لمّا كان الشعب السوري قد ثار على نظام يعتبر نفسه الدولة، ويفهم الدولة على أنها سجون ومعتقلات وجيش وأمن وشرطة، واستبداد واستيلاء على السلطة والثروة، وزجر وقهر وقسر، فإن من البديهي أن يثور على تنظيم أيضاً يعتبر نفسه الدولة، ويفهم الدولة على أنها تكبيل للحريات، واستباحة للكرامات.
14 / أيار / مايو / 2021
*مع العدالة | علا شيب الدين
نشرت فصول هذا الكتاب بموافقة الكاتبة
(8)
الثورة واللجوء
إلى جانب مآسٍ كارثية لحقت بملايين السوريين، فأخذت المدائن الثائرة تقفر منهم واحدة في إثر واحدة، حين هربوا غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً، داخل البلاد وخارجها، سعياً وراء البقاء؛ في الإمكان رصد ملمح لهذا التشرّد ربما يكون مفيداً معيناً على مواصلة الحياة بالنسبة إلى البعض، أو المحافظة على ما تبقّى منها بالنسبة إلى البعض الآخر.
حال مَن بات لاجئاً بعد إحراق مدينته وإفناء بيته، قد تشبه حال العشب. حال الامتداد الأفقي والاتساع، ملء الفراغات، اللاتجذّر، التدفق من أي نقطة، قد تتسع معه فضاءات العقل والقلب، وينعتق الروح من أصولية الأشجار ذات الاتجاه الواحد، العمودية، التمسمر في المكان، الذاكرة المزدحمة المثقَلة، والخطّية الممثَّلة في بداية – نهاية، محددتَين تحديداً صارماً، يضيق بينهما العقل والصدر.
وحيث أن العشب معلّم طبيعي ربما للحرية، التنوع، الكونية، فإن التاريخ معلّم ما لا يحصى من حِكَم، منها: أن إحراق مدينة من المدائن، لا يكون في جميع الأحوال من الكوارث الأبدية التي تُبتلى بها. انطبق هذا على كثير من المدائن التي أُحرقت في سالف الأزمان، ثم عادت ونهضت وازدهرت وتعمَّرت. وقد ينطبق الأمر نفسه على المدائن السورية التي أحرقها الأسد وشبّيحته إخلاصاً لشعارهم “الأسد أو نحرق البلد”. يوماً ما، قد يعود اللاجئون السوريون إلى مدائنهم الأم، يضعون فيها غمار تجارب عاشوها في رحلة اللجوء، قد تكون صقلتهم بما يكفي لتعميرها من جديد. يحيون في مدائنهم فعلاً ونبضاً، مشاعر “حب المكان” التي طالما كانت مؤجلة تنتظر فرصتها الموائمة.
– في عالم الممكن:
إدراك الزمان مسألة أعقد من إدراك المكان. ربما يرجع ذلك إلى طبيعة الزمان ذاته كموضوع للمعرفة. فالزمان ديمومة، وإدراكه ليس إلا إدراك الحركة، والتغيرات المتتالية التي يعيشها الإنسان، والتحولات المتتابعة التي يخضعه لها محيطه هو باعتباره جزءاً من المحيط نفسه. هكذا، يسهل تشوّه إدراك الزمان تبعاً لعوامل ذاتية، كحال الشخص في الانتظار.
انتظار اللاجئين السوريين سقوط النظام، انتظارهم اللحظة التي يعودون فيها إلى وطنهم، انتظارهم مساعدات إنسانية ومعونات إغاثية، انتظارهم فتح الحدود أو استقبالهم في هذه الدولة أو تلك، وانتظارهم تصريحات ومواقف وأعمال وأشغال وانفراج في الأحوال…؛ ذلك كله وغيره من الانتظارات، قد يجعل أولئك يعيشون في عالمٍ ميزته الأساسية، الممكن. إنه عالم الممكن(العشب)، المفتوح على احتمالات وظنون وتكهّنات وحدوس. ما يعني تلاشي اليقين، في معنى ما. اليقين (الأشجار)، الذي يلازم في العادة، الراسخ في المكان، المتأصل.
يبدو عالم الممكن كأنه مغادرة الديمومة والثبات والانتظام الدقيق في تقسيمات الزمن. خلاصٌ من الضرورة التي يفرضها الاستقرار في المكان، واكتشاف الحرية من أسْر المُلكية واختبار التخفف من أثقالها لدى سوريين خسروا كل ما يملكون ورحلوا حتى من دون أوراق ثبوتية. ذلك كله، قد يفضي إلى التحرر من العادة كتكرار، لصالح بدايات جديدة، وتجارب جديدة تنبثق دوماً. لكل واحدة منها فرادتها، تحمل في جوهرها تاريخاً لا يتكرر. ميزة الترحال، أنه صيرورة وجود وعدم في آن واحد، لا مجال للحديث عن يقينيات في ظلّها أو ثوابت.
على الضفة الأخرى لعالم الممكن نفسه، قد يصنع اللاجئ “فردوسه المفقود”. يرسم في ذهنه صورة لـ”البيت الأم”، تعبّر عن حاجته إلى الاستقرار والارتباط بالتربة، وعن رغبته العميقة في السكينة والهدوء والحماية والأمن، في وجودِ أمّ تلمّ، تضمّ الأولاد تحت جناحيها بحبّ. قد تساعد صورة البيت نفسها، على تحمّل التعاسة والشقاء والحزن والغربة والاغتراب. فعالم الممكن، ذلك المكان السعيد، لا يتحقق فيه أكبر قدر ممكن من التكثيف فحسب، بل هو موطن أحلام التمدّد والاتساع والانطلاق.
في رحلة اللجوء الممهورة بالعذاب والكشف. رحلة الدخول في عالمٍ ممكن، تجوز فيه الممكنات جميعاً، قد تتجلى بوضوح، مشاعر “حب المكان”، وما ينشأ حوله من صور السعادة والحبور. حبّ خاص بالمكان الذي تم اللجوء إليه كمأوى، وكان حاضناً في معنى ما، ضامناً الأمن والسلامة. وآخر يجلّله الشوق والتوق، خاص بالمكان الذي تمّ هجره. قد تتجلى بوضوح أيضاً، مشاعر “عدوانية المكان”، وما يتولّد عنها من صور الحقد والاستفزاز. عدوانية خاصة بالمكان الذي تم اللجوء إليه باعتباره غريباً وموحشاً. وأخرى خاصة بالمكان الأصلي المتروك، مكان الكراهية والصراع والتوحش والمشاهد الكابوسية. إذا كانت مشاعر حب المكان هنا، مؤجلة تنتظر فرصتها الموائمة، فعدوانية المكان أيضاً مؤجلة تنتظر فرصتها الموائمة.
تُرى كيف يشعر اللاجئ، في خلوته الداخلية، الجوّانية، العميقة، الفريدة. هناك، حيث تكون الذات خالصة، في حد ذاتها ولذاتها، مجرّدة، عارية؟ كيف يشعر مَن اعتاد ممارسة وحدته الخالصة في حجرته الخاصة، ثم فجأة، صار لزاماً عليه أن يكون كائناً عاماً، يتقاسم والجموع خيمةً واحدة، غرفة صف واحدة في مدرسة، مهجعاً واحداً، أغطية مشتركة، وأدوات طعام أو تنظيف مشتركة؟ وكيف يشعر مَن يشعر أن وجوده قد يثير انزعاج الآخر، ربما بالدرجة نفسها التي يعاني فيها الشعور نفسه حيال الآخر نفسه؟
الأسئلة تلك، وما شابهها ربما يندر طرحها، وربما لا تخطر على بال، أو قد يُنظَر إليها كنوع من الترف، في حضرة الهاجس الأهم المشدود صوب الحاجات الأولية من غذاء وماء ودواء. غير أن التأمل في الذات البشرية، قد يدفع إلى عدم اعتبار ذاك الطراز من الأسئلة، ترفاً. إذ ليس عدلاً، اختزال الإنسان في جانب بيولوجي، أو اختصاره في تعريف من قبيل: “حيوان اجتماعي”. فلو تُرِك الأمر لاختياره المحض، لربما اختار أن يكون وحيداً، باحثاً عن نفسه في عتمة الذات ومتاهاتها، لكن الحاجة تضطره إلى الاجتماع بالآخرين. لمّا كان المأوى حقا من حقوق الإنسان؛ فالحُجرة الخاصة بالشخص في داخل المأوى، حق من حقوقه أيضاً.
