في حين يبدو الصراع في سوريا يقترب من نهايته، فمن المهم جدا ألا يكون ذلك مناسبة للإفلات من العقاب بالنسبة لكبار المرتكبين، أو لفرض سياسة عفا الله عما مضى.
24 / آب / أغسطس / 2018
مع العدالة
لم تتأخر سوريا في مجال العدالة الانتقالية، فما إن انطلقت الثورة السورية في آذار 2011، حتى انتبه بض المهتمين إلى أهمية دراسة العدالة الانتقالية وضرورة وإمكانية تطبيقها في سوريا. بل إن مسار العدالة الانتقالية السوري بدأ قبل الثورة السورية، ففي النصف الثاني من العقد الأول من الألفية اجتمع عدد من الناشطين المدنيين والحقوقيين لوضع خطة من أجل الكشف عن حقيقة ما جرى في سوريا في مطلع الثمانينات من أجل الوصول إلى شكل من أشكال تحقيق العدالة انتقالية لضحايا تلك الحقبة السوداء من تاريخ سوريا. ولكن الثورة السورية عاجلت الجميع، فطويت تلك الصفحة التي كانت متأثرة آنذاك بالتجربة المغربية في العدالة والإنصاف والمصالحة.
لقد كان رد فعل النظام السوري على انتفاضة السوريين السلمية مخزيا فعلا، فالنظام أطلق النار الحي على المحتجين واعتقل الشباب المدني وعذبه وقتله في سجون وأماكن توقيف غير إنسانية، ودمّر المدن والبيوت والمدارس والمشافي ودور العبادة، وهجّر نصف السوريين من بيوتهم.
السوريون الذين راعهم ردّ الفعل الفاشي للنظام، أخذوا منذ الأيام الأولى للانتفاضة بوضع تصورهم لمساءلة الجناة وتحقيق العدالة. ووجدوا في العدالة الانتقالية ضالتهم، باعتبارها أقصر الطرق وأقلها كلفة وأكثرها واقعية لإنصاف الضحايا. وراح الناشطون السوريون يثقفون أنفسهم في موضوعة العدالة الانتقالية وينظمون دورات تدريبية لناشطين آخرين في هذا المجال. واستعانوا بخبرات خبراء عرب وأجانب لديهم باع طويل في مجال العدالة انتقالية وخبرة نظرية وميدانية ورغبة اصيلة في مساعدة السوريين.
وبدأ سوريون ينظمون أنفسهم في منظمات غير حكومية مختصة بقضية العدالة الانتقالية ويبنون فيما بيهم صلات ومشاريع مشتركة. وقد انقسمت المنظمات السورية التي تخصصت في قضايا العدالة الانتقالية إلى فئات عدّة، بينها المناصرة (مثل المركز السوري للعدالة والمساءلة والمركز السوري للإعلام وحرية التعبير عن الرأي والهيئة السورية للعدالة والمساءلة ومنظمة “دولتي” ومركز المواطنة المتساوية وتجمع المحامين السوريين الأحرار واليوم التالي وغيرها) والتوثيق (مركز توثيق الانتهاكات، الشبكة السورية لحقوق الإنسان، ومركز توثيق الانتهاكات الكيميائية) والتدريب (المركز السوري للعدالة الانتقالية، بيت الخبرة السوري’ الخ).
منظمات سورية تعمل في مجال العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان
أدناه، ثبت بأهم المنظمات السورية التي عملت في مجال العدالة الانتقالية:
- المركز السوري للعدالة والمساءلة (واشنطن)
- مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان (واشنطن)
- بيت الخبرة السوري (أمريكا)
- مركز توثيق الانتهاكات
- الرابطة السورية للمواطنة
- المركز السوري للإعلام وحرية التعبير
- الهيئة السورية للعدالة والمساءلة
- المعهد السوري للعدالة والمساءلة
- المركز السوري للعدالة الانتقالية (مسعى)
- اليوم التالي
- تجمع المحامين السوريين الأحرار
- الشبكة السورية لحقوق الإنسان
- اللجنة السورية لحقوق الإنسان (لندن)
- دولتي
- لجنة ضحايا سجن صيدنايا
- المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية
- المركز السوري للإحصاء والبحوث
- مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان
- اللجنة القانونية بالائتلاف الوطني
- الهيئة السورية للعدالة الانتقالية (الحكومة المؤقتة)
- سوريون من أجل الحقيقة والعدالة
- منظمة حقوق الإنسان في سوريا (ماف)
- مجموعة العمل لأجل معتقلي سوريا
- هيئة محامين حلب الأحرار
- مركز الكواكبي للعدالة الانتقالية وحقوق الإنسان
- المعهد السوري للعدالة (كردي)
- مركز التآخي “Birati” للديمقراطية والمجتمع المدني (كردي)
- اللجنة الكردية لحقوق الإنسان
مجموعة تنسيق العدالة الانتقالية
مجموعة تنسيق العدالة الانتقالية هي أول تحالف مجتمع مدني للمنظمات التي تعمل في مجال المساءلة والعدالة الانتقالية. وتضمّ المجموعة عددا من المنظمات السورية العاملة في مجال العدالة الانتقالية والسلم الأهلي وحقوق الانسان، تعمل على تنسيق جهودها في كافة مجالات العدالة الانتقالية بهدف الوصول إلى رؤيا لمشروع وطني شامل للعدالة الانتقالية في سوريا.
