يقول السيد فياض للمحكمة بأنه تعرض ل “الشبح لفترة طويلة”. وأنه تبعاً لذلك لا زال يعاني من صعوبات في قدميه وساقيه.
26 / تموز / يوليو / 2021
المصدر: رابطة الصحفيين السوريين | حسام القطلبي
يراقب السوريون هذه الأيام، في سوريا والعالم، الفصول المتلاحقة من محاكمة الضابط السابق في جهاز المخابرات العامة السوري “أنور.ر”، في مدينة كوبلنز الألمانية.
المتهم أنور هو أحد متهمين اثنين تجري محاكمتهما في ألمانيا بشبهة ارتكاب جرائم تعذيب بحق معتقلين في سوريا، ما قد يعتبر جريمة ضد الإنسانية. وكان الاختصاص العالمي Universal Jurisdiction في القانون الألماني قد أفسح المجال أمام شهود من ضحايا التعذيب في سوريا، لتسجيل شهاداتهم لدى الشرطة الألمانية. وقام 25 شاهداً من هؤلاء بتقديم ادعاء مشترك على المتهمين أنور. ر وإياد. غ، أمام السلطات القضائية الألمانية.
يمثل هؤلاء محامون مختلفون أمام المحكمة المذكورة. وتشكل هذه المحكمة بالنسبة لكثير من السوريين بارقة أمل في العدالة وفرصة لإنصاف عشرات الآلاف من ضحايا التعذيب في سوريا من المعتقلين والمغيبين قسراً، أو لأهالي وأحبّة آلاف السوريين ممن قتلوا تحت التعذيب داخل السجون الرسمية وأماكن الاحتجاز غير الرسمية والفروع المختلفة التابعة للمخابرات السورية.
يحصل هذا في وقت أغلقت العدالة الدولية منذ البداية أبوابها في وجه كل هؤلاء الضحايا، حيث لا إمكانية حقيقية لتدخّل المحكمة الجنائية الدولية بسبب عدم توقيع النظام السوري على الاتفاقية الدولية الخاصة بالمحكمة، ووقوف الفيتو الروسي والصيني في مجلس الأمن عائقاً أمام أي فرص لتحويل ملفات العدالة هذه إلى المحكمة الجنائية الدولية.
معركة السردية السورية
دخل النظام السوري مبكراً في مرحلة هذيان خرافي في سرديته، وكان سباقاً لتلبس وانتحال دور الضحية منذ البداية في العام 2011، وبأنه لجأ إلى العنف كدفاع عن النفس، حين قدم سردية تتحدث منذ اليوم الأول عن إرهابيين ومتطرفين ومؤامرات دولية تحاك ضد سوريا، في وقت كانت فيه عجلة فتكه بالمتظاهرين السلميين تتصاعد فصولاً وتتدرج بشكل متسارع في وحشيتها وانفلاتها من كل القواعد التي تربط الحاكم بمحكوميه.
الأكيد اليوم في سوريا هو أنه، قبل كل هذا، يجب خوض معركة توثيق السردية وحفظها، لحين الوصول إلى لحظة سياسية وظرفية نوعيّة تسمح بانطلاق مسارات للعدالة بغرض إنصاف الضحايا. وهذه المعركة هنا ليست مع نظام الأسد وحده، بل مع أطراف أخرى قد تكون قدمت روايات غير دقيقة لأسباب مختلفة. هذه سمة ميّزت أيضاً مسارات عالمية مختلفة للعدالة. يساهم هذا النوع من الروايات في ضرب مصداقية ضحايا حقيقيين والتشكيك في رواياتهم، ويكون من شأنه إلحاق أذى بالغ بعملية العدالة ومساءلة مرتكبي جرائم الحرب نفسها.