في ظروف كتلك التي ترافق اللجوء، والتي غالباً ما يفقد فيها المرء خصوصيته وفرادة عيشه وتعاطيه الخاص مع تفاصيل الحياة اليومية، تنكمش حريته أو تنعدم، كأن يكون المرء معتاداً قراءة الكتب أو سماع الموسيقى مثلاً في جو معيّن، أو ارتداء لباس معيّن، أو النوم بطريقة معينة؛ ثم يصير محروماً من جلّ ما يخصّه ويعنيه، كونه لم يعد حراً في ممارسة يومياته الخاصة كما يريد، في حضرة جموع لم يعودوا أحراراً في ممارسة يومياتهم الخاصة كما يريدون أيضاً. بعض النساء في مخيمات اللجوء في لبنان مثلاً، لم يخلعن الحجاب منذ أشهر طويلة جداً بسبب وجود رجال غرباء في المسكن نفسه، كما روت إحدى العاملات في مجال العمل الإغاثي بالبلد المذكور على إحدى الشاشات، وكم هي كثيرة القصص المليئة المترعة بما يكفي. في ظروف كهذه، ربما يبني المرء، في قاع الذات الداخلي الحميم، حُجرة تطويه في عزلتها البسيطة، وتبعث فيه نوازع النسيان الدفين. كم من حكايات تروى عن ناس لا حُجرة خاصة بهم، لذا غضبوا وجلسوا في أحد الأركان. الركن، رمز للوحدة أو العزلة، ينزوي فيه المرء، رافضاً كبح حياته الخاصة أو إخفائها.
تصبح صورة الحُجرة المبنية في قاع الذات، ركن المرء، وكونه الأول، يألفه ويلجأ إليه كلما ضاق ذرعاً بما هو خارجيّ. يودعه ما يكتنزه من جمال ورؤيا، يبدع فيه ويكتشف، يمارس طقوسه وما يرغب ويريد، يمتلك العالم عبر تصغيره وحشره في الحُجرة. من الحُجرة الصغيرة تنبثق أشياء كبيرة. إنها المخبأ الغامض العجيب الذي يحمي الذات في قبالة عواصف الكون الخارجي، لا يدخلها المرء إلا ليعدّ نفسه للخروج منها. يتأهّب للانفجار، عدوانيةً أو حباً انتظرا طويلاً الفرصة الموائمة.
الثورة والتطرّف الدينيّ
1
لمّا كان الشعب السوري قد ثار على نظام يعتبر نفسه الدولة، ويفهم الدولة على أنها سجون ومعتقلات وجيش وأمن وشرطة، واستبداد واستيلاء على السلطة والثروة، وزجر وقهر وقسر، فإن من البديهي أن يثور على تنظيم أيضاً يعتبر نفسه الدولة، ويفهم الدولة على أنها تكبيل للحريات، واستباحة للكرامات. على ضوء هذا، يمكن استيعاب لافتة يقول المكتوب فيها: “أغلبُنا أصبح مطلوباً للدولتين”، حملها ثائرون في إحدى التظاهرات المناوئة لتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) والنظام الأسدي.
النظام والتنظيم، كلاهما يستمد وجوده من أعداء وهميّين، كالغرب وإسرائيل، ويستند إلى إيديولوجيا أو عقيدة مسوِّغة تضمن استمراره في تسلّطه. الاختلاف بينهما يكمن في الألفاظ المستعمَلة فحسب، إذ الأول يعادي الغرب لفظياً كـ”امبريالي”، والآخر يعاديه باعتباره “كافراً”، أمّا عملياً، فالاثنان يضمران، ويبيّنان بالفعل عداوة ضارية لـ”أوطانهم” وناس “أوطانهم” الحقيقيين، الطيبين، الأحرار. يستند الأول إلى إيديولوجيا بعثية طوباوية، معتبراً حزب “البعث العربي الاشتراكي” قائداً للدولة والمجتمع. بينما ينصّب الآخر نفسه مدافعاً عن الله ورسوله، وعن الدين الإسلامي الذي يعتبره ديناً ودولة، مع أنه ما من شيء يُفسد الدين ويشوّهه، مثل الزجّ به في صراعات سياسية دنيوية. نهجُ الأول في التعاطي مع أيّ معارض، خارجٍ على “سننه”، هو التخوين. ونهج الآخر، هو التكفير. في الشكل، من شأن نظامٍ جوهرُه أمني استخباراتي، كنظام الأسد، لجوء رئيسه ورجاله إلى استراتيجيا إخفاء العيون بنظارات شمسية سوداء. في إجراء كهذا، ثمة خوف وتخويف في آن واحد. إذ وحده الخائف يخيف. يخاف الديكتاتور افتضاح أمره باعتباره كاذباً، فيخيف، وفي كلا الحالين هناك ضعف وعبودية واستعباد. إذ الحرّ لا يخفي نفسه لأنه لا يكذب. ولأنه لا يكذب، لا يخاف، وليس مضطراً للتخويف والاستعباد تالياً. إنه الواضح، المنير، المستنير. ينسحب الأمر عينه على أولئك الملثّمين من رجال تنظيم “داعش”. الظلم والظلام والظلامية، سمات جوهرية للنظام والتنظيم. كره النور والحرية والديموقراطية، قاسم مشترك بينهما.
****
لا تشكّل الحرية خطراً على الإيمان والتقوى، بل القضاء عليها من شأنه القضاء على كل ما فيه صلاح للفرد والمجتمع. ربما يكون هذا بعض ما خلص إليه السوريون والسوريات من خلال تجارب مرّة خاضوها مع تنظيم “داعش” في المناطق السورية التي انوجد فيها التنظيم، وبعدما ضاقوا ذرعاً بالتعصب الجاهل، وبفظاعات تُرتكب باسم الدين الإسلامي، وفظاظات تعمّ، بغاية خلقِ الفتن والمصادمات بين الطوائف. مَن يتأمل في الهتافات والشعارات المرفوعة في التظاهرات المناهضة لـ”داعش”، مثل هتاف: “إلّلي بيسرق ثورة خاين. إلّلي بيقصي الآخر خاين” وهو يذكّر بهتاف “اللي بيقتل شعبو خاين”، قد يصل إلى نتيجة مفادها أن حرية الرأي والتعبير والتفكير ضرورة اجتماعية. الجدير بالذكر هنا، أنه في جلّ هتافاتهم، آثر المحتجون الثائرون، وضع الأسد و”داعش” في الخانة نفسها، بشكل يجلو الأفهام وينمّي الفكر. إن تشابه الاستبدادَين المجرمَين، الأمني العسكري والديني، في الفساد وفي كل شيء، كان من شأنه استعمال المفردات نفسها في الثورة عليهما، فالثورة نفسها التي قالت (مثلاً) من قبلُ للنظام الأسدي:”بدنا نحكي عالمكشوف/حراميّة ما بدنا نشوف”، قالت للتنظيم المرتبط بـ”القاعدة”: “داعش دولة حراميّة.
في حين يبدو البعض كأنه سلّم بواقعِ تحوُّل سوريا ساحة مفتوحة، تُصفّى على أرضها حسابات خارجية، وتتنازعها مصالح وأجندات لاوطنية، يصرّ البعض الآخر من السوريين، على ضرورة عدم الاستسلام لهذا الواقع أو التسليم به، بالرغم من استفحاله. ربما لهذا، نجد الإصرار عينه لدى السوريين، على أن الشعب السوري هو مَن يحدد شكل دولته ومصيره، كلما شعروا بأن ثمة مّن يريد سحق كلمتهم وقرارهم. وبما أن الناس يصنعون تاريخهم داخل مجتمعاتهم، كان “طبيعياً” أن يثور السوريون على تنظيم “داعش” ذي العقيدة التكفيرية الدخيلة على المجتمع السوري. أكثر من ذلك، فإن ربط فكرة الدولة بالإنسان الأنا الحرّ، من شأنه جعْل هذه الفكرة موضوعاً بالفعل، وإلا سوف يبقى الناس مستندين إلى الزائف من كل شيء. لذا، لم تكن الحرية لتسقط من أذهان مَن ثار من السوريين والسوريات، الحقيقيين والحقيقيات. ثمة لافتة مهمّة، رُفعَت في تظاهرة بمدينة السويداء، في بدايات الثورة بتاريخ 17 نيسان2011، تقول: “إن الشعب هو القائد للدولة والمجتمع” لا “البعث” ولا غيره. قد يكون مفيداً الآن وكل آن، استحضار هذه الجملة وربطها بإرادة حرة، كون العبد لا يصنع تاريخاً.
2
كنتُ أتجوّل في الإنترنت، حين مررتُ بحائطٍ كُتِب عليه: “إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظُوهَا فقالُوا بالرَّأي فضلُّوا وأضَلّوا. الجبهة الإسلامية/مشروع أمة”. ليس واضحاً أين التُقِطت صورة ذلك الحائط، لكنها في سوريا، في الغوطة الشرقية ربما حيث تسيطر الجبهة المذكورة التي تنتهي العبارة بتوقيعها. رهبة “التحذير” على الحائط ووهْرتُه، خفَّف منهما، كما ما بدا لي، توقيعٌ آخر لـ”لواء الصقور” على ما أظن، إذ الكلمة الأخيرة غير واضحة تماماً. التوقيع الثاني الذي يبدو أنه جرى تذييل العبارة به، في وقت لاحقٍ من كتابة العبارة بتوقيعها الأصليّ، أدخلَ على جوّ الحائط الرهيب قليلاً من “اللعب والخفّة”. فهو مكتوبٌ بطريقة غير مدروسة، غير “أنيقة”، غير متقنة، عفوية، متعرِّجة، طالعة نازلة، وبلون أسود هشّ، حدّتُه أخفّ من حدّة سواد “التحذير”، المكتوب بطلاء أسود حالك، وباستقامة صارمة لا يشوبها مَيَلان أو انحناء أو تعرّج أو طلوع ونزول، مسدود تماماً لا يتخلّله فراغٌ أو خيوط نور ولا تخربشه هشاشة أو أدنى اتّشاح بالأبيض أو الرماديّ حتى.