بدأت فكرة مجموعة تنسيق العدالة الانتقالية بين عدّة منظمات حقوقية، على أن تطوّرت إلى تحالف يضمّ أكثر من 20 منظمة سورية غير حكومية، تأتي من مختلف المناطق السورية وتضمّ كافة المكونات السورية. وتهدف المجموعة إلى:
- بناء ائتلاف حول العدالة الانتقالية
- صياغة رؤية وطنية للعدالة الانتقالية في سوريا
- البدء بعملية تشاور واسعة لإشراك السكان على نطاق أوسع في عملية العدالة الانتقالية
- المساعدة في تحسين أداء المنظمات التي تعمل في مجال التوثيق والتدريب والدعوة في هذا المجال
- وتشجيع الضحايا وعائلاتهم على تنظيم أنفسهم في منظمات الضحايا.
واستفادت المجموعة من تجارب العدالة انتقالية في عدد من البلدان من بينها تجارب تونس واليمن وليبيا والعراق ولبنان في العدالة الانتقالية. كما تلقى ممثلوها تدريبا شاملا من خبراء دوليين في العدالة الانتقالية.
حددت مجموعة التنسيق مجموعة من الجرائم والانتهاكات ، واتفق على أهمية العمل لضمان محاسبة الجناة. وتشمل الانتهاكات: القتل الجماعي والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والتعذيب والقتل تحت وطأة التعذيب وعمليات الإعدام خارج نطاق القضاء والاغتيال والاضطهاد وتجنيد الأطفال واستخدام الأسلحة غير المشروعة والاختطاف والاحتجاز والاختفاء القسري والاغتصاب والاعتداء الجنسي والإجبار على الزواج وغيرها.
اختارت الجمعية العامة لجنة تنفيذية وأربع لجان فرعية. اللجان الفرعية الأربع هي: لجنة الاتصالات الخارجية، ولجنة توسيع مجموعة التنسيق بين منظمات تعمل على العدالة الانتقالية، ولجنة التنسيق الداخلي، ولجنة تمثيل الضحايا. طورت مجموعة التنسيق موقعًا إلكترونيًا كان بمثابة منصّة ومكتبة افتراضية لجميع المجموعات المشاركة بالإضافة إلى الأطراف الخارجية.
على أن مجموعة التنسيق بدأت مؤخرا بالتراجع، بسبب خلافات داخلية، أدت إلى وقوع المجموعة بما يشبه الشلل، ولا بدّ من ضخ دماء جديدة في المجموعة من أجل إعادتها إلى واجه الأحداث فيما يخص العدالة الانتقالية.
رؤى ومشاريع استراتيجية من أجل عدالة انتقالية خاصة بسوريا
قد عقدت عشرات ورشات العمل التدريبية لتدريب الناشطين السوريين على موضوعة العدالة الانتقالية في إستنبول وبيروت وبعض العواصم الأوروبية. كما عقدت اجتماعات وموسعة لوضع تصور عن تطبيق آليات العدالة الانتقالية في سوريا. ولعلّ أهم هذه المحاولات ثلاث:
مشروع اليوم التالي
في مطلع العام 2012، وقبل مرور سنة على الانتفاضة السورية، سارع نحو خمسين مثقَّفاً وناشطاً وحقوقياً وسياسياً سوريا إلى عقد اجتماعات شهرية في مدينة برلين لوضع تصور عن المرحلة الانتقالية التي ستأتي في سوريا من أجل الانتقال إلى الديمقراطية، وقد قسَّم المشاركون أنفسهم إلى ستة مجموعات هي بالترتيب: حكم القانون، العدالة الانتقالية، إصلاح القطاع الأمني، إصلاح النظم الانتخابية، كتابة الدستور، والإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية. في نهاية الفترة صاغت كل مجموعة فكرتها وتكفَّل فريق من المحررين بصياغة المشروع النهائي الذي نشر في شهر تموز 2012، تحت عنوان: “مشروع اليوم التالي: دعم الانتقال الديمقراطي للسلطة في سوريا”.
المشروع تشكَّل كحاجةٍ طبيعية يفرضها الحدث السوري، إذْ أنَّه بعد قيام الانتفاضة السوريَّة، بدا واضحاً أنَّ عملية نقاش واسعة سوف تجري حول إعادة تشكيل سوريا جديدة بمؤسّساتها وهيكليّاتها الجديدة، وكانت وراء فكرة مشروع “اليوم التالي” هو جمع ممثّلين عن معظم أطياف المُعارضة السياسيَّة والمجتمع المدني ليضعوا تصوراً شاملاً من مختلف النواحي حول المرحلة الانتقاليَّة التي ستمرُّ بها البلاد، وأيضاً حول ضرورة حماية المواطنين والمنشَآت وعدم الدخول في مرحلة فوضى.
وقد خرج تقرير “اليوم التالي” بتوصيات فيما يخصّ العدالة الانتقالية، من أجل تشكيل لجنة تحضيرية للعدالة الانتقالية بشكل فوري لتقوم بصياغة استراتيجية للعدالة الانتقالية والبدء بتنفيذها والتخطيط لحماية السجلات والوثائق والبدء بالتواصل مع الشعب السوري للعمل على تفادي الهجمات الانتقامية وزيادة الوعي بآليات العدالة الانتقالية ورصد الاهتمام الدولي والنظر في إطارات العمل المناسبة لتنسيق ودمج آليات العدالة الانتقالية المتعددة وإعداد الكوادر ليعملوا في مؤسساتها.
عند حدوث الانتقال، يتم تحويل اللجنة التحضيرية إلى لجنة وطنية مستقلة للعدالة الانتقالية بتفويض رسمي يخولها التنسيق والإشراف على جدول أعمال العدالة الانتقالية على المستوى الوطني لضمان دمج وتناسق وتناسب عناصرها المختلفة والعمل على التوفيق بين المبادرات والتعامل مع أي تباين في صياغة وتطبيق السياسات المتبعة.