لسنا أمام فبركات سردية النظام وحدها، بل أن أطرافاً أخرى قدمت روايات غير دقيقة ضربت مصداقية ضحايا حقيقيين وأدت إلى التشكيك في رواياتهم، كرواية انشقاق النائب العام في حماه، عدنان بكور عام 2011 في حين أنه اختطف وقتل
سبق أن قدم نشطاء وإعلاميون أحداثاً غير حقيقية. كمثل رواية انشقاق النائب العام في حماه، عدنان بكور، في آب/أغسطس 2011 في حين أن الرجل قد اختطف وقتل. أو تزوير رواية اعتقال وقتل منشد الثورة السورية في حماه، إبراهيم قاشوش، واقتلاع حنجرته ورميه في نهر العاصي. أو تبني ميليشيا لواء الإسلام تفجير خلية الأزمة وسط دمشق في تموز/يوليو 2012.
من الأمثلة الأخرى أيضاً، ناشطة ظهرت على وسائل إعلامية لتتحدث عن اغتصابها في السجون السورية وتبين لاحقاً عدم صحة روايتها، ما أساء لقصص ومصداقية كثيرات من ضحايا الاعتداء الجنسي الحقيقيات من المعتقلات السوريات. وتقديم معارض سوري شهادة تلفزيونية في برنامج مباشر متهماً المتحدث الآخر باسم النظام السوري في البرنامج من دمشق، بأنه محقق متعاقد مع المخابرات السورية وقد أشرف على اعتقاله وتعذيبه شخصياً، وهو لم يكن معتقلاً ففي أي وقت في سوريا. أيضاً فبرك مخرج سينمائي سوري عملية لاغتياله وطعنه في إسطنبول ونسبها للنظام السوري.
تخرج دائماً في الحروب والنزاعات روايات مخالفة للحقيقة. بشكل أساسي يكون هناك رواية للضحية وأخرى للجلاد. ولكن روايات أخرى كثيرة قد تتفرع عن ذلك أيضاً. في النزاعات التي كان لها حظ الظرف السياسي الذي يسمح ببدء مسار للعدالة والمحاكمات كان هناك وصول أكبر لمصادر المعلومات، ما أخضع السردية والروايات للتدقيق والنظر فيها بتمعّن من قبل قضاة ومحامين ومدعين عامين محترفين وإعلاميين استقصائيين. كمبوديا ونظام الخمير الحمر، راوندا ومحاكمة جان بول أكاسيو أيضاً، نازيو ألمانيا في منتصف العقد الماضي وأمثلة غيرها قدمت نموذجاً جيداً عن تدقيق السردية، رغم مسار المحاكمات الطويل والمعقد والمكلف الذي خاضته هذه التجارب.
لكن السمة الأساسية لهذه الأحداث جميعاً أن النظام الحاكم فيها كان قد سقط قبلاً، ما أفسح المجال أمام الوصول إلى مصادر المعلومات والبيانات الرسمية وتدقيقها على نحو موضوعي إلى حد بعيد. في الحالة السورية فإن النزاع لا يزال قائماً بأشكال مختلفة طالما أن النظام السياسي الحاكم لا زال موجوداً، وكان السؤال الملح دائماً هو عن كيفية التأسيس لمسارات ما اصطلح على تسميته ب”العدالة الانتقالية” توازي وتزامن الصراع نفسه Transitional Justice during conflict، ما قد يشكل سابقة عالمية في هذا النوع من النزاعات، حيث لا أمثلة سابقة حقيقية تصلح للقياس عليها.
ورغم أن محاكمة مجرمي الحرب ومرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، أو العدالة العقابية Punitive Justice، هي أحد الآليات الأساسية في موضوعة “العدالة الانتقالية”، والتي يفترض أنها سوف تقدم كبار المسؤولين في النظام لمحاكمة وتتعاطى مع وقائع العنف في سوريا من وجهة نظر المسؤولية الشخصية لمجرمين أفراد. هي هنا في حالة محكمة كوبلنز في ألمانيا، تقتصر على محاكمة ضابط مخابرات منشق سبق وأن عمل بعد انشقاقه مع المعارضة السياسية كمستشار أمني لـ”الهيئة العليا للتفاوض” ورافق وفد المعارضة في مفاوضات جنيف 2 في العام 2014.