وقفتُ بعقلي أمام الحائط أتأمّل. راودتني أسئلة طويلة قصيرة: أليس ما أقرأه رأياً أيضاً، وإن كان ينقصه التبصّر؟ ترى هل يدرك كاتبها أو متبنّيها أنّ ما كتبَه أو ما تبنّاه رأي. رأيه هو بالذات أو رأي مَن اقتبس منه ونقل عنه، وأنّ الرأي هذا خاضع للنقاش بدوره، بل محفِّز عليه، ومولِّد للرأي والجدل والاستفسار والسؤال، من حيث لا يدري، ومن حيث يغلق الأبواب والنوافذ كافة في محاولةٍ بائسة من شأنها أن تحرم الناس، والأجيال القادمة ربما من رأي قد يكون مهمّاً وعلى صواب؟ هل كاتب العبارة نفسه أو متبنّيها نفسه، معصوم من الخطأ لا يضلّ ولا يُضَلَّل على الرغم من حفظه “الأحاديث”؟ ثم، لنكن “واقعيين” قليلاً، هل ينجح كاتب العبارة أو متبنّيها في منْع الرأي وعزل أصحابه في زمن التكنولوجيا هذا؟!
تحثّ العبارة تلك، على معاداة أصحاب الرأي، وتحذّر منهم، عبْر تقديم حجّة واهية ترى في الرأي كسلاً وسهولة يهرع إليه أصحابه هرباً من صعوبة حفظ “الأحاديث”، وترى فيه تالياً ضلالاً وتضليلاً. لكن – وكم تبدو الـ”لكن” هذه ضرورية هنا كما دوماً باعتبارها وقفة نقدية- في العبارة نفسها ثمة كسل ووهن في همّة العقل التي تبدو الأمة في صددها أنها لا تجتمع إلا على ضلالة. فالتشديد على “الحفظ” المحض، والنقل البحت، من دون أن يكلّف المرء نفسه عناء التفكير والتساؤل حول ما يحفظه أو ما ينقله، يبيِّن كيف تناقض العبارة نفسها بنفسها، فتقع في فخ “الإعياء” ذاته الذي تدينه وتمقته.
العبارة التي نحاول هنا التفكّر فيها باعتبارها رأياً، لكن رأياً مستبدا لا يستند إلى أسس عقلية، هي في طبيعتها، مثل جلّ العبارات أو التعبيرات (الآراء) المماثلة، تدفع بالرأي لكي ينحو إلى السواد والهيمنة والسيطرة. وإذ يهفو الرأي إلى المنحى هذا، يمسي ضعيفاً من ناحية تأثيره الأخلاقي والسلوكي، لأنه بسببٍ من ترديده الآليّ أو الببغائيّ المستمر، لا يعود له أثر في النفوس. في حين تجدّد الآراء المتنوعة، الخصبة والحركية، الحيوية على مستوى العقل والعاطفة والروح والنفس والوجدان والسلوك باستمرار، ويكون تأثيرها أعمق وأرحب. الرأي الواحد هنا، المستبد الجامد الثابت، المتمسّك بالحفظ أو النقل أو الاقتباس فحسب، يصير مجرّد اعتقاد شكليّ، لا يفضي إلى شيء نبيل ولا يُرتجى من ورائه خيرٌ، ويمنع تالياً كل نموّ للعقل أو للتجربة الشخصية الفردية.
خلف الثورة السورية وأمامها وفي عمق لجّتها، هناك الكثير من الأسباب والدوافع والرغبات والطموحات والغايات والأحلام، التي أفضت إلى اندلاعها في آذار 2011، لعلّ الحرية أهمّها على الإطلاق، هذه التي تُترجم سياسياً بالدولة المدنية الديموقراطية. لقد اضطهد الأثينيون على سبيل المثل، سقراط، واضطهد اليهود المسيح، والمسيحيون أنفسهم اضطهدوا لوثر وغيره من المصلحين، وها هم المتعصبون (هنا والآن)، يواصلون مسيرة الاضطهاد، في إدانتهم الأحرار أصحاب الآراء والأفكار. في الأصل، ثار السوريون والسوريات على الاستبداد في شكله ومضمونه العسكريّ، وها هم الآن في مواجهة طراز آخر من طرز الاستبداد، هو الاستبداد الديني. الفارق بين الاستبدادَين هنا، أن الأخير يجهر في معاداته الديموقراطية من حيث هي آراء وتعدد وتنوع واختلاف وحركة وسير ومراس ومران، في حين يمعن الأول في الكذب، فيقول مثلاً إنه “ديموقراطي” أو “عَلماني”، ويفعل نقيض ذلك بفجاجة مرعبة وخسيسة. هو أيضاً يعتبر الرأي ضلالاً وتضليلاً، وكم هي كثيرة الأمثلة التي اعتُبِرَ فيها أصحاب الرأي، داخل الفروع الأمنيّة وخارجها، مجرّد مُضلَّلين ومضلِّلين، مُسمَّمين ومُسمِّمين. أما في الدولة الديموقراطية المأمولة، دولة الحق والقانون، الدولة المدنية، لا العسكرية ولا الدينية، كما في الطريق إليها ربما، فيُفترض ألاّ يكون ثمة مَن يفرض نفسه على الناس أو الشعب كمفهوم سياسيّ واقعيّ، ويحسم الأمور نيابة عنهم، إذ لا أحد ينوب عن أحد إلا على سبيل الوهم والخداع. وإن كان لي أن أقدِّم رأياً شخصياً ها هنا، حالِماً ربما، فأقول إني لستُ مع الديموقراطية غير المباشرة حتى، وأجدني أميلُ فكرياً إلى الديموقراطية المباشرة في الحكم، حيث ينعتق الناس حتى من تمثيلهم برلمانياً، ليمثّلوا أنفسهم بأنفسهم، فيكون كل فرد راشد حر مسؤولاً عن نفسه، ويمثّل نفسه بنفسه، لأن كل تمثيل عنه هو ضرب من النفاق والدّجَل. هذا في ما يخص الديموقراطية سياسياً، أما تربوياً وأخلاقياً، فهي حتماً ليس مما يمكن الحديث عنه في عجالة كهذه. في الدولة الديموقراطية المأمولة هذه، تكون حرية التفكير والتعبير، وحرية العمل وفق ما ينسجم وشخصية صاحبه واستعداداته، والحرية الجنسية المسؤولة، وغير ذلك من ضروب تحرُّر الفرد من الإكراه الأخلاقي الذي يمارسه الرأي العام، ومن قهر سلطة الحاكم وسلطة المجتمع والدين والدولة في آن واحد، بحيث يُمتنع الاقتراب من المساحة الحرة الخاصة بالفرد الشخص، حين لا تمسّ بأذى حريات الآخرين أو الحريات العامة. هذا كله وما يشابهه، يكون ربما بمثابة إعلاء للقيمة الإنسانية في ذاتها، فلا قيمة لشيء إذا ما ضاع الإنسان. وعليه، فإن تعبيرات من مثل: “قادة الرأي”، تصبح لا معنى لها في الدولة “المثال” المأمولة المحلوم بها. فالاستقامة الحادة التي يخطّها التعبير المشار إليه، والمتداوَل دونما نقد أو تمحيص حتى من “المثقفين”، تتحوّل إلى نوع من التشاركية، بحيث لا يعود هناك حكّام رأي وزعماء وقادة يحتكرون، ومحكومو رأي ينصاعون. في معنى ما، وبتفاوت، كلّنا أبناء استبداد وآباؤه، وكلّنا في حاجة عميقة للثورة على ذواتنا. وإن الاستعداد عندنا لتأليه الحاكم، لهوَ أمر موغل في القدم منذ فرعون ربما، الذي أمعن في الفرعنة كونه لم يجد مَن يردّه، وفق ما درجت عادة قوله أمام كل استبداد مسكوت عليه، وأمام كل جبن وتخاذل.