تأسيس محكمة جنائية خاصة ككيان قضائي مستقل مؤقت ضمن النظام القضائي السوري، وذلك وفقاً للمعايير الدولية وتحت سيادة الدولة السورية لمحاكمة الأفراد ذوي المناصب العليا، مثل كبار المسؤولين في نظام الأسد وأفراد عائلة الأسد ومرتكبي الجرائم ضد الانسانية على أن يتم محاكمة الأفراد ذوي المناصب الأدنى من خلال الإجراءات القضائية الاعتيادية المتعارف عليها.
منح العفو المشروط والفحص والتدقيق فيه بدلاً من منح عفو عام.
تشكيل لجنة تقصي حقائق للبدء بعملية البحث عن الحقيقة بشكل واسع وشامل وجمع روايات ومقاطعتها مع الأحداث الأخيرة خلال الثورة. وستعمل تحت هذه اللجنة لجان فرعية إحداها تاريخية تتعامل مع انتهاكات فترة ما قبل الثورة والثانية ستتعامل مع فترة الثورة نفسها.
وضع نظام للتعويض بعدة أشكال، منها التعويض المادي والرمزي ورد الأموال إلى أصحابها وإعادة التأهيل وضمانات عدم عودة الممارسات الخاطئة وتقديم اعتذارات رسمية.
تمكين المصالحة الوطنية على المدى البعيد من خلال تدريس الثورة في المناهج الدراسية وكتب التاريخ وإقامة النصب التذكارية والدعم النفسي والاجتماعي والحوار والتواصل الوطني.
مشروع منظمة دولتي
في شهر نيسان/ابريل 2013، عقدت منظمة “دولتي” مؤتمرا موسعا حضره عدد كبير من ناشطي المجتمع المدني والسياسيين السوريين إضافة إلى عدد من الخبراء الأجانب المختصين في الشأن السوري. وقد خرج اللقاء بوثيقة فريدة عن العدالة الانتقالية وإمكانية تطبيقها في سوريا. وسلّط مشروع دولتي الضوء على الفروقات بين الآليات القضائية وغير القضائية، وعلى لجان التحقيق وتقصّي الحقائق ومهمة كلّ منها, وكذلك تمّ بيان مهام لجان الحقيقة، وإحياء ذكرى الضحايا والشهداء والمنكوبين في النزاع الحالي، سواء عن طريق إعادة تسمية الشوارع والحواري بأسمائهم تخليداً لذكراهم، أو عن طريق بناء المتاحف، والاعترافات الرسمية وأفعال التذكير. وأعطى بصورة عامة توضيحاً لمفهوم العدالة الانتقالية، وتوصيفا لجرائم الحروب والإبادة الجماعية، كما يتطرّق إلى تحديد أنواع المسؤوليات من حيث المباشرة، أو الارتباط والعودة للقيادة، مسهباً في شرح طرق التحقيق في تلك الجرائم وفقا للقانون الدولي.
وشرح المشروع أسباب وآليات الاستبداد التي اعتمدت واستندت إلى حكم نظام البعث على مدى العقود الأربعة المنصرمة, كما ركّز الكتاب على الحديث عن النسيج الفسيفسائي المتنوع والمختلف من حيث تعدد وتنوع المذاهب والإثنيات في سوريا، وعرض إلى نشأة الثورة وتطور مراحلها وصولاً إلى النزاع المسلّح، مؤرشفاً انتهاكات حقوق الإنسان قبل النزاع المسلح وخلاله، بدءاً بالاعتقال التعسفي القسري، وسوء المعاملة في الحجز، والوفاة تحت التعذيب، وانتهاءً بالمجازر الجماعية، والعنف الجنسي الذي تعرض له أبناء الشعب السوري رجالا ونساء، شبابا وأطفالا.
وأبرز المشروع أيضا نتائج الصراع وعواقبه، والآثار المترتبة عليه من النزوح الداخلي، واللجوء إلى دول الجوار، والآثار السلبية على الأطفال المتضررين نتيجة الحرب نفسياً وجسدياً، كما تبيّن دور العوامل الإقليمية وكيفية تأثيرها على سير عملية العدالة الانتقالية وتطبيقاتها المحتملة في سوريا، وماهي الموارد المتاحة لهذه العدالة، وما هو دور المجتمع المدني بمنظماته وتجمعاته في مسار هذه العملية، وصولاً إلى حملات التوعية والأبحاث، وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان.
وناقش المشروع أهم العوامل والتحديات التي تعترض مسار عملية العدالة الانتقالية وسبل تطبيقها، كالتنوع في النسيج المجتمعي الديني المذهبي في سوريا والذي ترسخ وتعمق خلال النزاع المسلح، بالإضافة إلى محدودية الفهم لمسألة الوعي القومي، وضعف دور المجتمع المدني لضعف تجربته في سوريا.
وخلص في النهاية إلى نتيجة مفادها بيان أهمية مفهوم العدالة الانتقالية، ودوره في تأمين الانتقال من سوريا الماضي الهزيل تحت ظل البعث، إلى سوريا الجديدة، سوريا الدولة المدنية الديمقراطية، إلى سوريا القادرة على التغلب على ماضيها، وعلى فترة الصراع وأبشع وأفظع انتهاكات حقوق الإنسان خلاله، والبدء ببناء سوريا الدولة وطن للجميع.