شهادة متناقضة التفاصيل أمام محكمة كوبلنز
يُقَدَّم المخرج السوري فراس فياض على أنه أحد المدّعين وشاهد أساسي في قضية التعذيب في فرع الخطيب التابع لإدارة المخابرات العامة في سوريا.
وكان السيد فياض قد أدلى بشهادته أمام المحكمة يومي 3 و4 حزيران/يونيو 2020 ثم خرج من المحكمة ليدلي بتصريح لوسيلة إعلام أميركية حول شهادته حيث تحدث عن تعذيبه وتعرضه للعنف الجنسي والاغتصاب داخل الفرع 251 (الخطيب) التابع لإدارة المخابرات العامة في الفترة التي كان فيها المتهم الرئيسي في القضية أنور ر رئيساً للفرع. سبق هذه الشهادة، شهادة أخرى تقدم بها السيد فياض مع شهود آخرين للشرطة الألمانية في وقت سابق في مرحلة جمع الشهادات قبل تقديم المدعي العام الألماني القضية أمام قضاء بلاده.
نشر المركز الأوربي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان ECCHR تقريراً عن الجلسات حيث تواجد موظفون تابعون للمركز داخل قاعة المحكمة بغرض مراقبة المحكمة، ويقوم المحامي التابع للمركز باتريك كروكر بالترافع أمام المحكمة باسم عدّة مدعين رئيسيين في القضية. ثم قام أيضاً “المركز السوري للعدالة والمساءلة SJAC و”مركز البحوث والوثائق الدولية لمحاكمات جرائم الحرب”، بنشر تقرير آخر تضمن محاضر جلسات مفصلة للمحكمة وأقوال الشهود والأسئلة التي وجهت لهم من قبل المحامين وهيئة المحكمة.
اعتمد هذا التحقيق على اقتباس أقوال الشهود الواردة في هذه الوثائق غير الرسمية لمحاضر جلسات محكمة مدينة كوبلنز الألمانية.
تواريخ اعتقال مختلفة
يقول السيد فياض في شهادته أمام المحكمة أن تاريخ اعتقاله الأول كان في نهاية آذار/مارس 2011، وأن هذا الاعتقال قد استمر لمدة شهرين.
ويتحدث السيد فياض عن اعتقاله الثاني، ويذكر أنه كان في شهر آب/أغسطس 2011 من مطار دمشق الدولي. قبل أن تشير القاضية في المحكمة إلى أنه ذكر تاريخاً مختلفاً في الإفادة التي قدمها للشرطة الألمانية سابقاً.
تشير كل توثيقات المؤسسات السورية الحقوقية والمنظمات الدولية المعنية إلى اعتقال السيد فياض على فترتين. حيث اعتقل أولاً من مقهى انترنت في ضاحية حرستا بدمشق، وامتدت فترة اعتقاله الأولى من 30 نيسان/أبريل 2011 حتى 13 أيار/ماي (13 يوماً). أما الاعتقال الثاني فكان من مطار دمشق الدولي بتاريخ 1 كانون الأول/ديسمبر 2011 قبل أن يقرر قاضي التحقيق بحلب الإفراج عنه بتاريخ 20 شباط/فبراير 2012 (80 يوماً).