قد يثري المناقشة الآنفة الناقدة للعبارة المكتوبة على الحائط، “الرجوعُ” إلى إرث أدبيّ وفلسفي متنوّر مهمَّش دوماً ومغيَّب لصالح إرثٍ ظلاميّ ومتزمِّت فكراً ونهجاً وسلوكاً. فقد جاء على سبيل المثل، في الرسالة الثامنة من رسائل أخوان الصفا، ج2 ص316، طبعة القاهرة 1928: “أخوان الصفا يرون الكمال في الإنسان “العالِم الخبير، الفاضل الذكي المستبصر، الفارسي النسبة، العربي الدين، الحنفي المذهب، العراقي الآداب، العبراني المخبر، المسيحي المنهج، الشامي النسك، اليوناني العلوم، الهندي البصيرة، الصوفي السير، الملكي الأخلاق، الربّاني الرأي، الإلهي المعارف الصمداني”. وذلك لغرض الإفادة من جميع الأديان وجميع المذاهب الفلسفية والفكرية.
****
الثورة والمسرح
-المسرح السوي: من الجسد إلى الجسم:
“أن تتقن الثورة يعني أن تتقن الإحساس بالضحية والجلاد دفعة واحدة“(1)
الجسد، في معنى ما هنا، هو مفهوم وتصوّر. كتلة ثقافية صلبة. حزمة عادات وأعراف وتقاليد وقبَليّات مصبوبة. ذاكرة مزدحمة. قطعة معبَّر عنها أيديولوجياً، معسكَرة ومجنَّدة، وممسوكة بأصابع السلطة كل سلطة، مربوطة بخيوطها، محرَّكة بواسطتها. وهو حقل تجربة مسيَّس وموضع تشريح معرفي وغير معرفيّ. حضوره في العالم، حضورٌ مصبوب ومقلوب، منزوع الحواس الخمس، مفكَّر فيه، مدروس ومحسوب. إيقاعه مضبوط بما ينسجم ودقة شعارات ومقولات وأيقونات وغايات وطموحات وتفكّرات واستشرافات وغيبيات ومعتقدات. إنه بناء مسبق الصنع يُنقّل من منصّة إلى منصّة.
الجسم، في معنى ما هنا، هو حياة، معبِّرة عن نفسها بنفسها لنفسها. حياة “صادقة” في تجلّياتها، مفتوحة على غرائزها الدنيا و”العليا” وغير مكبَّلة. لا تحنيط ثقافياً هنا. لا منطق، ولا مفرّ من الحواس ومن الحيّز المكاني الواقعي(اللحميّ)، الطبيعي، الأنطولوجي، النابض.
على أساس التمييز السريع الآنف، بين الجسد والجسم، ربما يصبح في الإمكان بيان المفارقة التي طالما نقلت الإنسان الفرد السوري من جسده إلى جسمه، من منصة التثقيف (الصبّ، القولبة، البناء)، إلى منصة الحياة باعتبارها نبضاً وحركة سلبية تارة. وطوراً إيجابية، من مسرحة الجسد ومسرحه ومطرحه، إلى مسرحة الجسم ومسرحه ومطرحه.
كانت سوريا برمّتها قبل اندلاع الثورة عام2011، عبارة عن مسرح، عن “منصّة” أسدية بعثية عسكرية “أَمنية”. برمّتها، كانت مسرحاً لأشكال التحنيط والتسييس كافة، للجرائم كافة، لعلّ جريمة أدلجة الجسد وقولبته وقتلِ مواهبه وسلبه حريته الذي انعكس مباشرة على العقل والروح والوجدان والنفس قتلاً وتدميراً، كانت إحداها. لكن إن شئنا الإمعان في المعنى الفني الأضيق للمسرح؛ فقد يتكشف لنا كم كان المسرح بؤرة لـ”الجسد” وفق المعنى المطروح آنفاً، سواء في المسرح المدرسي أو الجامعي أو في المسارح الأخرى من مثل مسرح الحمرا والمسرح القومي ودار الأوبرا وغيرها.
قليلةٌ هي المرات التي شاهدتُ فيها عروضاً مسرحية حين كنت في الجامعة بدمشق، فباستثناء المتعة التي كانت تُحصَّل جرّاء الذهاب إلى المسرح برفقة الأصدقاء والأحباء؛ لم يكن المسرح بالنسبة إليّ ممتعاً. كنتُ كالغالبية ربما أدرك بأن هذا المسرح ، لم يكن لنا. فقد كنّا كمتفرّجين إحدى أدواته المساعدة على الظهور بمظهرٍ مزخرف مزركش يُظهر للعالم الخارجي كم “سورية الأسد” حضارية! وكان الجسد الممثِّل -ولا أعني هنا خفّته أو رشاقته- في جلّ المسرحيات التي طالما شاهدتُها، كان مجرّد خشبة متماهية والخشبة التي يُمثَّل عليها. أجسادٌ “مثقَّفة”، مدروسة مؤدلجة ومسيَّسة، هناك خطوط حمراء يجب أن تقف عندها، إضافة طبعاً، إلى الحد الذي يفصل بين منصة العرض والجمهور. كيف لا يكون، وكلّ المسرحيات كانت “تحت رعاية”. رعاية وزارة الثقافة مثلاً، هذه التي بدورها تحت رعاية “الأجهزة” المختلفة! كانت الأجساد الممثلة على خشبة المسرح، تكاد تكون أجسادنا نفسها على مسارح المدارس وباحاتها. هناك، حيث الـ “استرحْ. استعدْ. إلى الأمام سِرْ. إلى الوراء دُرْ”. وكانت العلاقة بين الجمهور والممثلين، تكاد تشبه، في جانب خفيّ منها، العلاقة بين الموظفين الحكوميين البعثيين والناس المراجعين، علاقة تمهرها الفوقية والاستعلاء، والكره المتبادل والابتزاز. وعلى الرغم من أن نصوص المسرحيات وأفكارها ومواضيعها كانت أحياناً تلامس معاناة الجمهور وأحلامهم وهواجسهم، إلا أنها كانت أقرب ما يكون ربما إلى حال الفصاميين من البعثيين، الذين يتعمشقون على حزب البعث في شعاراته ومنطلقاته النظرية، التي تنحاز من بعيد إلى العمال والفلاحين وصغار الكسبة، شرط عدم تجاوز “المنصة” وعدم ملامسة هؤلاء باعتبارهم لحماً ودماً لا ثقافة. كمَن يباعد أكثر فأكثر بين قلبَين. المسرح في الجامعة، كان في جزء كبير منه، مجرّد فرصة ذهبية للنسج الشلليّ، ولكي يصبح هذا الطالب أو ذاك نجماً، من طريق تكريس طبقية معيّنة من شأنها جعْل الطالب الممثل أعلى شأناً من زميله المتلقي، وإعطائه تالياً جرعة من التفخيم على طريقة “يا أرض اشتدّي ما حدا قدّي”، خصوصاً إذا ما تم الربط جيداً بين “الاستعراض” و”الفن”، بين شكل معين في اللباس مثلاً أو تسريحة الشعر وبين المسرح بوصفه “عرضاً” لا أكثر. في دار الأوبرا “الفخمة” مثلاً، لا بدّ وأن يشعر جمهورٌ من أمثالنا بالغربة والوحشة هناك، وبأنه بكل تأكيد ليس في “بيته ومطرحه ومسرحه”، حتى وإن كان العرض المسرحي يخصّه “ثقافياً” و”يمثّل” معاناته و”يجسّدها” أمام أنظاره. الممثلون على الخشبة هم قلّة مصطفاة، والجمهور هم مجرّد كثرة. القلة تلك هي “الفاعلة” دوماً، والأعلى تمركزاً، قبالة كثرة متلقية دوماً، مفعول بها، متمركزة على كراسٍ في الأسفل تُطوى وتُفرد بلا معنى كحال الجالسين عليها، وكلّه سيّان. تظنّ القلّة أن عليها امتلاك الكثرة امتلاكاً تاماً من طريق إفنائها، في حين أن لا قلّة ولا مسرحاً ولا عروضاً ولا فناً…ولا حياة؛ من دون الكثرة تلك. من دون كثرة بالمطلق. قد يكون في المشهد هذا، الموصوف هنا في عجالة، تكثيف ما لسلطة متسلّطة، “تثقف”(تدكّ) الجسد أولاً والعقل تالياً، تثقيفاً عنصرياً متعجرفاً، وعْظياً توجيهياً ترهيبياً وتحذيرياً، وتجيّرهما لصالحها. هكذا، كان لا بد من الانتقال إلى مسرح ثائر وثائقيّ يجادل الطوباويّ ويقارعه.
