بعد موت أحمد بشهرين تماماً رحلت زوجته إلى بيت أهلها، كان هنالك عريس ينتظرها؛ فتركت طفلتها ذات التسعة أشهر في عهد الحجة أمينة لتصبح مسؤولة عن سبعة أيتام
31 / كانون الثاني / يناير / 2019
أنصاف نصر
*مدخل
إن نظام البعث الأسدي لم يكن يوماً عادلاً مع الشعب السوري كما كان عادلاً في توزيع القتل والظلم والمآسي على مئات الآلاف من المواطنين. السوريون يموتون دون توقف، أفراداً وجماعات، لا وبل اختبروا كل أنواع وأشكال الموت قتلاً وحرقاً، مرضاً وقهراً وخنقاً، حتى البحار والمحيطات كان لها نصيبٌ منهم، ماتوا في المدن والقرى، في منازلهم وفي دروب التغريبة السورية وفي المنافي، لدرجة أن موتهم اليومي لم يعد يحدث ضجيجاً يقض مضجع الإنسانية ولجان حقوق الإنسان ومجلس الأمم، حتى المشيّعون وحفارو القبور أصبحوا يؤدّون مهمتهم عل عجل، وأصبحت قبور السوريين تحضر مسبقاً استعداداً لموت آتٍ في كل ساعة ولحظة، هكذا تقول الحجة أمينة، التي كان لنا معها هذا الحوار، تروي من خلاله مأساتها؛ فعندما ذهبت لدفن ابنها الثالث في منفاها / تركيا / رأت المقبرة المجهزة للموت السوري والقبور المحفورة سلفا (مقبرة السوريين).
قصة الحجة أمينة ومثلها ألاف القصص عن مسلسل موتنا، الحجة التي لجأت إلى تركيا وفقدت ثلاثة من الأبناء، لتعيد اختبار الأمومة مع الأحفاد السبعة الذين فقدوا آباؤهم ومنهم من تخلت عنهم أمهاتهم ومضين لبدء حياة جديدة في مكان أخر.
تحتضن الحجة أمينة سبعة أيتام تقوم بتربيتهم في بلاد اللجوء، حيث لا يوجد لهم معين فيها إلا الله…
***
*حدثينا عن الفترة الذي كنت فيها بحلب، كيف كانت؟
أنا الحجة أمينة أم بكري، عمري 62 عاماً وكنت أعيش في محافظة حلب منطقة “أغيور”، وأنا أرملة كان لدي ستة أبناء، ثلاث بنات وثلاثة أولاد، توفي زوجي مبكراً وربيت أولادي الستة بكفاحي ودموعي.
كنا نملك بيتاً في حلب، تجتمع فيه العائلة وأولادي الثلاثة الذكور، ونعيش في وضع اقتصادي نوعاً ما جيد. ابني الكبير “بكري” يعمل حلاقاً وكان متزوجاً ولديه طفلان، وابني الثاني صفوان يعمل في مهنة الخياطة، متزوج أيضاً وله أربعة أطفال، فتاة وثلاثة أولاد، أما أحمد كان أصغرهم وكان عازباً ويعمل أيضاً في مهنة الحلاقة.
بقينا على هذه الحال إلى أن بدأت الثورة وأخذت الأحوال المعيشية تسوء، ومع استمرار الثورة وامتدادها إلى باقي المحافظات، وقمع النظام للثوار وبدء حصار المدن الثائرة ووصول شرارة الثورة إلى حلب، أصبحت المدن والقرى محاصرة، وتقطعت أوصال المناطق بسبب حواجز النظام المنتشرة في كل الأماكن، أصبحت المعيشة صعبةً جداً وخاصة مع انعدام وسائل الحياة، من انقطاع للكهرباء والماء وارتفاع الأسعار؛ ولكن الوضع تفاقم أكثر عند دخول الجيش الحر إلى حلب، حيث زاد من معاناة الأهالي قصف النظام العشوائي للمناطق المحررة ومنها منطقتنا. أصبح التنقل والعمل صعباً جداً، فترك “بكري” عمله في الحلاقة، وبدأ يعمل موزعاً للأحذية على سيارة أجرة، أما صفوان فنقل ورشة الخياطة خاصته إلى البيت.
كنت متوجسة من وجود الجيش الحرّ في منطقتنا، ولم أعد أخرج من البيت؛ ضحك بكري ذات مرة وقال لي “غداً سوف أصطحبك في جولة وأعرفكِ على الجيش الحر”، وفعلاً أخذني إلى السوق، وقال انظري هم أناس مثلنا وهم شبان سوريون، ويعاملوننا باحترام ولطف ولا يعتدون على أحد.