تتضارب أقوال الشهود في محكمة كوبلنز كشهادة المخرج السوري فراس أمام المحكمة بأن تاريخ اعتقاله الأول كان في نهاية آذار/مارس 2011، وأن هذا الاعتقال قد استمر لمدة شهرين، بينما تكشف التواريخ المثبتة سابقاً من محاميه لوكالة فرانس برس حقائق مختلفة
وهذه التواريخ مثبتّة سابقاً بتصريحات لمحاميه السيد أنور البني لوكالة فرانس برس مباشرة بعد الإفراج عن موكله، حيث أشار أيضاً أن موكله كان اعتقل من مطار دمشق الدولي بتهمة الانتماء لـ “تيار بناء الدولة”. بل أن السيد فياض نفسه قد أكد في وقت سابق تاريخ الاعتقال هذا في مقابلة له ولزوجته السيدة أليسار حسن مع CNNالأميركية ويروي فيها قصة اعتقاله وانتظار زوجته له.
كما يؤكد بيان سابق لمنظمة “مراسلون بلا حدود” أن السيد فياض قد اعتقل يوم 1 كانون الأول/ ديسمبر 2011، ما ينفي بدوره أن السيد فياض قد قضى عيد ميلاده في أيلول/ سبتمبر 2011 في السجن كما ورد في شهادته أمام المحكمة. ثم عادت المنظمة نفسها وأصدرت بياناً لاحقاً تؤكد فيه الإفراج عن السيد فياض بتاريخ 20 شباط/ فبراير 2012 وتعيد تأكيد تاريخ الاعتقال أيضاً. كما ذكرت مؤسسة Freemuse Arts Freedom أيضاً في بيان لها تواريخ الاعتقال الحقيقية.
وعلى أن مدة فترتي الاعتقال معاً هي ثلاثة أشهر. ولكن السيد فياض يذكر في أماكن متنوعة تواريخ ومدداً مختلفة لاعتقاله. استطاع البحث هنا حول هذه النقطة تحديد 18 رواية مختلفة قدمها السيد فياض عن مدة وتواريخ اعتقاله، تراوحت جميعاً بين 8 أشهر ووصلت حتى مدة سنتين في بعضها.
هناك 18 رواية مختلفة يقدمها المخرج السوري فراس فياض عن مدة وتواريخ اعتقاله، فهل من الممكن أن يخطئ معتقل مدة وتاريخ اعتقاله إلى هذه الدرجة؟
يقول السيد فياض في مقابلة مصورة في العام 2017 أنه اعتقل لمدة 11 شهراً، ثم في مقابلة أخرى لموقع IndieWire العام 2018 يذكر أنه اعتقل لمدة 15 شهراً. وهنا في مقابلة مع الجزيرة الإنكليزية العام 2012 يقول إن اعتقاله الثاني استمر لأربعة أشهر، وفي العام 2019 قال السيد فياض لصحيفتين هولنديتين مختلفتين هما Het Parool وFilmKrant أنه اعتقل لمدة سنة ونصف، ويقول السيد فياض أيضاً في العام 2015 في موقع زمالة لطلبة جامعة استراليين إنه اعتقل لمدة ثمانية أشهر، ويذكر أنه قابل أحد الأشخاص الذين قاموا بتعذيبه في الشارع وأكمل طريقه!
ليس من المرجح أن ينسى أي معتقل تاريخ اعتقاله إلا في ظروف شديدة الخصوصية والاستثنائية. وحتى ضمن هذه الظروف لا يقدم المعتقلون السابقون كل هذا العدد من الروايات المختلفة عن اعتقالهم. يذكر المعتقلون تواريخ اعتقالهم وإطلاق سراحهم أكثر من تواريخ ميلادهم أو زواجهم أو ميلاد أبنائهم.
يقول السيد فياض للمحكمة عن مشاهداته داخل فرع الخطيب، إنه لم يشاهد جثثاً. وأنه شاهد طفلاً واحداً في مكان الاحتجاز الجماعي ولم يشاهد نساء لكنه سمع صراخهن واستغاثاتهن من الضرب. ويقدم السيد فياض روايات أخرى مختلفة في تصريحات إعلامية سابقة. يذكر هنا مثلاً في مقابلة تلفزيونية أنه شاهد الكثير من جثث الأطفال والنساء في مكان اعتقاله.