-على مسرح الثورة الشعبية السلمية عام2011:
صار الجسد جسماً. وصارت المنصة، شوارع وساحات وأزقّة وطرقات، والمسرح صار ارتجالياً في المعنى الحقيقي والأصيل للارتجال والعفوية. وصار الجمهور ممثِّلاً فاعلاً، ما عاد متفرِّجاً متلقّياً. كربةُ الموت التي كان يشعر بها الجمهور في ذلّ الكينونة كلّه، حين كان المسرح يشغله جسدٌ “مثقف” (مثبّت) يمثّل على خشبةٍ منفصلة تمام الانفصال عن الحياة الحركية، وحين كان المسرح خاصاً بطبقة معينة أو شريحة معينة من المجتمع السوري؛ أُفرِجت كربة الموت تلك، بعد اندلاع الثورة، فأصبح المسرح للجميع. الكل يمكنه أن “يمثّل” فيه “لا تمثيلاً”. الكل في إمكانه أن يشارك في “تأدية” أدوار الحزن والفرح الحقيقيَّين. الكل يمكنه أن يعّبر عن نفسه فيه ويمثّل نفسه بنفسه. ما عاد هناك متفرّج، الكل مشارك في المسرح الحي في ساحات التظاهر الحية العامرة. صار للمسرح هنا، طابع أنثوي إن جاز التعبير، مغاير للطابع الذكوري الذي طالما مهَرَ المسرح قبل اندلاع الثورة. كيف؟ تجلّت الأنثوية على المسرح الثوري من خلال الرقص الحر والأغنيات الحرة والإيماءات الحرة على وقْع قرْع الطبول، ومن خلال التكاتف والتعاون والتآزر والهتافات النابضة بالمحبة وبوحدة الشعب السوري، والمصير الإنساني والوصل بين الناس “الممثلين” على مسرح الحياة الأنيقة والرشيقة أثناء التظاهرات المهرجانات الحرة المنفتحة والمفتوحة على هذا العالم الواسع، التي كانت تُقام من أجل إسقاط الذكورية الفجّة المتمثلة في نظام ذكوري عسكريّ متسلّط ووحشي، مسرحه عبارة عن خشبة مفصولة عن الحياة، يكرّس الأعلى والأدنى، السيد والعبد، الفاعل والمفعول به، القلة والكثرة، الفوق والتحت، وطبعاً، الاستجابة الآلية للإيعازات والأوامر.
إن”الجسم” الثائر هنا، بدا كأنه انبثق من “الجسد”الذي كان مغيَّباً فيه قسراً، وعتق نفسه من مفهوم ذاك الجسد المطلق، ومن الواحد، واتصل مباشرة بالواقع ككثرة، أي بمكانه الطبيعيّ، الماديّ، اللَّحمي، الحسيّ، الحركيّ، النابض بالتفاصيل وبالأحداث والمتغيِّرات. إن الوضعيّة الجديدة هذه “للجسم” تعاكِس وضعيّة الجسد الذي طالما تَعسْكَر طوال عقود، وتُناقِضها. فقد كان الجسد مقموعاً، تختفي حيويّته خلف وقارٍ متحجِّر، اتّسم به عصر الاستبداد الذي حكم سوريا نحو نصف قرن من الزمن. وتبيِّن تالياً الفارق المهم بين “الجسد” الصنم المثقف المستعبَد، وبين “الجسم” الحر التلقائي الحاضر بكثافته الوجودية والسياسية والجمالية والثورية؛ والقادر على توليد أحداث تاريخية كبرى تقوّض أركان سلطةٍ متجذِّرة، وراسخة بكل صنوف القهر، ما كانت لتقوَّض لو لم يكن “الجسم” الحر المحتجّ حاضراً على “مسرحه” بالترافق والكلمة الثائرة في الشارع. فالتجربة التي خاضها “الجسم” الحر هي الثورة الحقيقيّة التي من شأنها إسقاط ما لا يسقط بالتنظير. هكذا، كشفت الثورة السورية الشعبية السلميّة عن عسفِ الفصل الذي طالما حرص نظام الأسد كغيره من الأنظمة الديكتاتورية، على تكريسه بين الجزء والكل، بين الجسم والروح، بين الفكر والسلوك. أي بين العالم الحسي الفيزيقي والعالم الروحيّ العقليّ.
في معنى ما، أنْ تتقنَ الثورة، يعني أنْ تتقنَ الإحساس بالضحية والجلاد دفعة واحدة. أن تكون قتيلاً وقاتلاً في آنٍ واحد. يقتلكَ الاستبداد؛ فتقتله بقلم ثائر حر مثلاً أو تجلده بلوحة أو “تشبحه” بمقطوعة موسيقية، أو تركله بتظاهرة أو اعتصام على مسرح ثوري تلتقي كل الفنون على “منصته” في الشوارع والساحات والأحياء والفضاءات العامة كلّها بمشاركة الأطفال والنساء والرجال. كل الفنون التقت على خشبة الثورة الشعبية السلمية في سوريا: الرقص، الدبكة، الغناء، التصفيق، قرع الطبول، الرسم، حمْلِ الورود وأغصان الزيتون والشموع والبالونات الملونة، الإنشاد (هل لنا أن ننسى ابراهيم القاشوش مثلاً، وبحّة صوته المذهلة في أغنيته “يلّلا إرحل يا بشار” وغيرها؟!).
مسرح الثورة الشعبية السلمية هو القسم الفني من الإنسان الذي يستحقّ أن ندافع عنه في كل مكان وزمان. إنه “ملحمة” ثورية. جسمٌ من “لحم ودم”، حيّ وحر. إنه تمرّد أسطوري “بروميثيوسي”. فعلى مسرح التمرد يبدو أن ثمة “إلهاً للنار، ثائراً اسمه بروميثيوس، قد رُبطَ إلى عمودٍ قائم في أقاصي الأرض، شهيداً أزلياً، محروماً إلى الأبد، من مغفرةٍ يرفض التماسَها”.
-على مسرح «داعش» الحربيّ، الوثائقيّ:
-1-
أيضاً صار الجسد جسماً، لكن حتماً ليس على غرار الجسم الحر في مسرح الثورة السلمية، في طابعه الأنثوي المُحِب الفرِح والمتعاون، إنما هو هنا هائج مائج، يمور بالغرائز الدنيا التي تنزع عن الإنسان إنسانيته بوصفه كائناً (أو محيطاً) حالماً، أخلاقيّاً، وعاقلاً. مسرح “داعش”، في المعنى “الفني” الضيّق، سيعيد مسرح الثورة إلى الطابع الذكوريّ المتسلّط الذي طالما مهَرَ المسرح السوري قبلَها. سيعيد أيضاً، الحدَّ الفاصل كسيفٍ متقلّب بين المنصّة والجمهور، كتكريس للأعلى والأدنى، للفوق والتحت، للسيد والعبد. لا مراءَ في أنّ بعضَ خصال “مسرح النظام” لا تزال موجودة على “مسرح داعش”: الصراع ضد الحياة، الغرائز الدنيا العمياء، كره الناس واستصغارهم. هذا بعض ما يمكن أن يُلاحَظ مثلاً، في مشهدٍ بُثَّ يوم 4 تموز2015 في شريطٍ مصوًّر من قبَل المكتب الإعلاميّ لما يُعرف بـ “ولاية حمص” التابعة لتنظيم “داعش”، أدّاه مَن يُسمَّون “أشبال الخلافة”، مجنَّدون لدى “داعش”، على المسرح الروماني الداعشيّ في مدينة تدمر الصحراوية الأثرية، حيث أَفرغَ خمسةٌ وعشرون يافعاً رصاصَ مسدّساتهم، في رؤوس خمسةٍ وعشرين عنصراً من قوات نظام الأسد، نُقِلوا كأسرى في سيارات إلى مسرح الإعدام، من سجن تدمر الشهير الذي فجّره التنظيم يوم 30 أيار2015 بعدما سيطر على المدينة.
