نعم، هناك دائماً في جعبة الأسدية المزيد من القهر. هذه الجعبة لا قعر لها، ولا تتوقف عند أعدائها من السوريين، ففيها أيضاً من فنون الإذلال ما يليق بأشد المدافعين عنها.
09 / شباط / فبراير / 2021
المصدر: المدن | عمر قدور
أيام حافظ الأسد، وقف عضو في مجلس شعبه ليتحدث عنه بالقول: يا سيدي.. يا سيد الوطن. سُرعان ما انتشرت العبارة الأخيرة، ليستخدمها إعلام الأسد ويكررها متملقون صغار؛ لقد أُضيف إلى قائمة ألقابه لقب “سيد الوطن”. كانت الألقاب السابقة جميعاً تعلي من الفرادة المزعومة للأسد، أما منحه لقب السيد على الوطن “الذي يُفترض ألا يتسيد عليه أحد” فقد كان بمثابة سابقة لن تتأخر في التأسيس لقبول مفهوم “المزرعة بدل الوطن” باستخدام تعبير “سوريا الأسد”. وظيفة الوصف الأخير لا تتوقف عند المبالغة البعثية أو الأسدية المعهودة، فتكريس “سوريا الأسد” أتى مع زخم مشروع التوريث، أي مع التحول ضمنياً إلى نظام ملَكي يُستكمل بشعار “الأسد إلى الأبد”، وهذا كما نعلم كان حرباً استباقية على أي سوري قد ينادي بالتغيير، وعلى أي سوري تسوّل له نفسه تصديق الدستور الأسدي الذي ينص على جمهورية البلاد.
في حالة بشار، لا يصعب استذكار بعض النعوت التي أسبغت عليه، وانصب معظمها في العشرية الثانية على حنكته “أو شجاعته” في التصدي للمؤامرة المزعومة على سوريا. أبوه من قبل امتلك هذه الصفات، بما أن الرطانة البعثية والأسدية تذكّر طوال الوقت بمؤامرة كونية لا يهدأ أقطابها، ورغم تربع أمريكا وإسرائيل “بما لهما من قوة” على قمتها إلا أنها تفشل في تحقيق أهدافها! على أية حال، إسباغ صفات الشجاعة والحنكة على القادة ليس اختراعاً أسدياً، ونستطيع العثور عليها بمستويات متفاوتة تنخفض كلما اقترب بلد من تحقيق مفاهيم الدولة والديموقراطية.
حقق بشار سبقاً تاريخياً بموجب الرطانة المستجدة، هو القائد الذي وقف إلى جانب شعبه الذي تعرض لمؤامرة خارجية. وإذا مضينا مع هذا السبق، فعل بشار ما لم يفعله أي رئيس أو ملك آخر، اجترح ما ليس من صلب مهمته ومسؤولياته. وقف إلى جانب شعبه، ويا لها من مكرمة! إذ أننا لا نحظى في التاريخ برؤساء أو ملوك فعلوا مثله، فالتاريخ مليء بالزعماء الذين أداروا ظهورهم لشعوبهم وقت الأزمات، وهربوا من تحمل مسؤولياتهم، أو لنعدْ إلى الاستغناء عن مفهوم المسؤولية بما أن الوجود في موقع الرئيس أو موقع الملك لا يرتّب مسؤولية وفق ما تضمره المقولة الأسدية الجديدة.
لو لم يكن بشار نبيلاً على نحو استثنائي لتنحى، وغادر البلاد ليتنعم بثرواته في الخارج، الثروات التي ورثها أباً عن أجداد. كان ترك “شعبه” الذي لن يجد بديلاً استثنائياً في عدد مرات استخدام السلاح الكيماوي ضد “الإرهابيين”، أو في تصنيع واستخدام البراميل ضدهم. لن يجد بديلاً يستطيع تهجير ثلث السوريين خارج البلاد، للوصول إلى مجتمع متجانس، ولا هو بالقادر على استقدام إيران وميليشياتها الشيعية، أو إقناع موسكو بإقامة قواعد لها مقابل تمتعها بسياسة الأرض المحروقة.
لو تصرف بنذالة، متخلياً عن رعاياه الذين سيبقون بلا معيل، لكان الفقر ينهشهم أكثر مما يفعل الآن. كانوا مثلاً سيتخلون نهائياً عن عادة انتظار الكهرباء أو الوقود، وربما عن عادة حمل النقود التي لن يبقى لها قيمة في غيابه. كانوا سيرون نعمة في ظروفهم القاسية اليوم، سيتمنونها ويحلمون بزعيم استثنائي يوصلهم إلى هذا القدر المقبول من الشظف، أو بزعيم يصل بالسلطة إلى هذا المستوى البسيط من الفساد!
على قسم من جمهور الموالاة على الأقل أن يغيّر مفاهيمه وتفكيره، فقد صارت من الماضي مقولات من نوع: التصدي للمؤامرة بالالتفاف حول القيادة الحكيمة. كنا مع بداية الثورة، خاصة في الساحل، رأينا لافتات تأييد لبشار تنص على أن القتال معه، أو الذود عنه، فيه ردّ جميل لأبيه. على نحو لا يختلف جداً في الجوهر، رأينا في أماكن أخرى أولئك الشبيحة الذين ظنوا أنفسهم يدافعون عن بشار، واعتقدوا أنهم شركاء في النصر بما أنه مدين لهم ببقائهم، حتى إذا لم يُصرَّح علناً بذلك.
في مقولة “بشار الذي وقف إلى جانب شعبه” طيٌّ لتلك الصفحة، وبموجبها على “الشعب” إدراك مكانته الحقيقية وما يُبنى عليها. ذلك لا يتوقف عند كونه حظي بقائد استثنائي وقف إلى جانبه في أسوأ الظروف، إننا إزاء شعب مُطالَب الآن بردّ الجميل لذلك الاستثناء. الآن أيضاً، يجب طيّ تلك الوعود التي تنص على أن الأزمة عابرة، وسيتم تجاوزها بتكاتف الشعب والقيادة، لأن ردّ الجميل يتطلب من الشعب المزيد من التضحية من أجل الذي ضحى في سبيله طوال عشر سنوات.
من المؤسف أننا، من خلال هذه السطور، لا نؤلف نصاً ساخراً. ويجب التنويه بأن هذه المقولة، وإن ترافقت مع التحضير لولاية جديدة لبشار، غير مرتبطة بموسم انتخابي هزلي كاذب. هي تلخيص لما هو مطلوب من السوريين الواقعين تحت سيطرته، إذ ينبغي عليهم ربطاً بأسوأ أوضاعهم شكره على نعمة وجوده في الرئاسة.
نعم، هناك دائماً في جعبة الأسدية المزيد من القهر. هذه الجعبة لا قعر لها، ولا تتوقف عند أعدائها من السوريين، ففيها أيضاً من فنون الإذلال ما يليق بأشد المدافعين عنها. هو الإذلال الذي لشدته يجعلنا نستحي من أن نسخر من هؤلاء المدافعين الذين تنادوا إلى إبادتنا، أو أن نشمت بهم فنقول: مرحى لبشار الذي وقف إلى جانبهم، وهنيئاً لهم به.