يذكر السيد فياض للمحكمة عن رحلة عبوره للحدود السورية الأردنية رفقة 200-300 سوري، ويذكر في تصريحات إعلامية سابقة أنه عبر الحدود رفقة 80-90 سوري.
يذكر السيد فياض أيضاً في كلامه للشرطة الألمانية أن المحقق أخبره باسمه الصريح، في حين قال في شهادته للمحكمة إنه استدلّ على الرجل من خلال شامة تميز الوجه. ولا تذكر أي شهادات مثبتة لمعتقلين سابقين في ظروف مماثلة أن المحقق كان يعرّف باسمه في جلسة التحقيق، بل أن إخفاء هوية المحقق هو جزء من إرهاب التحقيق نفسه عدا عن كونه سمة أساسية تطبع علاقة السجّان أو المحقق بالمعتقلين.
قال السيد فياض للمحكمة عن مسيرته الدراسية، إنه أنهى دراسة السينما في فرنسا باللغة الإنكليزية لمدة ثلاث سنوات قبل أن يعود إلى سوريا. ويقدم نفسه في مقابلات صحفية أنه قد حصل على شهادة البكالوريوس في الفنون السمعية والبصرية وصناعة الأفلام من معهد EICAR في فرنسا باللغة الإنكليزية، وتقدمه الصفحة الوحيدة باسمه على موقع LinkdIn على أنه حائز على درجة البكالوريوس من المعهد المذكور.
كان هذا التفصيل ملفتاً للنظر عند متابعة مقابلات للسيد فياض يتحدث بها باللغة الإنكليزية. بعد سؤال معهد EICAR عن الموضوع، نفى المعهد برسالة رسمية وجود السيد فياض ضمن لائحة الخريجين في العام 2006، وعند إعادة سؤال المعهد عن وجود السيد فياض على أي من سجلات المعهد، نفت إدارة المعهد وجود السيد فياض على سجلاتها الإدارية في أي وقت سابق، وضمن أي من برامجها الدراسية، أو حتى برامج الدورات القصيرة التي تقدمها.
يقول السيد فياض للمحكمة بأنه تعرض ل “الشبح لفترة طويلة”. وأنه تبعاً لذلك لا زال يعاني من صعوبات في قدميه وساقيه.
الشبح هو أن يتم تعليق المعتقل إلى الأعلى باستخدام ربطة قاسية حول معصميه، يتم شدها إلى حبل أو أداة متدلية من السقف أو حامل ثابت معلق عل جدار. بحيث لا يستطيع المعتقل الوقوف على الأرض بل تلامس أصابع قدميه بالكاد أرض المكان. ويكون وزن جسم المعتقل كله محمولاً على معصميه المشدودين ومفاصل وعضلات كتفيه. هذه الوضعية الوحشية تتسبب للجسم بأذى بالغ الأثر وطويل المدى في المعصمين والأكتاف، ولا أثر محدداً لها على الساقين أو أصابع القدمين. وهي كفيلة في حالة استمرارها لعشر دقائق فقط بإلحاق أذى دائم بحركة اليدين الطبيعية
يعاني الذين تعرضوا لهذا النوع من العقوبة من صعوبة بالغة في إغلاق قبضتهم أو تحريك معصمهم بزاوية طبيعية. ويستمر هذا الأثر لسنوات طويلة جداً ويتحول إلى حالة مزمنة. لكن استمرار تعليق المعتقل بهذه الوضعية لمدد أطول من 10-15 دقيقة سيكون من شأنه أن يجعل الضرر مؤكداً ونهائياً وليس محتملاً فقط. وهذا ما أشار له الشاهد السيد أنور البني أيضاً في حديثه عن تعرض أخيه في وقت سابق لعقوبة تعذيب مماثلة.