مشروع خطة التحول الديمقراطي
انطلق المركز السوري للدراسات السياسية والاستراتيجية بالعمل على وضع مشروع متكامل، يشمل رؤية لتطوير عمل المعارضة السورية في مواجهة نظام الأسد، ومن ثم تقديم مشروع متكامل لإدارة المرحلة الانتقالية التي تبدأ مع سقوط النظام، وصولاً إلى وضع أطر واضحة لبناء دولة سورية حديثة تتسع لكل السوريين على اختلاف أطيافهم، ويتمتع بها المواطن بكافة حقوقه وحرياته ويشارك بالحياة السياسية دون قيود ظالمة. وقد سار المركز السوري للدراسات السياسية والاستراتيجية قدماً في هذا المشروع من خلال عدة خطوات قام بها، كإطلاق فكرة الحكومة المؤقتة من خلال مؤتمر إدارة المرحلة الانتقالية في سوريا الذي نظمه في استانبول في أكتوبر 2012، والتأكيد على مركزية فكرة العدالة الانتقالية في المرحلة الانتقالية في سوريا من خلال المؤتمر الذي نظمه في يناير 2013 وأعلن بعدها تأسيس اللجنة التحضيرية للعدالة الانتقالية في سوريا، وأخيراً إطلاق بيت الخبرة السوري لرؤيته الشاملة والمقترحة للمرحلة الانتقالية في سوريا ضمن تقرير “خطة التحول الديمقراطي في سوريا”.
وفي يومي 26 و27 كانون الثاني من عام 2013 أقام المركز السوري للدراسات السياسية والاستراتيجية مؤتمراً في مدينة إسطنبول التركية بعنوان “العدالة الانتقالية في سوريا: ضمانات العدالة للضحايا والمحاسبة لمرتكبي الجرائم، مسار العدالة الانتقالية في سوريا”. وقد شارك فيه أكثر 120 شخصية سورية ودولية، تضمن المؤتمر محادثات ومناقشات حول إقامة برامج العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية التي يمكن تنفيذها في سوريا بعد انتهاء النزاع. وحضر المؤتمر ممثلون عن عدد من العائلات الذين فقدوا أبناءً لهم خلال الثورة، كما شارك أيضاً في المؤتمر قادة المعارضة السورية السياسية ممثلين بالائتلاف الوطني، والمجلس الوطني السوري، والمجلس الوطني والكردي، وغيرها من كتل المعارضة، بالإضافة إلى عدد كبير من نشطاء حقوق الإنسان وقضاة ومحامين منشقين. بالإضافة إلى مجموعة من الخبراء في ملف العدالة الانتقالية من منظمات دولية ومؤسسات أكاديمية مختلفة حيث قدموا تجربتهم الشخصية والمهنية مع برامج العدالة الانتقالية التي أقيمت في دول مختلفة بعد انتهاء النزاع.
وفي نهاية المؤتمر أعلن المركز السوري للدراسات السياسية والاستراتيجية وبيت الخبرة السوري تأسيس مبادرتين جديدتين هما: “اللجنة الوطنية التحضيرية للعدالة الانتقالية في سورية” والتي شُكلت لبناء البرامج والخطط المستقبلية للعدالة الانتقالية في سوريا، وضمت قضاة ومحامين وسجناء سياسيين سابقين ونشطاء في حقوق الإنسان، وتم تشكيل هيئة استشارية دولية من الخبراء الدوليين المشاركين في المؤتمر لتعمل وتشاور الأعضاء السوريين في اللجنة. أما المبادرة الأخرى فهي “جمعية عائلات شهداء الثورة السورية” والتي ضمت أفراداً من عائلات فقدوا أبنائهم في الثورة السورية كعائلة الشهيد حمزة الخطيب وأول شهيد للثورة السورية محمود الجوابرة والشهيد غياث مطر والشهيد تامر الشرعي وغيرهم، وقد شكلت هذه المبادرة لتعمل مع اللجنة الوطنية التحضيرية للعدالة الانتقالية في سورية في مجالي الدفاع عن العدالة ورفض التسويات السياسية على حسابها وتحقيق المصالحة الوطنية.
مقترح المركز الدولي للعدالة الانتقالية
المركز الدولي للعدالة انتقالية مركز مستقل مقرّه نيويورك متخصّص في مجال العدالة الانتقالية، ويعمل المركز على مساعدة المجتمعات التي تمرّ بالمرحلة الانتقالية في معالجة إرث الماضي من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وعلى بناء الثقة المدنية في مؤسسات الدولة كحامية لحقوق الإنسان. وقد عقد المركز عدة ورشات عمل ومؤتمرات حول الحالة السورية، ووصل إلى طرح لاستراتيجية تقوم على ما يلي:
- ينبغي تقييم الظروف الأساسية على الأرض لتحديد ما إذا كان بوسعها دعم عملية المساءلة، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر: مستويات كافية من الأمن للسماح بالمشاركة على نطاق واسع، والتنظيم الاجتماعي الكافي لتمكين إجراء مشاورات وطنية ذات مغزى، ووجود حكومة معترف بها ولديها شرعية من قبل قطاعات كبيرة من المجتمع.
- يجب أن تكون لعمليات المساءلة مرجعية وطنية ومصداقية حقيقية. وينبغي أن تكون ملائمة للسياق السياسي والاجتماعي وأن تتجنب النماذج المسبقة وأن تستند إلى فهم راسخ لشعور الناس بالعدالة والمطالبة بالمساءلة، مثل ما يمكن تطويره من خلال عملية تشاورية واسعة النطاق.