بقي الوضع على هذا الحال، وبدأنا نتأقلم مع انعدام وسائل الحياة ومسلسل القصف المتواصل والبراميل المتفجرة التي تصب حممها فوق رؤوسنا، إلى أن حصلت الطامة الكبرى بالنسبة لي _هنا تتوقف الحجة وتسبق دموعها الكلام ويختنق صوتها_ الطامة الكبرى موت بكري ابني البكر…وتصمت الحجة لتستعيد أنفاسها.
*كيف مات بكري؟
كان ذلك في العام 2013 في الشهر السادس تقريباً، كان يوماً عصيباً واشتد القصف على منطقتنا، فآثرنا الذهاب لبيت ابنتي في منطقة “قاضي عسكر”، وتقاسمت العائلة المنامة، قسم في بيت ابنتي، وبكري وعائلته عند أهل زوجته في محلة “سعد الله الجابري”، لم يخطر ببالي أنني لن أرى بكري مرة أخرى، بكري ذو الحسن والجمال والطول الفارع، كنت كلما نظرت إليه أصلي على النبي من عيني وأنا أمه. قبل ذهابه أعطاني نقوداً وقال لي غداً أكمل لكِ بقية المعلوم يا حجة.
ذهبَ بكري وأخذ معه سكينتي، انتابتني حالة من التوتر والقلق ولم أذق طعم النوم وكأنني انتظر خبراً ما، هو حدس الأم أخبرني أن شيئاً سيحدث، إلى أن قُرع الباب في الثالثة والنصف صباحاً، هرعتُ إلى المرسال فوراً، “بكري وين؟ صرلو شي؟ عيلتو بخير؟” ليرد علي بأن “صلي على النبي يا حجة”، بكري بخير ولكن تعرض لجلطة بسيطة، لم أستطع الانتظار حتى الصباح، ذهبت معهم وكلي أمل ودعاء أن بكري لم يمت، عندما وصلنا رأيت كل الأطفال متجمعين في سيارة والشارع يعج بالناس، إنه البرميل اللعين ضرب المبنى المجاور، قلت لهم لماذا هذه الجلبة هي جلطة بسيطة، بكري حي، فقالوا ادخلي يا حجة إلى الغرفة، فدخلت ورأيت بكري يغط في نوم عميق ووجهه النوراني يشع كالماس هو نائم، لم ينتظرني حتى، أيقظته كثيراً، أعلم أنه لا يستفيق إلا على صوتي، استحلفته بالله أن ينهض، قبلته في كل أنحاء جسده، قبلت قدميه عساه يرحم روحي وينهض، ولكن ليس من مجيب، لأن برميل الغدر كان أسرع من صوتي، سقط في المبنى المجاور ومن شدة الخوف والصدمة لم يحتمل قلب ابني، فتوقف. كما لم يحتمله مبنى الجيران الذي كان يعج بالمدنيين، فحصدت المتفجرات والشظايا أرواحهم. دخلتُ إلى الغرفة، صليت ركعتين وقلت يا ربي أنت أعطيتني وأنت أخذت، ولكن أسألك الصبر، والصبر فقط.
عند طلوع الشمس شيّعنا بكري على عجل، لا وقت لمراسم دفن تليق بأبنائنا خوفاً من براميل غدرٍ أخرى. لم أذق طعم النوم ولا الطعام لثلاثة أيام. كنت أنتظر الصباح حتى أذهب إلى قبره واصطحب معي أولاده، لم يعد يهمني القصف ولا البراميل ولا القناص المتربص بنا في الجانب الأخر من المقبرة، همي أن أزور ابني كل صباح، وبعدها أهيم على وجهي في الشوارع والحارات. لم أقم بعد الأيام التي بقيت فيها على هذه الحال إلى أن استوقفني جاري وقال لي أنه إن لم أخف على نفسي، يتوجّب علي الخوف على هؤلاء الأطفال، يمكن أن يقضوا بالقصف أو على يد قناص المقبرة الذي يصطاد أرواحنا، رفقاً بروحك وأرواح الصغار.