تشير شهادات مختلفة لمعتقلين سابقين حول عقوبة الشبح بأنها كانت تستخدم في حالات شديدة الخصوصية متعلقة بشك المحققين بإخفاء المعتقل لمعلومات مطلوبة. وهي لذلك كانت تستخدم بشكل واسع في الثمانينيات من القرن الماضي، عندما كانت المخابرات السورية تهاجم التنظيمات السياسية السورية بغرض تفكيكها واعتقال منتسبيها، وكانت بحاجة لاعترافات المعتقلين حول تنظيماتهم السرية
وهو بأي حال ليس عقوبة تعذيب روتينية لأنه يحتاج من الجلادين لصبر وتخطيط وإشراف طبي في بعض الحالات، كما ورد في شهادات لمعتقلين في فترة ثمانينيات القرن الماضي، من قبل أطباء متورطين بتعذيب المعتقلين داخل الأفرع الأمنية والسجون. في حين اتخذ التعذيب بعد انطلاق الثورة السورية وتحديداً بعد منتصف العام 2012 شكلاً أكثر عشوائية وتوحش وعدم اكتراث بحياة المعتقلين أو بالتبعات الجسدية التي قد تترتب على التعذيب
كما اتخذ شكلاً انتقامياً بغير هدف محدد، كمثل انتزاع الاعترافات من المعتقلين. يستطيع العاملون في التوثيق وجمع شهادات الضحايا ملاحظة هذاالنمط والنسق صعوداً أو هبوطاً بعد مرور السنوات وتراكم شهادات الضحايا، وإن لم يبد الأمر كذلك بالنسبة لغير المختصين أو الممارسين لعملية التوثيق وجمع هذا النوع من الشهادات. ومن المؤكد والمثبت في شهادات معتقلين بعد الثورة أن هذه الممارسة استخدمت بالفعل ضدهم
لكنها لم تشكل نمطاً قياسياً أو ممارسة روتينية بالنظر إلى أعداد المعتقلين الهائلة بعد الثورة والتي لا تترك فرصة لتطبيق عقوبة تحتاج من المحققين أو السجانين جهداً ووقتاً كبيرين. كما أن انعدام الحاجة لمعلومات واعترافات بغرض تفكيك تنظيمات معارضة بعينها كما في الثمانينيات من القرن الماضي مثلاً
لا يشكل هذا التحليل حسماً لدقة ادعاء السيد فياض تعرضه لعقوبة الشبح، لكن بالنظر لسياق الشهادة والمرحلة التي اعتقل فيها السيد فياض والنظر إلى كل المعطيات الواردة في الشهادة عند الحديث عن عقوبة الشبح، وتلك المعطيات التي توصل إليها هذا التحقيق عند النظر في الشهادة المذكورة، فإنه من الصعب تناول هذه النقطة بدون الإشارة إلى هذه الحيثيات جميعاً
رد الشاهد فراس
قمت عند إنجاز هذا التحقيق بالتواصل مع السيد فياض لعرض النقاط التي توصلت إليها عليه، وإتاحة المجال له للتعليق أو الرد عليها نفياً أو تأكيداً. تلقيت بعد ساعات رداً مختصراً من عنوان إيميل مختلف يدعي أنه (مساعد أو سكرتير) السيد فياض، وبدون اسم واضح، ويطلب مني التحدث إلى محامي الشاهد فياض.
لدى عرض نقاط الشهادات المتناقضة لفراس فياض لإتاحة المجال له للتعليق عليها نفياً أو تأكيداً رفض هو ومحاميه الإدلاء بأي تعليق وتم تحذيري من نشر أي معلومات غير صحيحة لأن تحقيقاً جنائياً بدأ ضدي لدى الشرطة الألمانية
قمت بالتواصل مع المحامي المذكور أيضاً لكنني تلقيت رداً مفاده عدم الرغبة بالتعليق على المسألة، ويحذرني من التواصل مع موكله أو نشر أي معلومات غير صحيحة، وأنه قد بدأ تحقيقاً جنائياً ضدي لدى الشرطة الألمانية. ما طرح تساؤلات لدي حول الصيغة التي تم بها تقديم الموضوع برمته للمحامي المذكور.
