شهدنا درجات مختلفة من هذا عند اغتيال رفيق الحريري، وعند ارتكاب مذبحة الكيماوي في الغوطة، وعند تغييب رزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم حمادي ووائل حمادة في دوما، وعند تصفية جمال خاشقجي، وفي عشرات الجرائم غيرها على اختلاف ظروفها وتفاصيلها وأهدافها وضحاياها
26 / تشرين ثاني / نوفمبر / 2018
*المصدر: موقع الجمهورية
من الذي قتل رائد الفارس وحمّود جنيد؟ الإجابة ليست لغزاً شديد التعقيد إذا كنا نقصد الجهة التي تتحمل المسؤولية السياسية والجنائية عن الجريمة، لكنها قد تبقى لغزاً عصياً على الحلّ إلى الأبد، إذا كان المطلوب تحديد القتلة بالأسماء وإحالتهم إلى محكمة.
ثمة إذن منطقان مختلفان في البحث عن الإجابة؛ منطقٌ جنائيٌ صرف إذا صحّ القول، يريد أصحابُهُ أدلة ملموسة قبل توجيه الاتهام. ومنطقٌ آخر يبني على الظروف والمعطيات السياسية المرافقة للجريمة، ومعها الوقائع الظرفية المباشرة لارتكابها، كموقعها وأسلوب تنفيذها والمعلومات المؤكدة المتوافرة عنها، لينتهي دون كثير من العناء إلى تحديد الجهة المسؤولة.
وليست صدفة أنه في جرائم من هذا النوع، يحضر أصحاب المنطق الأول بنشاط، يطالبون بالأدلة والشهود، ويريدون من الجميع التروي قبل إطلاق الاتهام، ويُظهِرون حرصاً استثنائياً على الحقائق. يرمون في وجوه المفجوعين والمعنيين والمتابعين عشرات الاحتمالات والافتراضات، ثم ينسحبون إلى الوراء، بانتظار نتائج تحقيقات لن يجريها أحد، أو ستجريها جهات مطعون في نزاهتها أو في قدرتها على التقصيّ. أو بكلمات أخرى، بانتظار أن يطوي الزمن مفاعيل الجريمة مع تغيّر الظروف السياسية.
شهدنا درجات مختلفة من هذا عند اغتيال رفيق الحريري، وعند ارتكاب مذبحة الكيماوي في الغوطة، وعند تغييب رزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم حمادي ووائل حمادة في دوما، وعند تصفية جمال خاشقجي، وفي عشرات الجرائم غيرها على اختلاف ظروفها وتفاصيلها وأهدافها وضحاياها. وفي أمثلة عديدة مثيرة للسخرية، وصلنا إلى حدّ أن يكون المتهمون أنفسهم شركاء مقبولين في التحقيق بالجريمة والبحث عن الأدلة وجمعها.
وبالعودة إلى جريمة اغتيال رائد الفارس وحمّود جنيد، فإن سيرة الرجلين تشير بوضوح إلى خصومهما؛ نظام الأسد من جهة، والتيار الجهادي بتنويعاته من جهة أخرى. ومن بين هذين الخصمين، تشير طريقة ارتكاب الجريمة والظروف المرافقة لها إلى واحد منهما فقط، إلى التيار الجهادي الذي تدور كل تنويعاته التنظيمية في ريف إدلب، في فلك جهة واحدة رئيسية هي هيئة تحرير الشام.
سيارة يستقلّها مسلحون، اعترضت طريق الرجلين وطاردتهما في كفرنبل، ثم أطلقت النار عليهما من مسافة قريبة، وانسحبت بعدها بسلام. لا يمكن أن يحدث هذا دون دعم وحماية واحدة من الجهات العسكرية المسيطرة في كفرنبل ومحيطها، ولا يمكن أن تجرؤ مجموعة في ريف إدلب على القيام بفعل كهذا دون تغطية من جهة لها سيطرة وازنة على الأرض. وثمة جهة لها سيطرة وازنة على الأرض هي هيئة تحرير الشام، جبهة النصرة سابقاً، سبق لها أن هددت رائد الفارس مباشرة، وسبق لشركائها الإيديولوجيين في تنظيم الدولة أن حاولوا اغتياله. وهي التي سبق لها أن اعتقلت الفارس وجنيد، واقتحمت مقريّ راديو فريش والمكتب الإعلامي في كفرنبل، المشروعين الذين يديرهما الفارس ويعمل فيهما جنيد، وحطمت معداتهما واعتدت على كادرهما وداست علم الثورة على عتبة باب واحد منهما. وهي الجهة نفسها التي تشعر أن سلطتها مهددة في هذه الأيام، وتحاول بكلّ ما أوتيت من قوة وسلاح السيطرة على كل مفاصل الحياة في إدلب، وتغصّ سجونها بمن يشبهون رائد من الناشطين.
لا يدع هذا مجالاً للشك في هوية الجهة التي تقف وراء «المجهولين» الذين كانوا يركبون السيارة إياها، وإذا كُنّا لا نملك أن نفعل شيئاً ملموساً لمحاسبة الجناة اليوم، في وقت يدير فيه العالم ظهره لنا بخصوص جرائم أوسع نطاقاً وأكثر وضوحاً، فإننا نملك أن لا نستسلم لتجهيل الفاعلين أو المواربة بخصوصهم، ونملك أن نقول الحقيقة التي يحاول إخفاءها الباحثون عن «الحقائق الجنائية القاطعة».
رحل رائد الفارس وحمّود جنيد عن هذا العالم يوم أمس، وقبلهما رحل عشرات آلاف السوريين وهم يحلمون بحياة أفضل، وبالعدالة. ومن أجل ذكرى جميع من رحلوا، لا نملك سوى أن نواظب بإصرار على طلب الحقيقة والعدالة، لأن هذا طريق إجباري للوصول إلى الحياة الأفضل التي كافح من أجلها رائد وحمّود ببسالة.
⇓
.
.