كففت عن زيارة القبر، تعاهدت مع الصبر وكتمت غصتي وجرحي، ولكن القدر لم يعطني وقتاً ولم يمهلني لأحزن على بكري، بل كأنه تعهدني في سلسلة من المآسي والكوارث، بعد ثلاثة أشهر حصل مالم يكن في الحسبان، فجعتُ بابني صفوان .. ابني الثاني.
*أخبرينا، ماهي قصة صفوان؟
صفوان ابني الأوسط يصغر بكري بسنة، كان عمره 27 عاماً لكنه تزوج قبله، وأنجب أربعة أطفال، أكبرهم كان بعمر 14 عاماً، كان صفوان جميلاً، ووسيماً لدرجة المثل الذي يقول أن أمه تعشقه، وكان يعمل خياطاً، وبسبب الوضع الأمني والقصف المستمر لم يستطع ممارسة عمله في ورشته فنقلها إلى البيت، وزوجته كانت
تعمل معلمة في المدرسة، وبدأ العمل في البيت، لا يخرج إلا للضرورة، وذات يوم خرج من البيت لسبب أجهله ولم يعد، اختفى أثره تماماً، مضى على اختفائه خمس سنوات، ولا أعرف إن كان حياً أو ميتاً، ولا أعلم حتى إن كان معتقلاً عند أي جهة، وهذا يزيد من عذابي أكثر، أم الشهيد تنام وأم المفقود لا تعرف النوم، يزيد من عذابي لأنني أجهل مصيره، وليس لدي وقت للحزن، عزرائيل لا ينتقي إلا الطيبين والجميلين…!
أصبحت مسؤولة عن ستة أيتام وزوجة ابني الكبير، بالإضافة إلى ابنتي، أما زوجة صفوان أم لأربعة أطفال حسمت أمورها على عجل دون الالتفات لأولادها، عادت إلى بيت أهلها لتتزوج وتبدأ حياتها من جديد.
بالإضافة إلى أولادي خسرت الكثير من عائلتي، أخي الكبير توفي بشظية وهو أمام منزله في حي طريق الباب وترك طفلين وزوجته، أما أخي الثاني كان يعمل على بسطة أمام بيته ولكن عائلته كانت على موعد مع الموت ببرميل متفجر حصد أرواحهم الثلاث. لم أعد أطيق العيش في حلب، الموت يحاصرنا في كل مكان، الموت ولا شيء غيره، توجب عليّ أن أغادر، ولكن لم يكن في بيتي ثمن رغيف خبزٍ حتى.
*كيف وصلتي إلى تركيا، وماهي الظروف التي واجهتك في البداية؟
كانت تربطني بجيران لي علاقة طيبة، وقد قرروا النزوح إلى تركيا وعرضوا عليّ الذهاب معهم. لم أمتلك المال، لكنهم قاموا بمساعدتي وعبرت معهم، وبقي ابني أحمد في سوريا.
دخلنا إلى تركيا في أواخر 2015 وفي رقبتي ستة أيتام ولا نملك فلساً واحداً ولا نعرف أين السبيل في تغريبتنا ومنفانا الجديد، إلى أن هيّأ الله لنا أحد الأصدقاء، فتواصل مع مركز لإيواء اللاجئين في غازي عينتاب، كان إيواءً مؤقتاً، ولكنه يفي بالغرض، وفعلاً استقبلوني أنا وعائلتي لمدة ثلاثة أشهر، أثناء هذه الفترة التحق عمر ابن الخامسة عشرة بورشة للخياطة، وترك المدرسة وأصبح معيلنا الوحيد، وفي المركز تعرفت على جارة لي عرّفتني إلى مطعم يوزّع الوجبات على العائلات السورية المحتاجة بالمجان، بقيت على هذه الحال ثلاثة أشهر، بعد ذلك تواصل القائمون على المركز مع إحدى المنظمات التي ساعدتني بأجرة شهر لغرفة تؤويني أنا وعائلتي، وبدأت رحلة شقائي ومعاناتي في تدبير أدنى متطلبات الحياة اليومية لتسعة أفراد معيلهم الوحيد فتى لم يبلغ الحُلم بعد.
استمر الوضع هكذا قرابة السنة إلى أن قرر أحمد الالتحاق بنا في تركيا، فرقص قلبي من الفرحة، كيف لا ولم يتبقَ لي من أبنائي غيره، إنه وحيدي، نجح في العبور إلى تركيا ولكن فرحتي به لم تكتمل وكأن القدر تعهدني في المصائب والنوائب.
