟ لا شيء، أنا أقوم باعتقال الأشخاص، وهذا هو عملي.”

بعد أن أدرك أمجد عواقب ما تم عرضه للتو، هاجم عناصر جبهة الدفاع الوطني، الميليشيا التي ينتمي إليها المجند الغر، الذي سرب الفيديو، ووصفهم بالشبيحة والقتلة وقال إنه ليس مثلهم.

ثم، بعد أن انتهى من التمثيل والحيلة التي قام بها، تبنى أمجد ما فعله عبر رسالة، قائلاً “أنا فخور بما فعلته”، قبل أن يهدد بقتل أنصار وعائلتها.

لم يرد ولا أوغور على أمجد منذ شباط وقاما بحظره من حسابات وسائل التواصل الاجتماعي. ومع ذلك، فقد حاول التواصل عدة مرات. من الواضح أنه متوتر بشأن ما ينتظره، كذلك قد يكون. بدأت محاكمات جرائم الحرب في ألمانيا في كسر درع الإفلات من العقاب الذي احتمى خلفها نظام الأسد في سوريا. ومع ذلك، فإن جلسات المحكمة هذه لا تحتوي على نفس الأدلة الدامغة كما هو موضح في فيديو مجزرة التضامن.

قبل أن تصل القصة للناس، ويتم نشرها، كان هناك رجل واحد بحاجة للوصول إلى بر الأمان-الشخص الذي سرب الفيديو إلى صديق في فرنسا، ثم إلى أوغور وأنصار. عقبها، بدأ الرجل برحلته الخطيرة في الأشهر الستة الماضية.

هروب المصدر

يعتبر ترك النظام في سوريا ليس سهلاً على المطلق، حيث أي شخص يريد السفر إلى مناطق أخرى في الداخل السوري، أو خاصة إلى الخارج، يواجه عملية استجواب طويلة قبل السماح له بذلك. وعلى الرغم من احتفاظ الأسد بالسلطة، إلا أن المنطقة التي يسيطر عليها تقلصت، إذ إن حليفين قويين وهما إيران وروسيا، باستطاعتهما عرقلة وشطب العديد من قرارات الدولة. تحتفظ جماعات المعارضة بالسيطرة على الشمال الغربي، والأكراد لديهم كنتون (منقطة لهم) في الشمال الشرقي، هكذا، أصبحت سوريا مفككة وغير قابلة للتسوية؛ مكان يمكن أن يشتبه فيه حتى أفراد الأسرة ببعضهم، وينتظرون ظهور الخيانة.

وهكذا كان الحال عندما انطلق الشاب “الشاهد” من العاصمة السورية متوجهاً إلى حلب في الأشهر الستة الماضية في المحطة الأولى من رحلة كانت ستأخذه إلى الشمال الذي تسيطر عليه المعارضة، ثم إلى تركيا وما بعدها إلى أوروبا.

كانت الرحلة إلى حلب مليئة بالتوتر، حيث قد سمح له بالمغادرة، ولكن، هل هناك عناصر من الاستخبارات سوف يراقبونه، أو يلحقون به؟ في الضواحي الشمالية لحلب، قام عقيد من الفرقة 4 في الجيش السوري بتلقي رشوة بقيمة 1500 دولار مقابل السماح للرجل بالعبور عبر الأرض الممنوعة التي تفصل بين الجانبين. تأخرت الرحلة في ذلك اليوم، حيث تم تجهيز شحنة كبتاغون من قبل الفرقة 4 لعبور نفس الطريق. بعد فترة وجيزة، شقت شاحنة تحمل عشرات الكيلوغرامات من المنشطات، صنعها ووزعها النظام وصدرها عبر الشرق الأوسط، طريقها إلى الشمال الذي تسيطر عليه المعارضة.

سرعان ما تبعها المصدر. بعد عدة أسابيع، التقت أنصار به في تركيا، حيث تم سد الثغرات في قصة التضامن على مدى أسابيع من المناقشات، ووضع الملاحظات لمحاكمة جرائم الحرب ورفعها إلى القضاء.

وفي شباط، سلم أوغور وأنصار مقاطع الفيديو وملاحظاتهما، التي شملت آلاف الساعات من المقابلات، إلى المدعين العامين في هولندا وألمانيا وفرنسا. في نفس الشهر بألمانيا، جاءت أول محاكمة لمسؤول آخر في المخابرات العسكرية السورية، أنور رسلان، لدوره في الإشراف على قتل ما لا يقل عن 27 سجيناً وتعذيب ما لا يقل عن 4000 آخرين. وقد أدين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وسجن مدى الحياة.

  • لا تزال أنصار بعيدة عن عائلتها، وعلى حد تعبيرها، ليست هي نفس الشخص الذي كانت عليه قبل أن تبدأ هذا المشروع. قالت:” لكن الأمر كان يستحق ذلك”. “لقد كان مرهقاً، لكنني آمل أن يساعد عملنا في تحقيق العدالة.”

“أطفال يلعبون كرة القدم في شارع ضيق في حي التضامن جنوب العاصمة السورية دمشق عام 2018. تصوير: لؤي بشارة / وكالة الصحافة الفرنسية” 

حي التضامن في هذه الأيام هو جزء صاخب ويتمتع بالحياة في العاصمة، حيث يبدو أن الحرب لم تمر على عتبات أبوابه. وقد تم تغطية الكثير من الأضرار والفظائع عبر المباني؛ مواقف السيارات، أو أكوام من حطام الطائرات والقذائف الناتجة عن الصراع. لا تزال أنصار وأوغور مقتنعين بأن العديد من المجازر وقعت هناك، وحتى الآن يقومان بجمع مواقع وأسماء أولئك الذين فقدوا في الصراع الدموي للسيطرة على الضاحية.

وقال أوغور” السكان المحليون يلومون النظام”. “إنهم يعرفون من قتل أحبائهم. الغريب أن الأشخاص الذين قتلوا في هذا الفيديو لم يكونوا منشقين، بل كانوا إلى جانب النظام. يمكنك أن ترى أنهم لا يعانون من سوء التغذية. هم معتقلون بشكل مباشر عند الحواجز، أونقاط التفتيش، ولم يأتوا من أقبية المخابرات، أو السجون السرية. تم قتلهم كتحذير بعدم التفكير بالانحياز إلى طرف آخر غير النظام … إن عائلاتهم تستحق العدالة.”

المصدر، في غضون ذلك، صار في أمان خارج سوريا. أثناء فراره من محيطه – الدائرة الأعمق لنظام الأسد – حكم على نفسه بحياة المنفى. قالت أنصار: “إنه سعيد بقراره”. “في بعض الأحيان يريد الناس فقط القيام بالشيء الصحيح. إذا كنت قد تعلمت أي شيء من هذا، فهو أن الخير لم يزل موجواً في الناس. هذه الحقيقة لا تزال ترى النور في النهاية “.


المادة من المصدر