يبدو تعريف الدستور بأنه عقد اجتماعي تعريفًا مرفّهًا بالنسبة لنا نحن السوريين، فأي مستقبل ينتظرنا إذا تم توقيع الدستور الجديد تحت سلطة الأسد وقوى الاحتلال المختلفة التي لا تكّن لنا إلا وصفات الإرهاب والخيانة والتكفير!
18 / آب / أغسطس / 2019
المصدر: عنب بلدي ــ إبراهيم العلوش
تخيل أنك تكتب عقدك الاجتماعي وتناقشه والطرف الآخر في النقاش هو ضابط مخابرات، والمكان هو أحد الأقبية، أو أن تكتبه في أحد مقرات الميليشيات الإيرانية، أو في قاعدة حميميم الروسية، أو في جبال قنديل، فأي عقد مجحف ينتظرك وينتظر مستقبل أولادك؟
جان جاك روسو، المفكر الفرنسي (1712-1778)، هو من ابتكر تعريف الدستور على أنه عقد اجتماعي يعبّر عن إرادة الشعب، ولقد كتب عدة دساتير أو أسهم في وضع أسسها، ويعتبر أحد منظري القانون الدستوري التاريخيين بعد أن تم فصم العلاقة القانونية بين الناس وسلطة الإقطاع، ولاحقًا بين الناس والسلطات الدينية، وانهيار الأنظمة التقليدية قبيل ومع الثورة الفرنسية 1789، وكان يعتبر أن حرية الإنسان فوق كل اعتبار، وأن إرادة الشعب هي الأساس في الحكم وليس إرادة الحاكم.
واليوم يحاول النظام بمعونة الطائرات الروسية والميليشيات الإيرانية كتابة عقد اجتماعي يرسخ انتصاره على الشعب السوري ويبرر تدمير الدولة السورية وجرائم الحرب المرتكبة منذ بدايات الثورة السورية ويعتبرها واجبًا دستوريًا.
قامت الثورة في آذار 2011 تطالب بالإصلاح وبأخذ الشعب وطلباته مأخذ الجد والمسؤولية، والكفّ عن اعتباره مجرد قطيع من العبيد في مزرعة يمتلكها آل الأسد، لكن الجيش والمخابرات والسلطات الرسمية تخلت عن واجبها الدستوري في حماية الشعب، وهبت بكل قواها لتثبيت سلطة الأسد واعتبارها فوق مستوى الطلبات والنقاشات، بعد أن ترسخت كسلطة مطلقة خلال أكثر من نصف قرن من البروباغاندا الإعلامية والتفكيك الممنهج لروابط المجتمع وقواه المدنية.
الطائرات التي تقصف إدلب اليوم بعد تدمير حلب وحمص ودرعا وبقية المدن والقرى السورية، لا تزال تعمل لنفس الهدف وهو إعادة الإقرار بعقد الإذعان الأسدي، واعتباره بمثابة عقد شبه ديني وأبوي راسخ ولا يقبل النقاش، ولعل الرفض القاطع من قبل النظام لأي محاولة لإعادة كتابة الدستور هو تخفيف وتقليل من انتصار الأسد وشبيحته على الشعب السوري، ولولا اضطرار روسيا لبعض التنازلات من أجل إرضاء الأمم المتحدة والدول الغربية لكان دستور عام 2012 هو العقد الأبدي بين السلطة الأسدية والشعب السوري، وهو العقد الأكثر ضمانة لاستمرار المكاسب الروسية والإيرانية من تدمير سوريا، فبموجب هذا الدستور يعتبر رئيس الجمهورية هو المالك المطلق لكل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، والشعب السوري مجرد قطيع من الناس المتخلفين والخونة والمتطرفين، وهو شعب غير متجانس تسوقه المخابرات و الجيش ويعاونهم الشبيحة على استمرار الرضوخ للعائلة الحاكمة.
لقد فككت السلطة روابط المجتمع وأعادتها إلى الروابط الأكثر بدائية مثل الروابط الطائفية والروابط القبليّة والمناطقية، ولم يعد الانتماء الوطني مهمًا لدى السلطات الرسمية التي استدعت الاحتلال الأجنبي، ولا لدى السلطات الدينية التي صارت تهلل للاحتلالات والتنظيمات المتطرفة.
وكانت الرشوة هي أداة التعامل المالي والإداري بين الناس والسلطة، وقد تحولت حياة الناس الذين لا يدفعون الرشوة إلى جحيم من مكابدة العقبات والحواجز الإدارية، والتأويلات القانونية كلها تصب أخيرًا في باب دفع المعلوم.
وكانت الانتخابات البلدية والبرلمانية والرئاسية مجالًا للتزوير، والمبالغات المبتذلة التي تنتهي جميعها إلى التصفيق لديمومة الرئيس الأسد.
وكانت الخطب الدينية في أيام الجمعة في طول البلاد وعرضها تبدأ وتنتهي بالدعاء لـ “الأب القائد” والدعاء للمسؤولين الكبار والصغار الذين تختلط أسماؤهم مع أسماء الصحابة والأولياء الصالحين.
ووصل التهكم إلى حد أن أطلق الكثير من الناشطين بعض الدعابات حول ما تبقى من روابط تجمع الشعب السوري، فلم يجد الصحفي السوري الشهير بكر صدقي من الروابط المتبقية بين السوريين إلا المكدوس الذي يحبه السوريون كلهم: العلويون والسنة والمسيحيون والعرب والكرد والتركمان، ولا يزال يأكله النازحون والفقراء والأغنياء ومخبرو الأمن العسكري والجوي وشرعيو التنظيمات المتطرفة، ويحبه اللاجئون في لبنان وفي تركيا وفي الاردن.
أمام هذا الضياع الكبير الذي أصاب الشعب السوري وثورته، فإن إدامة عقد الإذعان الذي تحميه سلطة الوضع الراهن صارت مهمة دولية تحاول إدامته الأمم المتحدة، ودول الاحتلال عبر مؤتمرات أستانة وجنيف وقمم رؤساء الدول التي انهمكت باستكمال تدمير سوريا.
وتحاول هذه المؤتمرات والقمم إعادة الحياة إلى سلطة الأسد ومخابراته بحجة محاربة الإرهاب، ووقف الهجرة، وكأن السوريين يتخلون بكل ببساطة عن وطنهم وعن مستقبلهم من أجل إفساح المجال لسلطة الأسد لترمم نفسها ولتعاود وجودها الشرعي الذي زعزعته الثورة السورية، وقضت عليه قوى الاحتلال المختلفة.
العقد الاجتماعي السوري الأكثر ديمومة هو العقد الذي يكون فيه الشعب السوري هو صاحب السيادة والحكم، والذي يعتبر كل من ارتكب جرمًا بحق السوريين يجب أن يحال إلى المحاكم، والذي يحاسب كلًا من بشار وماهر الأسد ورامي مخلوف وقادة المخابرات والجيش المتورطين بالتخريب، وكذلك أمراء التطرف الجهادي وسماسرة الميليشيات الإيرانية وصولًا إلى سماسرة الاحتلال الأجنبي في شرق الفرات.
قد يبدو هذا الكلام مثيرًا للسخرية من قبل منتصري النظام والاحتلالات الأجنبية، ولكن أحدًا ما لن ينال السلام ما لم يقبل بعقد اجتماعي سوري عادل ويحترم إرادة السوريين وتطلعهم للحرية.