-2-
معلومٌ أنّ المسرح الروماني، كان أفضل مثال للدراما الرومانية في سوريا، وأنّ الرومان هم مَن جعلوا المسرح عالمياً بعدما كان عند اليونانيين محلّياً. تخبرُنا كتبُ التاريخ والأبحاث أنّ الرومان بنوا المسارحَ ليس للتعبّد بل للتمثيل، فكانت بذلك أكثر رقيّاً من مسارح الحضارات الأخرى، وقد تمرّد الرومان على دراما “الوعظ”، لصالح دراما الترفيه، مستغنين عن الأقنعة، وأحضروا الموسيقى والرقص والمرح إلى المسرح. الآن، ما الذي حصل، حين صار هذا المسرح، “داعشيّاً”؟ ما حصل هو الآتي: انتُقِم أولاً من الأمبراطورية الرومانية وهي الأمبراطورية الوحيدة التي امتدت من قبْل ميلاد المسيح إلى ما بعده، حيث بدأت كأمبراطورية وثنيّة واستمرّت حتى انتشرت المسيحية؛ في محاولةٍ حقودة، للنَّيْل من الفن والحضارة، عبْر تدميرهما، وتدمير الرموز الإنسانية في ذاتها، لطالما كان المسرح، على مرّ العصور، رمزاً للارتقاء والسموّ الروحيّ والأخلاقي والجمالي. فظهرَ “المسرح الداعشيّ”، مسرحاً تكتيكياً واستراتيجياً، يمثّل كل تفصيل فيه، حقيقةً مدروسة وممنهجة وهادفة غائية، تصهر الدين -كما يتصوَّره “داعش”- في الدنيا، وتُبرز فقرَ وسائل تنظيم “داعش” في التعبير، وقلّة محصوله من أوّليات الكلمات اللازمة للمسرح خصوصاً، وحنكته في المقابل، في صناعة الترهيب “الممسرَح”، الذي تجلّى في القتل الاستعراضيّ الهادئ الممتلئ لذّة ونشوة. كان في إمكان “داعش” مثلاً، قتل عناصر نظام الأسد أولئك، دونما تمثيلية مسرحية حيّة، “مجسَّمة لا مجسَّدة”، مخيفة ومرعبة، قوية الإخراج والمونتاج، فضلاً عن الدهاء في استخدام المؤثرات البصرية والسمعية؛ إلا أن التنظيم تقصَّد على ما يبدو، أن يكون الإعدام الممسرح هذا، بمثابة إرواء لغليلٍ ذاتيّ، وعِبرة لمَن يتجرّأ على التنظيم، عقيدةً وحكماً وسلطة وسلطاناً كليّاً وتمدُّداً. تقصَّد أيضاً أن يكون”الآخر”، الخصم والمؤيد، شاهداً متفرِّجاً، سواء كان محلّياً مباشراً أو غير مباشر. فقد كان هناك “جمهور” من أهالي المدينة، بينهم أطفال(هؤلاء الأخيرون تحديداً، سيكونون فريسة المَشاهد المدمِّرة هذه وغيرها)، كان هناك جمهورٌ “يتابع” من على مدرج المسرح، مشهداً حياً، “يمثّل” فيه يافعون واقفون بـ”رصانة”، دورَ القتَلة، وجنود أسرى راكعون، “يمثّلون” دور القتلى القتلة من قبلُ. يمثلون مشهداً مسرحياً مخطَّطاً له بعناية، لكنه مرتجَل من حيث واقعّيته الفجّة وحقيقته “الجسمية” الغرائزية المستنفِرة والمستفِزة. كما أنّ ثمة “جمهوراً” بعيداً، شاهدَ عبر وسائل الإعلام، مشهداً مسرحياً يرمي، على ما يظهر، إلى نزْع صفة الظلم عن الألم، والحثّ على عدمَ الإشفاق حيال جنودٍ عزّل أسرى راكعين لا حول لهم ولا قوة. ويستهدف، في المقابل، إثارةَ الإعجاب بالقتلة الصغار ذوي الملامح الجامدة، والزيّ الموحَّد الشاطب كلَّ فرادة، الواقفين بصرامة في خط مستقيم صارم يعكس ذهنيّة صارمة متطرفة وقاسية، فضلاً عن إثارة الإعجاب بالتنظيم الأب، وقادته – الآباء. إنه القتل الأخطر، لأنه القتل “الرصين”، رصانة مدروسة في المعنى الخبيث المنظَّم، الساخر من القتل العشوائيّ الساذج، ومن الغضب العارض. من خلال هذا كلّه، ربما لا يثير التنظيم الجمهورَ ويشعل “الأكشن” فحسب، بل يجذب أيضاً، كون التنظيم يدرك كم هو منبوذ عالمياً و”ظاهرياً”، على الرغم من كونه مدعوماً ربما “باطنياً” من “أعداء أصدقاء” (إيران مثلاً)!. وعليه، يمعن في جذب الانتباه إليه بحنكة، كلّما شعرَ بازدياد وتيرة النبذ والتحديّ. يشتغل تنظيم “داعش”، بطفلنة ماكرة، على مسألة “الإدهاش”، وإثارة الانتباه إليه، فمسرح الإعدام عينه، ليس سوى واحدة من وسائل الإثارة والإدهاش. فإنْ كنا نريد عدم تحقيق مآرب التنظيم، ينبغي ربما عدم الاستجابة للإدهاش الذي من شأنه تحقيق لذة ما للتنظيم ومبتغى يكمن في رغبته الجامحة بالانتقال من الهامش إلى المركز، ومن موقعِ المثيرِ للاشمئزاز إلى موقعِ المثيرِ للدهشة من طريق الغرابة والشذوذ و”المسرَحة”. فبدلاً من الإندهاش، ربما ينبغي الانصراف إلى تحليل “الظاهرة الداعشية”، عِلمياً مثلاً.
-3-
التنظيم نفسه المعادي الكاره للثقافات والحضارات المختلفة، يريد، من خلال سيطرته على مدينةٍ تاريخية أثرية، مهمّة ومميَّزة من مثل تدمر، تعاقبت عليها حضارات وانتصارات وحقبات، يريد، على ما يبدو، ابتداءَ “حقبة داعشية” فيها، تتسم بالعدمية بوصفها يأساً وإنكاراً، وإرادةَ يأس وإنكار. تتَّسم أيضاً بإعادة بناء أسوار قلاع الإذلال، وفرضِ “إله داعش”، لا”إله الإسلام”، بل إله الحلكة الظالمة، عبر التحطيم الرمزي لآلهة النور من مثل “إله الشمس”، ولكل الآلهة “الأخرى” المختلفة، في مدينة النخيل والرمّان والمعابد والأوابد والطقوس والنحت والفن الذهبيّ، وفي غير هذه المدينة.
إن تصوّر تاريخٍ يتلخّص كلّه كصراعٍ بين خيرٍ وشر، أمسى غريباً بعض الشيء. فمع دخول”داعش” حلبةَ الصراع السوري، بطُل أن يكون صراعاً “مسرحياً” بين خير وشر فقط، أي بين الشعب السوري والنظام الأسدي، بل صار أيضاً صراعاً بين شرَّين، بين النظام والتنظيم وأشباههما من حلفائهما التكفيريين والإرهابيين.
-التربية المسرحيّة الداعشية:
-1-
لأنَّ العِلمَ في الصغر كالنقش في الحجر؛ يمعنُ تنظيم “داعش” في تعليم الصغار القتل. وليس أي قتل، إنه القتل الممسرَح. القتل”الرصين”، “الفنيّ”، الهادئ، المتماسك، المفرَغ من أي شعور بالتعاطف، الممزوج بـ”فنِّ” الإذلال، وانفجار الاحتقار، وتمجيد الدمار في ذاته. يلتمس التنظيم، قوةَ الجريمة النهائية وأسبابها في البراءة التي توسَّمها في أطفالٍ سمّاهم “أشبال الخلافة”، وإنَّ ذلك، في ما أظنّ، لَأخطر ما يمكن أن يمرّ على التاريخ البشري، ماضيه وحاضره ومستقبله. يُحكى أن الثقافة المسرحية الواسعة تفضي إلى فنٍّ مسرحيّ عظيم، وها هو الجهل الداعشي الواسع المتمدِّد، قد أدّى إلى فن مسرحي وحشي. (إنه مسرح الجريمة التاريخية الموصوفة. مسرح الحرب في قبالة مسرح الحب والثورة).
-2-
“ثمة مقطع ينبئ فيه ترتوليان قرّاءه أنّ أكبر مصدر لسعادة الأبرار في الفردوس هو منظر الأباطرة الرومان يحترقون في سعير جهنم(2)“. على المسرح الروماني حين صار داعشياً، قدَّم التنظيم، مشهداً مسرحياً تربوياً من شأنه، كما يعتقد التنظيم ويرمي، أن يشكّل لدى “جمهوره” مصدراً للسعادة الكبرى، عند رؤية جنود النظام الأسدي “النصيريين-الكفّار”، وهم يُعدَمون على المسرح (ويحترقون في سعير جهنّم داعش!).
-3-
في الحديث عن تربية “داعش” المسرحية، لا بدّ أن نكون أمام سؤال كالآتي: على مسرح الإعدام الداعشي، أمامه، وخلف كواليسه، تُرى مَن هو المجرم الحقيقي؟ الذين نفّذوا الجريمة مباشرة، أي “أشبال الخلافة”؟ الجنود الأسرى القتلى القتلة من قبلُ؟ قادة “داعش” أو أمراؤه المجنِّدون لأولئك اليافعين منفّذي الجريمة؟ الأمير العمومي للتنظيم (البغدادي)؟ نظام الأسد؟ الرئيس العمومي لهذا النظام (بشار الأسد)؟ المجتمع الدولي أو النظام العالميّ؟ الأنظمة كافة إقليمياً ودولياً، المعادية لثورات التحرر الشعبي، خصوصاً الثورة السورية؟ قادة الدول الكبرى وحكوماتها، تحديداً أميركا وروسيا؟ مجلس الأمن؟ إسرائيل؟ “التحالف” العربي- الدولي ضد تنظيم “داعش” الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية؟. قد لا نجانب الصواب إن قلنا إن هؤلاء جميعهم يتحمَّلون مسؤوليةَ الجريمة هذه وغيرها في سوريا التي باتت برمّتها ربما مسرحاً للجريمة المنظمة والعشوائية. يتحمّلونها بشكل مباشر أو غير مباشر، وبدرجات متفاوتة كلّها قاتلة، وكلٌّ بحسب موقعه وتأثيره المباشر أو غير المباشر، وإفادته ومصلحته ومنفعته.