- تعتبر التقييمات المستقلة التي تجري داخل سوريا، إذا ما توفر لها وقت كاف للإعداد والتنفيذ، عنصرا حاسما لنجاح تصميم وتنفيذ تدابير العدالة الانتقالية اللاحقة.
- إن إجراءات العدالة الانتقالية (بما في ذلك البحث عن الحقيقة، والعدالة الجنائية، والتعويضات، والإصلاح المؤسسي) هي الأكثر فاعلية في استعادة الثقة المدنية ومنع العنف المستقبلي عند تنفيذها معاً. العدالة الجنائية وحدها ليست كافية لمواجهة مثل هذه التواريخ على المستوى الوطني. وتبين التجربة من التحولات في جميع أنحاء العالم أن العملية التي يتم بها تطوير وتنفيذ تلك التدابير من المرجح أن تكون مهمة لاستعادة الثقة باعتبارها نتائج العمليات نفسها.
5 -ينبغي التخفيف من التوقعات المتعلقة بالنتائج السريعة منذ البداية، ولكن ينبغي في وقت مبكر توضيح ما إذا كانت هناك مظاهرة موثوقة ومتسقة للإرادة السياسية.
***
اليوم أكثر من أي وقت مضى، تكتسب العدالة الانتقالية أهمية أكبر، باعتبارها الطريق الوحيد لإحقاق الحق وإعادة الحال إلى نصابها في سوريا. وفي حين يبدو الصراع في سوريا يقترب من نهايته، فمن المهم جدا ألا يكون ذلك مناسبة للإفلات من العقاب بالنسبة لكبار المرتكبين، أو لفرض سياسة عفا الله عما مضى. إن الانتصار العسكري لا يمكن أن يكون مبررا للإفلات من العقاب، وفي هذا المجال، تقع على عاتق المجتمع الدولي والإنسانية المتحضّرة مسؤولية عدم السماح للمنتصر أن يفرض إرادته سياسيا وعسكريا وقضائيا. ولشرح أهمية العدالة الانتقالية يجب التفكير في الأسباب التالية:
- الازدياد المضطرد في انتهاكات حقوق الإنسان وارتفاع نسبة جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية في سوريا.
- انتصار ميليشيات النظام وحلفاؤه على الأرض والخوف من أن يعيد النظام سيطرته على مملكة الخوف السورية، ويبدأ بعمليات انتقامية ضدّ كلّ من ثار ضدّه.
- انسحاب الإدارة الأمريكية ومعظم دول العالم من الملف السوري وتركه هدية للاحتلال الروسي.
- اعتراف النظام بقتل وتعذيب وتصفية آلاف المخفيين قسرا من السوريين، من خلال إعلام دوائر السجل المدني بوفاتهم.
- العدالة الانتقالية هي المدخل الضروري لتجاوز مرحلة والانتقال إلى سوريا كدنية، ديمقراطية، وتعددية.
لذلك، تغدو الحاجة إلى حملات مشتركة بين كلّ أطراف المجتمع المدني، من أجل ما يلي:
أولا. معرفة الحقيقة: تسهم معرفة الحقيقة بالنسبة للضحايا وذويهم ركنا أساسيا، لا تستقيم الأمور بدون تحقيقه. وتشمل معرفة الحقيقة كيف ارتكبت الجريمة أو الانتهاك ومتى وأين ومن الفاعل ولماذا. كما تشمل معرفة مكان دفن الجثث في حال عدم تسليمها لذويها. وأهم من ذلك كلّه الاعتراف بالذنب والاعتذار عنه وضمان عدم تكراره.
للوصول إلى ذلك في سوريا، لا بدّ من تشكيل لجنة خاصة بتقصّي الحقائق للبحث عن حقائق مشتركة حول جميع الانتهاكات ودراسة أنماط العنف المترابطة بعضها ببعض. وسيكون من الضروري أن تتمتّع تلك اللجنة بسلطة كاملة في الوصول إلى حقيقة ما جرى والحديث إلى الضحايا والشهود، وربط المعطيات ببعضها وسرد التفاصيل، وإجراء البحوث، وإقامة جلسات علنية، كلما وجدت ذلك ضروريا. كذلك ينبغي إشراك السوريين في عمليات الحوار والتشاور وتوظيف كافة الآليات المناسبة الأخرى للتّثبت من الحقائق المتعلقة بالانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان والقوانين الدولية التي ترعاها، ومن ثم إتاحة تلك الحقائق للشعب. وستقوم اللجنة التحضيرية باتخاذ القرارات الخاصة بتشكيل لجنة تقصي الحقائق ونماذجها وتفويضاتها الرسمية. لا بد أن تكون لجنة تقصي الحقائق خاضعة للإشراف المباشر للّجنة الوطنية للعدالة الانتقالية.
ثانيا. محاسبة كبار المرتكبين الذين أمروا (ونفذوا) بجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية في سوريا: إن الهدف الرئيس للعدالة الانتقالية هو التعامل مع الموروث المتراكم من انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة. إذ تهدف العدالة الانتقالية إلى فرض المساءلة وتحميل الجناة المسؤولية بغض النظر عن هوياتهم والقضاء بالمساواة في كافة إجراءاتها وعملياتها. ومن أجل تحقيق ذلك في سوريا، لا بدّ إنشاء مؤسسات خاضعة للمساءلة واستعادة الثقة من تلك المؤسسات وجعل الوصول للعدالة ممكنا للفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع في أعقاب الانتهاكات. ولا بدذ أيضا من إعطاء الأولوية لسيادة القانون والمساواة أمام المحاكم وضمان أن النساء والمجموعات المهمّشة تلعب دورا فعالاً في السعي لتحقيق مجتمع عادل.
