إنَّنا أمامَ حالة نادرة من الطمأنينة والجرأة بلغت حدّ الاستهتار لنظامٍ فقد الخوف من العدالة، ومن المجتمع الدولي، ومن الله، ومن الإنسانية جمعاء.
01 / أيار / مايو / 2021
*المصدر: الجمعية السورية للمفقودين و معتقلي الرأي
إنَّ هذا المستوى من التوثيق الصادم الذي تضمنه ملف تعذيب المعتقلين في سورية (الشيطان الذي لا تعرفه)، قد تم إخضاعه لاستشاراتٍ قانونية وفنية أظهرت رصانته وأهميته الجنائية، وبيَّنت استكمال عناصرِهِ عى نحوٍ استثنائيّ؛ لأنَّ الأدلة من صورٍ وكتاباتٍ هي من عمل قسم الأدلة القضائية في الشرطة العسكرية، وقد تمَّ توثيقُها بطرق التوثيق المعتادة لدى الدَّولةِ وأجهزتها كعمل روتيني يقع تحت مسؤولية وزارة الدفاع التي توثِّق كلَّ الجرائم الجنائية التي تقع تحت سلطتها، بما في ذلك قتى الأعمال العسكرية من الطرفين، وحالات القتل تحت التعذيب في السجون ومراكز الاعتقال العسكرية. إنَّ الاستخفاف قد بلغ أقصاه لدى الجُناةِ، فلم يُصدِروا الأوامرَ لمن تحتهم بوقف التوثيق، فبقيت هذه الأجهزة توثِّق هذا المشهد الرهيبَ ليكتشفَهُ العالم موثَّقاً، ليس بيدِ ذوي الضحايا بل بيدِ أجهزةِ الدولة نفسِها.
إنَّنا أمامَ حالة نادرة من الطمأنينة والجرأة بلغت حدّ الاستهتار لنظامٍ فقد الخوف من العدالة، ومن المجتمع الدولي، ومن الله، ومن الإنسانية جمعاء.
إنَّ القتل الممنهج قد تمَّ رصْدُه في عشرات الآلاف من الصور لقتى لم يسقطوا في المعارك، بل كانوا معتقلين تحت حماية النظام، وقبعوا في سجونه، كان فيهم معتقلو الرأي والتظاهرات، لتكون قضيتهم بحق مأساةً إنسانيةً، حيث قضى الكثير منهم جوعاً، كما قضى آخرون بطرق وحشية مبتكرة، لقد عانى هؤلاء قبل أن يستريحوا بالموت – كما كتب لهم القدر- لا ليختفوا، بل ليقوم القتلة بتصويرهم؛ لتتضاعف مأساة أهلهم وذويهم، وليكون إثبات العدالة بيد الجناة.
إننا نتساءل اليوم.. ونحن في الحقبة التي بلغ فيها النضج في القانون الدولي الإنساني درجة غير مسبوقة في تاريخ البشرية: هل يتحمل وزرَ هذه الجرائم ومسؤوليتَها القانونية فاعلوها فحسب، أم أنَّ نوعًا من المسؤولية فوق الأخلاقية يقع عى عاتق المجتمع الدولي؟
إنَّ هذا السؤال الكبير لا يأخذ حجمه من مجرد كونه تحريضًا للضمير الإنساني، بل من زمن وقوع الجريمة. ففي الوقت الذي توافقت فيه البشرية عبر عقودٍ من الزَّمن عى مجموعة من الاتفاقيات التي رسمت عقدًا دوليًّا جديدًا في القانون الدولي الإنساني توَّجته بمعاهدات منع التعذيب؛ في هذا الوقت بالتحديد تقع هذه الجرائم الجماعية الممنهجة، في انتهاك صارخ لحقوق هؤلاء
المعتقلين. والمشكلة الكبرى أنَّ الجانيَ في هذه الجرائم الفظيعة هو المؤسسة التنفيذية، التي يفترض أن تكون مسؤولة عن حفظ حقوق هؤلاء الضحايا. إنَّه مشهد مروِّع حين يتحوَّل القانون إلى سلطةٍ لتسويغ الجريمة، ولتوثيقها بطريقةٍ تكشف عن إحساسٍ كبير بالأمن من المحاسبة، عى نحوِ ما كان يجري في الحقبة النازيَّة والسوفيتية في الربع الثاني من القرن الماضي. وإنَّ ما جرى ويجري اليوم في السجون ونقاط الاعتقال السورية ما هو إلا ارتداد إلى تلك الحقبة المظلمة، التي أراد المجتمع الدولي أن ينسخها ويطويها، فشرَّع من أجلها اتفاقيات جنيف وملحقاتها، ثمّ تتابعت من بعدها المعاهداتُ والتشريعاتُ الدولية.
إنَّ القفز من فوق هذه الجرائم الاستثنائية، والتعامل معها بسياسة النأي بالنفس – مهما كانت الأسباب والدوافع – يعدُّ إذنًا بمتابعة العدوان، ورضى بما اقترفه الجناة من جرائم تصنَّف عى أنَّها جرائمُ حرب وجرائمُ ضد الإنسانية. فضاً عن أنَّه تغييب أساسي لمسؤولية النظام كحكومة تقتل شعبها من غير رقيب. كما أنَّ ذلك تدميرٌ للقيم التي بُنيَ عليها النظام الدولي، وعلى رأسها الديمقراطية، وهو عورٌ قانوني يظهر عجز المجتمع الدولي عن تحقيق العدالة وحماية المدنيين، ممّا يحرم سوريا من امتاك
عناصر الاستقرار الموضوعية مستقبلاً.