-4-
“ممثلو” الجريمة الحية على مسرح داعش الحربي، شأنهم شأن قوات النظام والشبيحة حين يعذِّبون عزلاً في المعتقَلات، وحين يقنصون، أو يقصفون من بعيد مدناً وبلدات آمنة آهلة بمدنيين، ويعزفون عن مبارزة حقيقية وشجاعة وجهاً لوجه. رجلاً لرجل. ندَّاً لند. أيضاً تنظيم “داعش”، تراه على هذا المسرح وغيره، لا يملك من قيم القتال الشجاع وأخلاقه شيئاً. ولا يجيد فنَّ المبارزة والتحدّي على حلبةِ المسرح، الذي يبيِّن القوي حقاً من الضعيف حقاً، المنتصر حقاً من المهزوم حقاً. وهل من بطولةٍ أصلاً أو رجولة في قتلِ فتيان مسلّحين لأسرى عزل راكعين؟!
-5-
قلنا إن “أشبال الخلافة” شركاءٌ في الجريمة. لكن هؤلاء مثيرون للحزن والألم أيضاً، كونهم صغاراً حلَّ عليهم الشقاء، كمَن لُفِظ من قلعةٍ، ورُمي به على الأسوار في انتظار الخلاص. أن تقتلَ إنساناً فهذا أمر مفهوم ربما، لكن أن تدفع بشخص آخر إلى قتله، ويكون هذا الشخص طفلاً أُلقيَت فيه قسراً وتخطيطاً روحُ الشر السوداء، لَمدعاة للذهول والهول والغلّ!
يربّي التنظيم “أشبال الخلافة”، مسرحياً، كمثلِ تربية النظام “طلائع البعث”؛ ساعياً سعياً محموماً إلى غسلِ الأدمغة، وغرسِ الغلّ في نفوسٍ ناشئة ضعيفة، وشدّ عُودهم الطريّ لكي يقسو إجراماً ويجعل الجريمة والقتل مقبولَين في أذهان أهل الابتداء، على اعتبار أنّ بواطن المبتدئين قابلة للنقش دونما نقاش، ولكي يجبرَ القلوب على أن تقسو، متلذِّذةً بآلامِ مَن هم موضوع الحقد(الجنود الأسرى في مثالنا هنا). ترى كيف نام أولئك الأطفال بعد تأدية أدوار القتلة في ذاك اليوم المسرحيّ “الجسميّ اللحميّ” الحافل؟ ماذا أكلوا؟ بماذا شعروا؟ هل لعبوا؟ وهل رُدِمت هواجس ذاك النهار بكوابيس الليل المهولة؟. مَن يدري؟ قد يأتي يوم يركع فيه أولئك الأشبال أنفسهم ويكون ثمة أشبال جُدد خلفهم يؤدّون دورَهم نفسَه على مسرح الحرب نفسِه. كون ما يجري هو على هذا النحو: تأسيسٌ ممنهج للقتل العدميّ، الثأريّ، الدائم والمستمر.
-“إله داعش” الممسرَح باعتباره توأمَ “إله التوراة“:
-1-
لسنا هنا في صدد إله أو آلهة الفلاسفة، المتصوِّفة، الشعراء، العشّاق، الخصب، الطبيعة(الشمس، المطر، الليل، الهواء، العاصفة..)، ولا في صدد إلهٍ عادل يفيضُ بالخير على الكون، يهبُ الحياةَ والرحمة والحبَّ، ويتجلّى في صورة أنثوية(إيزيس، عشتار، إنانا، أرتيمس). إنما نحن في صدد إلهِ تنظيمٍ في الإمكان استشفاف بعضٍ من صفاته المتجلّية خصوصاً، على مسرح مدينة تدمر، وفي ضوء خطاب أحد قيادييه، بعد تفكيكه. ففي الشريط نفسه المذكور آنفاً، الذي بُثَّ فيه مشهد الإعدام إياه على المسرح الرومانيّ الداعشيّ، ألقى قياديّ في التنظيم، خطاباً وجّه خلاله ثلاث رسائل. الأولى: إلى “عامة المسلمين”، قال الخطيب الداعشي في خصوصها: “يا رعيّة خليفة المؤمنين، والله لننصرنّكم ولو أبغضتونا، ولنذودن عن أعراضكم ولو كرهتمونا، وهذا أمر الله عز وجل”. ليست الرسالة هذه موجَّهة إلى ناسٍ أحرار إذاً، يملكون قرار حياتهم وشؤونهم ومصائرهم، إنما هم مجرّد “رعية لخليفة المؤمنين”، قطعان ينظّم التنظيم حياتَهم وموتَهم بعدما دخلوا جحيمَ الضرورة. أما “النصر على رغم البُغض”، و”الذَّود عن العرض على رغم الكره”، فهذا ممّا يدخل في نطاق الرّشوة الكلامية ربما، واللعب على وترِ اللغة الحسّاس، والمواضيع الواقعية الحساسة التي تستثير عاطفةً جيّاشة. تجدر الإشارة هنا، إلى أنّ التنظيم، يلجأ إلى وسائل وسبُلٍ كثيرة من شأنها دفعُ الناس للانضمام إليه، مستغِلاً الفقرَ والجهلَ، فهو مثلاً، بحسب ناشطين ميدانيين، يلجأ إلى عزل مدينة تدمر عن العالم عبر قطع الإنترنت والاتصالات كافة، من أجل الاستفراد بالعقول والنفوس والهيمنة عليها بما يتفق وعقيدة التنظيم ومآربه.
أما الرسالة الثانية فوجَّهها الخطيبُ نفسه إلى زعيم تنظيمه، البغدادي، حيث قال: “إننا والله في هذا اليوم نفي بقسَمك الذي أقسمت، عندما قلتَ يا خليفتنا: والله لنثأرن، ولو بعد حين لنثأرن، ولنردّ الصاع صاعات، ولنردّ المكيال مكاييل”. لُغوياً، اعتدنا على سماع عباراتٍ قريبة من هذه، لكن، يُردُّ فيها الصاع صاعَين لا أكثر. والمكيال مكيالَين لا أكثر، غير أنّ الصاعَ في قسَم “الخليفة” عينه، يُرَدُّ “صاعات”، والمكيال “مكاييل”!. ما يعني أن الحقد هنا ليس من شأنه الوقوف عند حد، بل هو “متمدِّد” عابر للحدود.
قبل أن يعلن الخطيب أخيراً، أن “أشبال الخلافة” سيقيمون حدَّ الله في أسرى “النصيرية”، وجّه رسالته الثالثة والأخيرة إلى الحكّام العرب، الذين نعتَهم بالطواغيت، متوعِّداً بوصول جنود “الخلافة” إلى عقر ديارهم. إذاً، عداء التنظيم الأول ليس لأميركا وإسرائيل والغرب “الكافر”، مثلما نكاد نجزم أنه ليس لأولئك “الطواغيت” أيضاً، كون التنظيم مشكلته الكبرى والرئيسية، كما بيّنت التجربة والوقائع على مرّ سنوات، ليست مع الأنظمة الحالية، وإن بدا ظاهرياً أنه في حال عداء معها وحرب ضروس. إنما عداءه الحقيقي للناس، لشعوب المنطقة بمن فيهم “السنّة” المختلفون معه في الرؤية، لمَن يسمَّون “أقليات”، للثورات وأهلها، للحرية، و”لدول” قائمةٍ، يريد تفكيكها وإزالة الحدود في ما بينها، لغاية إقامة “دولته” وتطبيق شريعة “سمائه” و”إلهه” على “أرضه”. ولما كان مشهد الإعدام الممسرَح موضوع النقاش هنا، يُظهر للعالم في معنى ما، أن التنظيم هو في حال خصومة وعداء تام مع نظام الأسد، فإن هذا لا يعني أن ذلك لا يصبّ في مصلحة النظام، ولا يعني أنه ليس هناك تحالف ضمنيّ بينهما، كشفه الكثيرُ من وقائع يصعب حصرها خلال السنوات الماضية، لا بل إن تدمر، بحسب مداولاتٍ إعلامية وتخمينات وتحليلات سياسية وعسكرية، ربما يكون النظام قد “سلّمها” إلى التنظيم.
-2-
عداءُ التنظيم، لا يقتصر على الحضارات والثقافات الأخرى، والديانات الأخرى، والقيم الإنسانية، وكل “آخَر” مختلف، بل هو في حالٍ من ذكورية شرسة، من أبوكاليبتية تعطي للعالم جوهراً ثابتاً هو محض موت ودمار؛ تعادي الأنوثة في ذاتها، أو تعادي الجانب الأنثوي من الحياة والإنسان والمدن، والمكان والزمان. وعليه؛ فإن مجرّد تسمية تدمر “مدينة الفاتحين”، حسبما أعلنَ أحد قياديي “داعش” في الخطاب المذكور نفسه، يؤكّد ما ذهبنا إليه في الآنف من هذه السطور، في شأن سعي التنظيم إلى ابتداء “حقبة داعشية” في المدينة، تقوم على أساس نسفِ الذاكرة، وطمسِ ما سبق من حقبات ومراحل، وما تعاقب على المدينة من حضارات وانتصارات..؛ واستعداء الجانب الأنثوي للحياة عموماً ولمدينة تدمر خصوصاً، المتجلّي في كونها مقرونة مثلاً، باسم زنوبيا، حيث كانت تدمر، في حقبة سابقة، تحت حكم الملكة الشهيرة تلك. والمتجلّي أيضاً في جمال المعابد والآثار والمنحوتات وحكمة النخيل وامتداد الصحراء الغامض المسترسل.
