لقد أثبتت الثورة السورية عجز الأمم المتحدة التام، وشللها الكامل، منذ بداية الثورة، وتعاقب شخصيات عديدة على الملف السوري يثبت بأن الخطأ في نظام الأمم المتحدة، وليس في من يقوم بالمهمة
09 / تشرين أول / أكتوبر / 2019
المصدر: عبد الحميد عكيل العواك – تلفزيون سوريا
أغلب فقهاء القانون الدولي مجمعون على فشل نظام الأمم المتحدة بشكله الحالي، ولكنهم منقسمون إلى فريقين، الأول يرى إلغاء الأمم المتحدة إلغاءً جذريّاً والبحث عن نظام دولي جديد، والثاني يرى أنه نظام قابل للإصلاح.
امتازت الأمم المتحدة في أدائها بالتناقض مع توصياتها، وازدواجية المعايير بين أزمة وأخرى. وانطلق التناقض بدءاً من ميثاقها الذي أقر بمادته الأولى بأنْ “تقوم المنظمة على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها”، في حين نصت المادة 23/1 من الميثاق على إعطاء خمس دول عضوية دائمة في مجلس الأمن، وهذا خرق لمبدأ المساواة في السيادة، أما الخرق الأكبر فكان في إعطاء هذه الدول ميزات عند التصويت على قرارات مجلس الأمن في المسائل الموضوعية.
هذا الخرق ما تزال البشرية تدفع ثمنه عند كل أزمة تهدد السلم والأمن الدوليين، فتبقى دون حل، أو تنتهي مولدة أزمات جديدة، وكوارث على البشرية تدفع ثمنها الأجيال القادمة.
من الطبيعي ألا تكون الثورة في سوريا استثناء، ولن نستعرض ما كان يجب فعله من قبل الأمم المتحدة، وأقلها تفعيل مبدأ التدخل الإنساني تحت الفصل السابع، ولكنها لم تفعل بسبب الخلل البنيوي الذي ذكرناه.
لكن سنقف عند إعلانها للجنة الدستورية وكأنها خشبة الخلاص الأخير لهذا الشعب المنكوب.
قد تدخلت الأمم المتحدة في أخطر ثلاثة مفاصل لبناء الدستور السوري. التدخل الأول: تم عندما تولت ترشيح خمسين شخصية من المجتمع المدني، أي ثلث اللجنة أو ما سمي “بيضة القبان”.
الأمم المتحدة ومبدأ الاستقلالية الدستورية
بالرغم من أن الجمعية العامة للأمم المتحدة أصدرت توصيتها في العدد رقم 2625 تاريخ 24 أكتوبر 1970 لمبدأ الاستقلالية الدستورية للدول الأعضاء، الذي يستند إلى أنّ لكل دولة الحق في اختيار نظامها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي بكل حرية؛ فإنّ الأمم المتحدة نفسها لم تأخذ بها وهي أَوْلى الهيئات بوجوب الالتزام على اعتبار صدور التوصية عنها، فقد تدخلت الأمم المتحدة في أخطر ثلاثة مفاصل لبناء الدستور السوري:
التدخل الأول: تم عندما تولت ترشيح خمسين شخصية من المجتمع المدني، أي ثلث اللجنة أو ما سمي “بيضة القبان”، ولا شك بأن الدستور الذي تكتبه لجنة فنية معينة يلعب أعضاء اللجنة دوراً رئيسياً في صياغته وتوجهه وتحديد مساره، والتساؤل هنا من الذي أعطى هذا الحق للأمم المتحدة؟ وجميع ما يصدر عنها يركز على عدم التدخل بالشؤون الداخلية للدول.
التدخل الثاني: هو صياغة قواعد إجرائية لعمل اللجنة، أعدتها وأصدرتها قبل اجتماع أعضاء اللجنة، ومن المعلوم أن القواعد الإجرائية هي توازي من حيث الأهمية وضع قواعد الدستور ذاتها، وكثيراً ما سجل لنا التاريخ خلافات شديدة بين ممثلي الأحزاب السياسية في الدول المستقرة على القواعد الإجرائية، وبمجرد موافقتك عليها، فإنك تحرم نفسك حق الاعتراض والانسحاب، ومجبور على مواصلة المسير إلى منتهاه (صدور الدستور).
وأهم ما في القواعد الإجرائية هو آلية التصويت والتي وضعت بشكل غير معقلن، ولا متوازٍ بين الطرفين، وواضح انحيازها لطرف النظام سواء لجهة الثلثين، أو لجهة موافقتها لرغبته الشديدة بالتعطيل.
وهل صدور القواعد الإجرائية يدخل ضمن مهام المُيسّر؟
التدخل الثالث: جاء عن طريق صياغة المبادئ الأساسية التي ستحكم الدستور القادم، فتلك المبادئ قدمتها في البدء الأمم المتحدة لفريقي التفاوض تحت مسمى “اللا ورقة” ولم يجر عليها تعديل جوهري، وإن ادعت بأنها عرضتها للطرفين، لكن ديمستورا ظل المتحكم الأول في صياغة تلك المبادئ، مستغلاً عدم جلوس فريقي التفاوض على طاولة واحدة، فعمل جاهداً وفريقه على صياغة تلك المبادئ، التي وافق عليها الطرفان لاحقاً.