*لماذا؟ وما الذي جرى لأحمد؟
بعد وصول أحمد بوقت قصير عمل في صالون للحلاقة وبعد فترة تزوج، كان على سباق مع الزمن وكأنه يعلم أنه سيغادر سريعاً، وبعد تسعة أشهر أنجب طفلة وكان بيتنا يعج بالحياة، إلى أن مرض أحمد، في البداية كان مرضه عادياً (كريب) لكن سرعان ما بدأت تسوء حالته. كان أحمد هذه المرة في عداء فظيع مع سيارة الإسعاف والمشفى لسبب لم أعرفه، لم تفلح كل محاولاتي أنا والجيران لإقناعه بدخول المشفى وحالتي المادية لم تكن تسمح بأخذه إلى طبيب خاص، بقي على هذا الحال قرابة عشرين يوماً حتى أصبح يتقيّأ دماً، عندها استسلم لعدائه وطلب الذهاب إلى المشفى، فور دخوله نقل إلى غرفة الإنعاش لأنه كان يعاني من التهاب الكبد الوبائي، انتظرته عشرة أيام، كنت أذهب كل يوم مشي قرابة النصف ساعة لأبصره لمدة عشر دقائق فقط ثم أعود لأتعهده بالصلاة وأدعو له بالنجاة، لكن الله لم يستجب لدعائي مع أنه لا يرد دعاء الأمهات، رنّ هاتفي صباحاً ليقول لي مترجم المستشفى أن أحمد اشتاق لإخوته فذهب إليهم وتركني وحيدة. ذهبت إلى المستشفى أنا وبعض المعارف وبدأنا نحضر مراسم الدفن، أتقنت التحضير جيداً بحكم العادة لثلاثة شبان بعمر الورود اختطفهم الموت من حياتي في غفلة!
سرنا إلى المقبرة، حملت أحمد في نعشه كبيراً كما حملته صغيراً، اقتربنا من باب المقبرة فأخبرنا حارسها التركي أن هذه هي مقبرة السوريين، نعم هكذا يسمونها، حتى أنهم يحفرون قبورنا مسبقاً، وأكثر ما يزعجني أن مقبرة السوريين بعيدة، لا أستطيع الذهاب إليها وحدي لزيارة أحمد، لأني أضل الطريق، في تغريبتنا ومنفانا حتى قبور أحبابنا تاهت عنا.
وبعد موت أحمد بشهرين تماماً رحلت زوجته إلى بيت أهلها، كان هنالك عريس ينتظرها؛ فتركت طفلتها ذات التسعة أشهر في عهد الحجة أمينة لتصبح مسؤولة عن سبعة أيتام..
*كيف تعيشين الآن، وهل من منظمات أو جمعيات تساعدك؟
أعيش في حالة يرثى لها، ليس لنا من معين إلا الله، حفيدي عمر يعمل في ولاية أخرى في مهنة الخياطة، وإخوته الثلاثة في المدارس والحمد لله، أما زوجة ابني الكبير تعيش متنقلة بين بيوت إخوتها وبيتي وأنا مسؤولة عن نفقات أولاد ابني.
أما فيما يتعلق بالمنظمات وجمعيات الإغاثة فقد تكلّفوا عناء المجيء إلى بيتنا، وأخذ الكثير من الصور لنا ولم نراهم مرة أخرى نهائياً.
قصة الحجة أمينة قصة كل بيت سوري ناله من الوجع والألم ما يعجز بشر عن تحمله، بسبب نظام فاشي لم يرتوِ من دماء السوريين وضمير دولي دخل في غيبوبة.
قصة الحجة أمينة –أم الشهيد والمفقود والأيتام- تحاكي معاناة النساء السوريات في الداخل وفي المنافي، المرأة هي التي دفعت الفاتورة الأكبر في المذبحة السورية.
أما منظمات المنتجع المدني وجمعيات الإغاثة التابعة للّحى ولجماعة ما خرجنا إلا لإغاثة الملهوف، فقد خرجوا لإغاثة أنفسهم على حساب الدم والوجع السوري. ركبوا السيارات واشتروا العقارات وحساباتهم في البنوك حدّث ولا حرج!
الحجة أمينة ومثلها الآلاف من الأمهات لم يعدن يطلبن العدل في عصر اقتصر فيه وجود هذا الأخير على الأساطير وحكايات ما قبل النوم التي تروى للأطفال! كل ما نطلبه هو تطبيق العدل في توزيع الظلم الذي كتم على قلوب الجميع.
المزيد للكاتبة
⇓