إنَّ ما أنجزته العقلية القانونية الدولية في مئة عام الماضية لحماية حقوق الإنسان، هو محلُّ فخر واعتزاز. وهو تتويج لمقولات المصلحين والمفكرين والفلاسفة والمناضلين الذين عبروا خال تاريخ الإنسان، هذا الكائن العظيم.
ولم تتوقف حدود هذا الإنجاز الدولي عند البعد القانوني أو القضائي، بل أوجدت وعيًا إنسانيًّا عامًا انعكس عى مجالات الحياة السياسية والمعرفية والاجتماعية والاقتصادية. ولكنَّه مع ذلك كلِّه أحاط نفسه بمجموعة من الأدوات والإجراءات التي شكَّلت عائقًا وَقَفَ دون تحقيق العدالة ومحاسبة الجناة.
إنَّه يُطلب اليوم – أكثر من أيِّ وقتٍ مضى – أن يتَفتَّقَ الإبداع القانونيُّ عن حلٍّ لمشكلة الإجراءات القانونية المرتبطة بالإرادة السياسية في معظم قضايا انتهاكات القانون الدولي الإنساني. وما إجراءات محكمة الجنايات الدولية إلا صورة صارخة، دفعت لتفريخ محاكم دوليّةٍ أو إقليمية أو مشتركة أو خاصّة، لم تكن أقلّ عطالةً منها؛ بسبب تداخل القانوني بالسياسي في إجراءاتها وبعض تفصيلاتها. ثمَّة أمرٌ أكثر تعقيدًا من الإجراءات والأدوات في قضايا انتهاكات القانون الدولي الإنساني، ألا وهو الموازنة والملاءمة بين مبدأ سيادة الدول ومبدأ المحاسبة عى انتهاكات حقوق الإنسان؛ لأنَّ هذه القضية من صلب التشريع القانوني، وليست كالسابقة متعلِّقةً بتشريع الإجراءات اللازمة لتطبيق ما تمَّ تشريعُه وهو القانون -. ففي التأصيل القانونيِّ لهذه النقطة كثيرًا ما تُغلَّب الذَّرائعيَّةُ، فتنتصر سيادةُ الدولة عى حقوق الإنسان في مناقشة التشريعات القانونية الدولية. ولا ريب أنَّ فيما تحملُهُ الرؤية الذَّرائعيَّةُ وجهةُ نَظَرٍ معتبرَة، ولكن لا بدَّ من فضّ النزاع بين سيادة الدولة وحقوق الإنسان بتوليفة معتبرة،
لن تعجِزَ عنها العقلية القانونية الدوليّة. فالقانون الدولي الإنساني حَسَمَ قضايا كثيرةً ومهمَّةً جدًّا في النِّزاعات المُسلَّحة الدولية، كحقوق الأسرى والجرحى وغير ذلك، بعد أن كانت هذه المسائل مُحاطةً بسياجٍ من سيادة الدولة التي يحكمها مبدأ التعامل بالمثل، فدخل اليوم في منظومةٍ من القيم الدولية تجاوزت المعاملة بالمثل وصارت مبادئ لا تقبل النَّقْضَ.
ومع أنَّ القانون الدولي الإنساني قد نجح في النِّزاعات المسلَّحة الدولية، فإنَّه لم يتمكن من النجاح بالمستوى نفسِهِ، أو حتى بأي مستوى مقنعٍ في النزاعات المسلحة الداخلية، وفي قضايا إرهاب الدولة، ومع ذلك فإنَّنا نؤمن بأنَّ العقل القانوني الدولي سوف ينجح في ذلك لو أتيح له الظرف المناسب، لكنَّ المشكلة تكمن في أنَّ النظام الدوليَّ نشأ أوَّلً، ثمَّ جاء التشريع الدولي
ليرسم البعد القانوني بمقاس النظام الدولي. ولاشكَّ أنَّ ذلك لن يتم بنجاح ما لم يتعدَّل النظام الدولي وَفْق قانون دولي إنساني ترسمه حقوق الإنسان، التي ناضل من أجلها المصلحون والفلاسفة منذ آلاف السنين.
إنَّنا نُفَسِّر اللامبالاةَ المُبالَغَ فيها، التي عمل بها النِّظام السوريُّ في تصوير ضحاياه من المعتقلين، وفي معاملتهم بوحشية لامتناهية، بأنَّها تنبع من إيمانه بضعف القانون الدولي الإنساني، وعجز أدواته من متابعته ومحاسبته.
إنَّ أبسطَ ما يمكن أن يقدِّمَه العالم للسوريين اليوم أن يجعلهم يطْمَئِنون إلى إمكانية وجود منظومة قانونية دولية قادرةٍ عى أن تحقق لهم العدالة، وتحاسب القتلة، وتُنصف أرواح ضحاياهم، وإلا فإنَّ هذه السّلبيّة ستدفع بالسوريين إلى مزيد من الإيمان بعدالة الساح، وخيانة المجتمع الدولي لهم. وستلحقُ العار بكل من رأى تلكَ الوحشية في جرائم النظام ضد الشعب، ثمَّ قرّرَ بصَمْتِهِ أنَّ
الضحايا كانوا يستحقون الموت.
لتحميل وقراءة الملف كاملاً
⇓