ورب قائل بأن دورها انحصر بالاقتراح فقط! نجيبه بقول الفقيه سييز: “من اقترح فقد ساد”، لأن سلطة الاقتراح تمثل منطلق الصياغة القانونية ومفتاح الحكم وفق ما يرى الفقيه روبي كالا أنّ “من يملك الاقتراح يملك الحكم”.
وفي كل الأحوال لا يحق للأمم المتحدة المساهمة بشكل فعلي في كتابة الدستور، لأن دورها المعلن هو التيسير، ومن المؤكد بأن التدخلات الثلاثة لا تدخل ضمن مهمة التيسير. وهي إن أرادت التدخل الإنساني بسبب انتهاك حقوق الإنسان، ولفشل الدولة، فلا يجب أن يكون المنتهك (النظام) طرفاً في صناعة الدستور، أما أن تتدخل وتدعو النظام فهو انتهاك سافر لمبادئها.
الأمم المتحدة عاجزة
لقد أثبتت الثورة السورية عجز الأمم المتحدة التام، وشللها الكامل، منذ بداية الثورة، وتعاقب شخصيات عديدة على الملف السوري يثبت بأن الخطأ في نظام الأمم المتحدة، وليس في من يقوم بالمهمة، فجميع المُيسّرين الدوليين دون استثناء لم يستطيعوا تقديم فائدة عملية واحدة للشعب السوري.
لقد تحايلت الأمم المتحدة متمثلة بمبعوثها على القرار 2254 عندما شكلت السلال الأربع في جنيف 4 ببساطة شديدة لأن الانتقال السياسي يحتوي السلال الثلاث الباقية
وكانت سياستها لتغطية فشلها، وعدم قدرتها على وقف تعنت النظام، وكان سبيلها الدائم الهروب الى الأمام،
وترك المشكلة خلفها لعجزها عن حلها، فمع إعلان جنيف الأول حاولت جاهدة للوصول إلى الانتقال السياسي وفشلت، فأصدرت القرار 2254 ليكون برنامج عمل وخطوات عملية، فطالبت هيئة التفاوض الأولى بتطبيق البنود المتعلقة بالشق الإنساني لأنها لا تحتاج لتفاوض، وعلقت الهيئة المفاوضات لحين تنفيذ البنود، فعمدت الأمم المتحدة إلى ترحيل تلك البنود إلى أستانا، ففصلت بين تلك البنود والانتقال السياسي، لأنها كانت عاجزة عن تحريك أي أمر يتعلق بالملف الإنساني فهربت إلى أستانا التي لم تحقق شيئاً، وبقيت أستانا متجمدة في الملف الإنساني عاجزة عن حله أو تجاوزه.
لقد تحايلت الأمم المتحدة متمثلة بمبعوثها على القرار 2254 عندما شكلت السلال الأربع في جنيف 4 ببساطة شديدة لأن الانتقال السياسي يحتوي السلال الثلاث الباقية، فلا يمكن أن يتم انتقال سياسي كامل ومنجز، من دون أن يكتب قانون انتخابات شامل، يهيئ لكتابة دستور جديد وصدور الدستور يستلزم حل الهيئات والسلطات الانتقالية فلا بد من إجراء انتخابات لتشكيل هيئات في ظل الدستور، وكل ذلك يتطلب بيئة آمنة ومحايدة مما يعني محاربة الإرهاب، إذاً ببساطة سلة الانتقال السياسي تحتوي ضمنها باقي السلال.
أما العكس فغير صحيح، إذ ليس هناك تلازم حتمي بين الدستور والسلال البقية، ولا سيما سلة الانتقال السياسي، فلا تعني ولادة الدستور أن ينتج عنه انتقال سياسي، أو محاربة للإرهاب فمن الممكن أن تبقى الميليشيات الإيرانية بأنواعها والقوات الروسية تمارس إرهاب الدولة في ظل الدستور الجديد، وأكد ذلك وزير خارجية روسيا بأن كتابة الدستور لا تعني انتهاء الحرب.
الحقيقة المؤكدة أن الدستور كان يجب أن يكون السلة الأخيرة بين السلال، يتحقق انتقال سياسي يقود مرحلة انتقالية يحارب بقايا الإرهاب، يصدر قانون انتخابات شاملة للهيئة التأسيسية وموقع الرئاسة والبرلمان، لتجري في المرحلة الأخيرة انتخابات هيئة تأسيسية تكتب دستوراً، وتأخذ وقتها الكافي من الحوار المجتمعي وتفكيك القضايا الخلافية وحلها.
النتيجة النهائية
كثير منا يتساءل ماذا بعد إعلان اللجنة؟ وماذا سينتج عنها؟ وهو سؤال مشروع، والإجابة عليه مطلوبة من هيئة التفاوض والأمم المتحدة، لكن الصمت يحيط بهم، وإنني أرى أن اللجنة متجهة إلى مسارين لا ثالث لهما: الأول: هو تعديل لدستور 2012 الذي أعطى شرعية دستورية للنظام وأفعاله خلال الفترة الماضية. والثاني: التعطيل من قبل النظام، وهذه لعبته لنجد بأن الزمن سرقنا مرة أخرى ونقف في ظل مظلة (السياسة الواقعية) على أعتاب محطة انتخابات رئاسية وبلا ضمانات جوهرية، ولا بيئة آمنة، تدفعنا لها أمم متحدة فاشلة لتعطينا مقابل ذلك مراقبة شكلية لا قيمة لها.