-3-
استناداً إلى المحاولة السابقة في تفكيك الخطاب المذكور، صار في الإمكان ربما بلورة صفات خاصة بـ”إله داعش”، ومقابلتها أو مقارنتها وإله اليهودية في “التوراة” المتعدِّد الأسماء من مثل:”يهوه، ياهو..”. “فإله داعش” محتال ومخاتل على الله الحقيقي الخيّر العادل المحب، ولا يتّخذ من السماء مرتعاً متعالياً على النقائص، بل يلتصق بالأرض. وعليه، فإن راية التنظيم التي طالما احتلّت منتصف المسرح الروماني المهيب في جمال أعمدته ومنصته ومدرجه وبوّاباته وكواليسه، شاطرةً الحياة بين أبيض وأسود خالصَين. بادئةً بالله من الأعلى “الله رسول محمد”، على عكس المعتاد “محمد رسول الله”، هي راية كاذبة، لأن الله وفق ما نراه في التجربة الحية، لا متعالٍ، لا مترفّع، ولا ينتمي إلى السماء كما يُفترَض بداهةً، بل هو مشارك في نقائص الأرض وفي شرور الإنسان وحروبه وعداواته. إله داعش هذا، ليس لطيفاً لطافة روحانية، إنه كثيف، إنه “جسم”، إنه واقع. لعلّ اسم الشريط الذي بُثَّ فيه مشهد الإعدام الممسرَح ذاته، أي: “ويشفّ صدورَ قومٍ مؤمنين”، يُظهر كم هو حقودٌ “إله داعش” هذا، وعنيف وقاسٍ ومتعطِّش للدماء ويتبع هواه. ربما يشبه هذا الإله، الربَّ المنتقم في التوراة حين يقول: “أمحو عن وجه الأرض الإنسانَ الذي خلقتُه، الإنسان مع بهائمَ ودباباتٍ وطيورِ السماء؛ لأني حزنت أني عملتهم(3)“.
-4-
انتقام “إله داعش” من مدينة تدمر وحضارتها، ومن أعمال الناس فيها، ومن الشعب السوري الواحد، يأخذنا إلى التوراة أيضاً، حيث ينتقم الله الحانق، من أعمال البشر الذين يقيمون الحضارة في مدينة “بابل” ومن برجها الهائل. تقول التوراة: “هو ذا شعبٌ واحد ولسانٌ واحد لجميعهم، هذا ابتداؤهم بالعمل، والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه. هلمَّ ننزل، ونبلبل هناك لسانهم، حتى لا يسمع بعضُهم لسانَ بعض. فبدَّدهم الربُّ من هناك على كل الأرض، فكفُّوا عن بنيان المدينة. لذلك دُعِيَ اسمها بابل، لأن الرب هناك، بلبل لسان كل الأرض، ومن هناك بدَّدهم الربُّ على وجه كل الأرض(4)“.
عداء “إله داعش” لكلِّ “آخَر” مختلف، وكرهه له، يُظهره كإله عنصريّ يشبه إلهَ اليهود العنيف الذي ينتقم من الناس لصالح بني إسرائيل(شعب الله المختار!). تقول التوراة على لسان الرب في خطابٍ إلهيّ موجَّهٍ إلى النبي موسى وأخيه هارون وأهلهما اليهود الذين كانوا يقطنون مصرَ بحسب التوراة: “فإني أجتاز في أرض مصر هذه الليلة، وأضرب كل بِكْر في أرض مصر، من الناس والبهائم، وأصنع أحكاماً بكل آلهة المصريين، أنا الرَّبُّ، ويكون الدَّمُ علامةً على البيوت التي أنتم فيها، فأرى الدَّمَ وأعبر عنكم، فلا تكون عليكم ضربةُ الهلاك، حين أضرب أرض مصر(4)“.
-5-
في العودة إلى “التربية المسرحية الداعشية”، نرى أنها تربية من شأنها أن تجعل القتل والجريمة عموماً كالاغتصاب (التعاطي مع النساء كسَبَايا واغتصابهن. ما جرى لنساء “الطائفة الأزيدية” قد يكون المثال الأكثر وضوحاً ها هنا) والسرقة وغيرها، تجعلها أمراً مقبولاً. ربما تشترك التربية هذه، مع ما تربّي عليه وتفضي إليه وتؤدّي، قصصٌ توراتية جاءت مناقِضةً للقيم الإنسانية التي طالما اجتهدت الحضارات قبل تدوين التوراة بقرون من أجل إرسائها في وجدان البشر المتحضّرين. فالنصوص التوراتية هذه، تستخفّ بحقوق البشر من غير اليهود، ويمسي القتل معها وجرَّاءها؛ مباحاً مادام يُنفَّذ باسم الرب. من أمثلة القصص التوراتية تلك: قتل الأخوة للانفراد بالحكم (قصة سليمان). تبجّح القتلة في مسألة حماية الله لهم حسبما ورد في قصة قايين(قابيل)، فقد قتل قابيل أخاه هابيل ثم أعطاه الله وعداً أو “عهداً” بأن مَنْ يقتله سيقتُل الله منه سبعة!. ( لنا أن نلاحظ هنا كيف أن الجريمة محمية ومصانة من الرب ولا يُعاقَب عليها. لنا في المقابل أن نُسقطَ ذلك على ما جرى ولا يزال في زماننا هذا، من حمايةٍ للقتَلة وصونٍ للجريمة، في ظلِّ غياب كل عقاب. هنا أيضاً ربما يمكن التأمّل في إلهٍ آخر، هو “إله هذا العالم بالذات”(المجتمع الدولي. النظام العالمي هذا)، لَكم هو ظالمٌ هذا الإله! يستنزل اللعنات بلا رحمة، يترك القتلة يسرحون ويمرحون، ويمارسون الجريمة الشاملة باسمه، ومن خلاله يُصانون!. “إله هذا العالم بالذات” محشوّ بالفظاعات أيضاً شأنه شأن “إله داعش” و”الآلهة الأسدية”. (الحشو صنو الخواء، وكل شيء يمضي نحو العدم. إذ أكبر تأكيد كلّي يتطابق مع أكبر تدميرٍ كلّي!).
يتحدث الباحث يوسف زيدان(5) مثلاً، عن خطورة بعض النصوص التوراتية، وما ترسمه من صفات إلهية لا يُستحبّ أصلاً إطلاقُها على البشر، ناهيك عن الله. أي الصفات الناتجة عن قصصٍ يظهر فيها الله: قلِقاً، حسوداً، حقوداً، غضوباً، نادماً، ناسياً، منتشياً برائحة الشواء، مغلوباً… وهي صفات إنسانية رديئة، ألحقَتْها التوراة بإله بكل وضوح، ومن دون أي مواربة، فنشأت مشكلة كبرى، ظهر أثرها لاحقاً، هي ارتباط “الصفات” بالذات الإلهية.
هوامش:
1– ألبير كامو، “الإنسان المتمرّد“، ترجمة نهاد رضا، منشورات عويدات، بيروت–باريس.
2– التوراة، سفر التكوين6: 7
3– التوراة، سفر التكوين11: 5–9
4– التوراة، سفر الخروج 12:12
5– يوسف زيدان، “اللاهوت العربي وأصول العنف الديني“، دار الشروق، الفصل الأول، “جذور الإشكال: الله والأنبياء في التوراة“. يفتتح الكاتب كتابَه هذا بـ“تنويهٍ” نعتقد أن ذِكره هنا مهمّاً: “لم يُوضع هذا الكتاب للقارئ الكسول، ولا لأولئك الذين أدمنوا تلقّي الإجابات الجاهزة، عن الأسئلةِ المعتادة، وهو في نهاية الأمر كتابٌ، قد لا يقدِّم ولا يؤخِّر“.
ملاحظة: ليس الحديث عن “مسرح الثورة الشعبية السلمية“وموقعه في “الوسط” هنا، بعدَ الحديث عن “مسرح النظام“، وقبلَ الحديث عن “مسرح داعش“؛ من قبيل صدفةٍ بحتة،أو تسلسلٍ تاريخيّ بحت. سأتركُ للقارئ أو القارئة الكريمَين، فرصة التفكّر الحرّ في أسباب ذلك.
أجزاء سابقة من الكتاب:
الجزء الأول (1) – الجزء الثاني (2) – الجزء الثالث (3) الجزء الرابع (4) الجزء الخامس (5)
الجزء السادس (6) الجزء السابع (7)