وينبغي أن يكون واضحا أن المساءلة لا يمكن أن تطال جميع المرتكبين، بسبب العدد الهائل للضحايا، وبالمقابل سيكون معيبا التضحية بعدد من كباش الفداء وإعفاء المرتكبين الأساسيين. لذلك لا بدّ من التركيز على مبدأ مساءلة المسؤولين عن “الانتهاكات الجسيمة” لحقوق الإنسان. ويشمل ذلك الأفراد المتربعين على رأس هرم الأوامر، من كبار رجالات الدولية وقادة المؤسسة العسكرية والأمنية وكبار قادة ميليشيات الشبيحة الطائفية وكذلك قادة الميليشيات الأخرى وأمراء الحرب.
إن محاسبة كبار المرتكبين أمر ضروري لإحقاق الحق واستعادة ثقة السوريين في مؤسسات الدولة الجديدة، ولكن إلى جانب المحاسبة على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، لا بدّ من إيجاد آليات متنوعة للمساءلة والشفافية، يكون من شأنها ضمان عدم تكرار وقوع مثل تلك الانتهاكات في المستقبل.
وتتطلّب قضية المساءلة بحثا معمّقا في أفض الآليات لتحقيق ذلك، واختيار الإطار اللازم لإحقاق الحق ومعاقبة كبار المنتهكين. ويستتبع ذلك ضرورة المقارنة بين مختلف آليات المساءلة، ما بين هيئات وطنية أو دولية أو مختلطة.
الإطار الوطني للمساءلة:
يتطلب هذا الإطار وجود جسم قضائي معافى وسليم. من المعروف أن الجسم القضائي السوري عانى لمدة عقود طويلة من التهميش والفساد وتدخل السلطة التنفيذية في عمله وهيمنة المؤسسات الأمنية عليه. ومن المؤكد أن المؤسسة القضائية السورية ليست مستقلة، فوفقا للدستور السوري يرأس رئيس الجمهورية مجلس القضاء الأعلى وينوب علنه وزير العدل. أما من الجانب العملي فالقضاء السوري، بسبب هيمنة السلطة التنفيذية والأمنية، كان على الأغلب مثارا للسخرية وعدم الثقة بين السوريين. إلى ذلك، ورغم وجود عدد كبير من القضاة السوريين النزيهين، ومعظمه اضطر إلى الانشقاق والفرار من سويا، فإن عددهم الإجمالي ليس كافيا على أية حال. ومن الناحية التقنية، ليس للقضاة السوريين عموما الأدوات المعرفية اللازمة لإدارة محاكمات بهذا الحجم، يكون المتهمون فيها كبار المسؤولين والمنتهكين، وتكون الأحكام بحجم الكارثة.
ولكن، يمكن إنشاء وحدة قانونية خاصة من قبل خبراء قانونيين مستقلين بشرط أن تكون الدول ذات الصلة على استعداد للتعاون طواعية أو من خلال اتفاقات ثنائية أو متعددة الأطراف. في حين أنه من غير المرّجح أن يحمل هذا النهج وزناً قانونياً، إلا أنه سيشكل ضغطاً على النظام السوري. هناك عدد متزايد من الدول الأعضاء بما في ذلك المملكة المتحدة التي بدأت بتأييد هذا النهج، حيث إن هذه الدول حذرة من العقبات التي تفرضها المحكمة الجنائية الدولية.
الإطار الدولي للمساءلة:
ويتضمّن هذا الإطار:
- المحكمة الجنائية الدولية: هي منظمة حكومية دولية ومحكمة دولية مقرّها لاهاي بهولندا. للمحكمة الجنائية الدولية صلاحية محاكمة الأفراد على جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب الدولية. والغرض من المحكمة الجنائية الدولية هو استكمال النظم القضائية الوطنية القائمة، وبالتالي لا يجوز لها ممارسة ولايتها القضائية إلا عند استيفاء شروط معينة، كأن تكون المحاكم الوطنية غير راغبة في أو غير قادرة على مقاضاة المجرمين. بدأت المحكمة الجنائية الدولية عملها في 1أول تمّوز/ يوليو 2002، وهو التاريخ الذي دخل فيه نظام روما الأساسي حيز التنفيذ. ونظام روما الأساسي هو معاهدة متعددة الأطراف تعمل كوثيقة تأسيس للمحكمة الجنائية الدولية. تصبح الدول التي تصبح طرفاً في نظام روما الأساسي، على سبيل المثال بالتصديق عليه، دولاً أعضاء في المحكمة الجنائية الدولية. حالياً، هناك 123 دولة طرف في نظام روما الأساسي وبالتالي أعضاء في المحكمة الجنائية الدولية. المشكلة أن سوريا ليست طرفا في نظام روما الأساسي، وإذا لم تنضم الحكومة السورية إلى هذه المعاهدة أو تصدر إعلانا تقبل فيه بصلاحيات المحكمة، فإن المحكمة تبقى في حاجة إلى أن يحيل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الملف السوري إليها. ويُمكن لمجلس الأمن، عبر ما يُعرف بـ “إحالة الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية”، أن يمنح هذه المحكمة صلاحية النظر في مسائل تعود إلى تاريخ دخول نظام روما الأساسي حيّز التنفيذ في 1 يوليو/تموز 2002. ولكنّ مجلس الأمن كما هو معروف منقسم في هذه القضية، وثمة طرفان دائما العضوية هما روسيا والصين لديهما حق الفيتو على أي قرار من هذا النوع. ومع ذلك، فليس من المرجّح أن يقوم مجلس الأمن بإحالة الحكومة السرية إلى المحكمة، لأن الرغبة غير متوفرة أساسا عن الدول الرئيسية في مجلس الأمن، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة. أضف إلى ذلك أن مجلس الأمن، منذ تأسيس المحكمة، لم يقم إلا بإحالة ملفين اثنين إلى محكمة الجنايات الدولية: ملف دارفور وملف ليبيا.
