بين العام 2006 و2011، خسر النظام بالتدريج كل علاقاته مع العالم ودول المنطقة باستثناء إيران وروسيا. وتحول إلى نظام مارق بكل ما للكلمة من معنى
07 / حزيران / يونيو / 2020
*المصدر: موقع تلفزيون سوريا | يوسف بزي
في الرابع من كانون الثاني من العام 2000، كان اللقاء الأخير الذي عقده كلينتون مع كل من فاروق الشرع وإيهود باراك. كانت المحادثات تتناول تفاصيل الانسحاب من الجولان والتطبيع والأمن. وكشف كلينتون أن “الولايات المتحدة وحلفاءها في أوروبا وآسيا يريدون الإسهام في تطوير الاقتصاد الإقليمي في الشرق الأوسط”. بمعنى أن السلام المنتظر كان يجب تدعيمه بخطة اقتصادية تضمن استقرار دول المنطقة، وبالأخص تهيئة الاقتصاد السوري للانتقال إلى اقتصاد السوق المفتوح.
لكن وبعد تسع سنوات تقريباً من المفاوضات الشاقة المبتدئة من مؤتمر مدريد 1991، تعثرت وانتهت على نحو مفاجئ. أصر الجانب الإسرائيلي على أن تكون الحدود بعيدة بين 400 – 500 متر عن شواطئ بحيرة طبريا، بينما حافظ الأسد كان يريد مشاطأة البحيرة. وهو بالأصل خلاف بين “الانسحاب إلى الحدود الدولية” أو “الانسحاب إلى خطوط الرابع من حزيران 1967”. هذا عدا عن تفاصيل أخرى (محطات الإنذار المبكر، مستوى التطبيع، المياه..).
على هذا الفشل، تغير مصير سوريا. مات الأسد الأب بعد أشهر قليلة. وبدأ عهد الإبن، الذي سريعاً ما ارتمى بالكامل في الحضن الإيراني. وسيتحول بشار الأسد إلى شخصية عدوانية. في الداخل سيسحق “ربيع دمشق” الأول. في لبنان، سيفرض الضابطَ إميل لحود رئيساً، ويستشرس في لجم تداعيات الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني، وأهمها استحقاق انسحاب جيشه من هذا البلد. العداوة الفورية سيظهرها للرئيس رفيق الحريري، بوصفه صاحب مشروع سياسي اقتصادي يتلاءم مع خطط السلام في المنطقة. كما خابت آخر الرهانات التي عبّر عنها الرئيس الفرنسي حينها جاك شيراك لإقناع النظام بسياسة الانفتاح.
هذا المسار أبعد سوريا كلياً عن الغرب والمجتمع الدولي. والحصاد الأول لذلك سيظهر عام 2003، بعد أشهر من غزو العراق واشتداد التوتر بين النظام والولايات المتحدة، حين يُصدر الكونغرس الأميركي “قانون محاسبة سوريا” بتهمة دعم الإرهاب ورفض الانسحاب من لبنان. منذ ذلك الحين، بدأ عهد العقوبات والحصار وشبه القطيعة بين سوريا والعالم. وسيثأر المحور الوليد، “الممانعة”، باغتيال رفيق الحريري بشباط 2005 رداً على كل ما سبق وعلى القرار الدولي 1559 الصادر في أيلول 2004، الذي طمح إلى إخراج الجيش السوري من لبنان وتفكيك ميليشيات حزب الله.
مع هذا الاغتيال، ستتزايد العقوبات الدولية على سوريا ونظامها، الذي سيدخل أيضاً في عزلة وقطيعة مع المنظومة العربية التي لطالما أمدّت سوريا بالمعونات المالية والاقتصادية. وستكون حرب تموز 2006 تتويجاً لخيار الأسد مع حزب الله وإيران، بالذهاب في طريق النكبات والمآسي التي ستنزل بالمشرق العربي.
بين العام 2006 و2011، خسر النظام بالتدريج كل علاقاته مع العالم ودول المنطقة باستثناء إيران وروسيا. وتحول إلى نظام مارق بكل ما للكلمة من معنى. وفي الأثناء، كان التغير الاقتصادي الملموس هو إنهاء اقتصاد الدولة لصالح اقتصاد العصابة. وترافق هذا، مع تدهور ثابت في مستوى المعيشة والدخل وتحلل القطاعات المنتجة، وانهيار في الزراعة وهجرات واسعة من الأرياف بضغط تفاقم الفقر. كانت سوريا تعاني في آن معاً من وطأة العقوبات الخارجية ومن لصوصية حاكمة تنهب ثروات البلد وخيراته.
أما ما فعله الأسد منذ انطلاقة الثورة حتى اليوم، فهو تقريباً غير قابل للوصف. عدوانية إجرامية دمرت سوريا كبلد وكشعب.
كل المآسي التي أصابت سوريا منذ مطلع العام 2000 وحتى اليوم، كانت بسبب إصرار النظام على إبقاء سوريا مصادرة له أرضاً وشعباً، وفي حالة حرب مع العالم.
كان الدولار يساوي خمسين ليرة سورية، وهو اليوم يتجاوز 2200 ليرة. وهذا ليس مجرد رقم. إنه حياة السوريين وشقاؤهم وتعبهم وأرزاقهم وقُوْتهم. إنه ثرواتهم التي تبخرت، أمنهم الغذائي (كرامتهم دون الجوع) وقد تلاشى. إنه ليس رقماً بل ملايين الأطفال الذين سيحرمون من فرصة العيش اللائق، المرضى الذين لن يجدوا دواء، الرجال الذين لن يُطعموا عائلاتهم.
ليست الليرة التي انهارت بل تعب أجيال تبدد.
بهذا المعنى، لم يدفع فقط مئات الآلاف حياتهم رغماً عنهم “كي لا يسقط الأسد”، بل إن الأحياء كلهم وغصباً عنهم سيظلون إلى أمد طويل يدفعون ثمن بقاء هذا النظام من شحّ مالهم وغذائهم وطبابتهم وسكنهم وأبسط شروط عيشهم.
يأتي اليوم “قانون قيصر” للاقتصاص من المجرمين. لكن هؤلاء الأخيرين سيُدفِّعون السوريين الثمن. والقانون الذي يرمي إلى حرمان النظام من موارده، سيحوله هذا النظام إلى علّة لامتصاص ما تبقى بين أيدي السوريين من مصادر قوت. سيخطف منهم آخر أنفاس عيشهم. بل هو تحضير لما سيأتي به قانون قيصر، سطا ويسطو اليوم على أموال شركائه في العصابة، التي هي أصلاً أموال السوريين المسروقة.
المسار الجهنمي الذي ابتدأ عام 2000 بحرمان السوريين من تحول بلدهم إلى دولة طبيعية، (بل بإهدار فرصة استعادة الجولان كي لا يتزعزع النظام)، ثم بمعاقبتهم إلى حد الإبادة، أوصلهم اليوم بشار الأسد ومع “قانون قيصر” إلى البؤس المطلق.
فإذا كان هذا كله بلغة “الممانعة” انتصاراً على المؤامرات الصهيونية الأمبريالية، فما كانت نتيجة المؤامرة لو نجحت؟!