العدالة تصنع بالحقيقة
لن تضر الحقيقة السردية السورية، العكس هو من يفعل ذلك. وقائع التعذيب والاعتقال التعسفي والإخفاء القسري وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية واستهداف المرافق المدنية والتهجير القسري وغيرها من الانتهاكات شديدة الخطورة، هي جميعها وقائع حقيقية وموثقة بآلاف المستندات والوثائق والأدلة. لم ولن يكون هناك أي حاجة يوماً لتلفيق وقائع أو تزويرها من أجل إدانة النظام السوري وشخصياته ومسؤوليه على جرائمهم ضد السوريين.
تقول الدكتورة أماني، الشخصية الرئيسية في فيلم “الكهف” للمخرج السوري فراس فياض: “صار في كذب كتير، خلانا ندور على طريق للنجاة”. النجاة ثم العدالة، هي معركة أخيرة متبقية للسوريين الذين تحولوا جميعاً لضحايا على مستويات مختلفة. قد يكون الدرس الأول فيها هو التعلم من المعارك السابقة والأدوات التي استخدمت في هذه المعارك. ويقول المخرج فراس فياض في لقاء مع جمهور فيلمه “آخر الرجال في حلب”، إننا لا يجب أن نستخدم قصص الضحايا الحقيقية كمطيّة تقدمنا نحن بصفات بطولية بدلاً عن أصحاب هذه القصص، وأن هذه الحقيقة والقصص هي الطريق إلى العدالة.
مسارات المحكمة
لا مناص من إدراك وجوب خوض أي مسار ممكن بأدوات نبيلة وعالية المصداقية. للضحايا السوريين مصلحة كبرى في ذلك. وهو أيضاً احترام لقصصهم وشهاداتهم ودرب الآلام الذي خاضته الملحمة السورية خلال أكثر الحقب ألماً وفظاعة في تاريخ بلادهم
تستأنف محكمة مدينة كوبلنز في ألمانيا جلساتها في 29 من الشهر الجاري. وكانت حتى الآن استمعت لشهادة مدعي واحد فقط هو السيد فراس فياض. لا يمكن التكهن بطبيعة الحال بمدى اقتناع المحكمة بالشهادة أو عدمها. لكن من الواضح أن مساراً قضائياً معقداً وشائكاً سيكون أمامها عند الاستماع للمدعين والشهود وما سوف يتلو ذلك.
لكن المهم هنا هو التساؤل حول قدرة مسارات قضائية مماثلة مستندة إلى الولاية القضائية العالمية Universal Jurisdiction قد تنطلق في بلدان أوربية مختلفة، على الاقتصاص من مجرمي الحرب ومرتكبي الفظائع في سوريا، في مقابل محاولات تجييرها إلى مطيّة دعائية لأسباب مختلفة. سيكون لذلك إن حدث بالغ الأثر في إحداث ضرر بالغ بمسارات العدالة الأكبر والأكثر شمولاً وجذرية حين تشكل ظرف سياسي يسمح بتحويل ملفات العدالة في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية أو تشكيل محاكم وطنية في سوريا أو محكمة دولية خاصة أو مختلطة (محلية/دولية).
ليس من المتوقع بطبيعة الحال أن يكون مسار العدالة في سوريا سهلاً أو بسيطاً، بالنظر إلى حجم الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد ونوعها وخطورتها. في الغضون لا مناص من إدراك وجوب خوض أي مسار ممكن بأدوات نبيلة وعالية المصداقية. للضحايا السوريين مصلحة كبرى في ذلك. وهو أيضاً احترام لقصصهم وشهاداتهم ودرب الآلام الذي خاضته الملحمة السورية خلال أكثر الحقب ألماً وفظاعة في تاريخ بلادهم.