- محكمة دولية خاصة بسوريا: يمكن لمثل هذه المحكمة أن تضمن عدالة حقيقية وفعالة لمحاسبة كبار المرتكبين في سوريا. ولكن تشكيل هذه المحكمة معقّد للغاية، لأنه أيضا يستند إلى وجود رغبة دولية في ذلك. أضف إلى ذلك الكلفة العالية جدا لإقامة هذه المحكمة والعدد المحدود جدا الذي يمكنها محاكمته، كحال المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة مجرمي الحرب في يوغسلافيا السابقة. إن العالم قد فقد شهيته لإنشاء مثل هذه المحاكم، التي أثبتت نزاهتها ولكنها لم تثبت نجاعتها.
- الولاية القضائية العالمية: حيث يمكن ملاحقة مجرمي الحرب في محاكم بعض الدول المحلية تحت الولاية القضائية العالمية للدولة والتي تسمح بمحاكمة جرائم معينة حتى دون توّرط مواطنيها أو أراضيها. إن خيار الولاية القضائية العالمية يمكن استخدامه ضد مسؤولين حاليين أو سابقين في نظام الأسد مّمن يزورون أو يقيمون الآن في أوروبا والولايات المتحدة. كما أنه يمكن أن يكون هذا خيارا أكثر قابلية للتطبيق إذا هرب كبار أعضاء النظام إلى أوروبا في فترة ما بعد الأسد. تماما كما حاكمت فرنسا الروانديين المشتبه بهم التوّرط في الإبادة الجماعية، فمن الممكن للدول الأعضاء الأوروبيين محاكمة السوريين أو المواطنين من جنسيات أخرى 1994عام لجرائم الحرب التي ارتكبت في سوريا. لقد بدأت السويد وألمانيا باستخدام الولاية القضائية العالمية لمقاضاة السوريين المشتبه بهم ارتكاب جرائم حرب. كما أن فرنسا تقوم بدراسة هذا النهج. لقد اعتمدت هذه القضايا على المعلومات التي تم جمعها من قبل لجنة التحقيق الدولية المستقلة (لجنة الأمم المتحدة لتقّصي الحقائق)
- الولاية القضائية المحلية: يمكن للدول الأعضاء رفع دعاوى ضد مجرمي الحرب من خلال الولاية القضائية المحلية على أساس ازدواج الجنسية ووفقا لذلك يمكن أن يحاكم الأفراد من قبل دولتهم. ألمانيا/فرنسا تستخدمان الولاية القضائية المحلية ضد مزدوجي الجنسية الذين عادوا من سوريا بعد القتال مع داعش/جبهة النصرة. يمكن تقديم الدعاوى الجنائية والمدنية للولاية القضائية المحلية ضد المسؤولين في النظام، ويمكن لعائلات مزدوجي الجنسية الذين تعّرضوا للقتل والتعذيب على يد نظام الأسد المطالبة بالتعويضات من نظام الأسد عن طريق محكمة محلية. وهذا سيتمثل إلى حد كبير بجهد رسائل عامة ضد نظام الأسد. رفعت عائلة ستيفن سوتلوف دعوى قضائية في محكمة اتحادية أمريكية ضد النظام، -صحفي أمريكي قتل على يد داعش- اتهمت فيها الأسد بتوفير المال، والمواد، والدعم العسكري لداعش مّما “أدى إلى اختطاف وقتل ستيفن سوتلوف.” ولكن الدعاوى ضد الحكومات أو مسؤوليها تواجه صعوبات جّمة في الحصول على الأدلة اللازمة لتحقيق نتيجة ناجحة.
محكمة وطنية-دولية مختلطة:
تشتمل المحكمة الوطنية-الدولية المختلطة على مزيج من القضاة السوريين والدوليين، تقوم على الأراضي السورية، وتختصّ في محاكمة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت بحق الشعب السوري خلال فترة الثورة السورية مدعمّة بخبرات دولية، وتطبق القانون الدولي، والأفضل أن تكون بإشراف الأمم المتحدة. إن الاستفادة من الخبرات الدولية في المحاكم المختلطة يعزز إمكانيات المحكمة، ويرفع من ثقة السوريين والعالم بأسره فيها. وهي تضمن عدالة نزيهة ومنصفة، وتؤكد على أن الانتقام ليس هو الهدف، وأن الملاحقة لن تشمل مجموعة عرقية أو دينية معينة، بل ستلاحق كبار مرتكبين فحسب. وبذات الوقت فإن ذلك يعطي ثقة أكبر من المجتمع الدولي بالنظام الجديد والتزامه بالعدالة والمصالحة، ويثبت أنه لا مكان لسياسات الثأر أو الانتقام ضمن برنامجه، في وقت سيحتاج فيه السوريون دعم المجتمع الدولي -الذي خذلهم بشكل كبير- لإعمار بلدهم وبناء مؤسساتهم المستقبلية بكل الأحوال، وبالتالي فإن بناء الثقة فيه مسألة بغاية الأهمية، لكن على السوريين أن يدركوا أيضاً أن هناك حدوداً للمساعدة يمكن أن يقدمها المجتمع الدولي، وأن عليهم في النهاية الاعتماد على أنفسهم في بناء ديمقراطيتهم في المستقبل.
ثالثا. جبر الضرر: الذي تعترف الحكومات من خلاله بالأضرار المتكبَّدة وتتّخذ خطوات لمعالجتها. وغالباً ما تتضمّن هذه المبادرات عناصر مادية (كالمدفوعات النقدية أو الخدمات الصحيّة على سبيل المثال) فضلاً عن أشكال رمزية كالاعتذار العلني أو إحياء يوم للذكرى. ويعتبر التعويض المالي وجهاً واحداً فقط من أوجه التعويض. هناك مجال واسع من الآليات الأخرى المتوفرة للإقرار بانتهاكات معينة والاعتذار والتعويض عنها. ولا بد أن تقدم برامج التعويض مزيجاً من التعويض المادي والامتيازات الرمزية للضحايا والتي قد تشمل التعويضات المالية (بشكل رواتب تصرف للأرامل والأيتام) ومعاشات تقاعدية ومنح دراسية إلى جانب تقديم الدعم النفسي. وتتضمن الإجراءات الرمزية اعترافاً واعتذاراً رسمياً من رئيس الدولة السورية المستقبلية باسم المجتمع السوري عن كافة الأخطاء التي تم ارتكابها بحق الضحايا، بالإضافة إلى مبادرات تخليد ذكرى الضحايا.
ولا بدّ، على أية حال، من أن يشمل جبر الضرر، أولا، إعادة الحقوق، بحيث تعود الأمور (البيوت، الأعمال، إلخ) إلى ما كانت عليه قبل وقوع الضرر، وثاناي، التعويض المادي مقابل أشكال الضرر القابلة للقياس، بما في ذلك الضرر الاقتصادي والنفسي والمعنوي، وثالثا، إعادة التأهيل الصحي والنفسي والتعليمي، مع تقديم خدمات قانونية.
على أن مسألة جبر الضرر عموما مسألة معقدة. وهي في سوريا أكثر تعقيدا بسبب العدد الهائل للضحايا من قتلى ومشوّهين ومعتقلين ومختفين قسريا، إضافة إلى الخسائر المرعبة اقتصاديا وتدمير البيوت والتهجير والخسائر النفسية والمجتمعية، من مثل انهيار العوائل والطلاق وزواج الأطفال والزواج من أجانب بسماء مستعارة، إلخ.
لذلك، ستحتاج أية حكومة وطنية مستقبلية إلى بحث معمّق في آليات العدالة الانتقالية ودراسة سبل التعويض الممكنة والبحث عن مصادر تمويل هذه التعويضات، من خلال مصادرة الأموال غير المشروعة لكبار المرتكبين والفاسدين في سويا، والاستثمارات الوطنية والمساعدات الخارجية وإشراك القطاع الخاص السوري في عملية جبر الضرر.
رابعا. إصلاح المؤسسات: يشمل إصلاح المؤسسات جميع مؤسسات الدولة القمعية، سواء العسكرية والأمنية أم القضائية والاقتصادية والتربوية والثقافية، ويهدف الإصلاح على تفكيك آلية الانتهاكات البنيوية بالوسائل المناسبة وضمان عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والإفلات من العقاب، وبناء مؤسسات قائمة على الكفاءة والشفافية وتكافؤ الفرص. وبهذا الشكل يتمّ استبعاد العناصر الفاسدة نهائيا وإعادة تأهيل العناصر التي يمكن الاستفادة منها في بناء المؤسسات، وتتحول مؤسسات الدولة، في مسار طويل وصعب، إلى مؤسسات نزيهة تعمل حقّا وليس قولا في خدمة الشعب والقانون وتعمل على حفظ السلام وحماية القانون وسيادة الدولة وتعتمد بشكل فعلي على إصلاح الأجهزة الأمنية وتطهير الجيش من مرتكبي الانتهاكات والجرائم بحق الشعب.
إنّ إصلاح المؤسسات هو العملية التي تتمّ بموجبها مراجعة مؤسسات الدولة وإعادة هيكلتها، بحيث تحترم حقوق الإنسان وتحافظ على سيادة القانون وتخضع للمحاسبة الناخبين. وبإدماج عنصر العدالة الانتقالية، تساهم جهود الإصلاح في ضمان محاسبة المرتكبين الأفراد، وفي تعطيل البنى التي أتاحت حدوث تلك الانتهاكات.
أولى المؤسسات التي ينبغي العمل على إصلاحها في سوريا هي المؤسسات العسكرية والأمنية، التي كانت الأداة الرئيسية لاستمرار الانظمة المتعاقبة خلال خمسة عقود منذ استيلاء حزب البعث على السلطة، وبخاصّة في ظل الأسدين، حيث حازت سوريا بجدارة على سمعتها كدولة مخابرات، من خلال أسلوب المراقبة وشبكة مكثفة من المخبرين ومن خلال الاستخدام المنهجي للقمع، ناهيك عن تطور ذلك ليغدو القتل والتعذيب والاغتصاب سمة أساسية من سمات هذه المؤسسات.
ستركز عملية إصلاح هذه المؤسسات على هدف نهائي وهو إعادة بناء القوات المسلحة وتحويلها إلى جيش محترف تحت سيطرة المدنيين، وانشاء وكالات استخبارات غير مسيّسة، مع إشراك مختلف مكونات الشعب السوري في بنائها.
ولا شكّ أن ثمّة تحديات تواجه عملية اصلاح القطاع الامني ستجعلها طويلة ومعقدة. وأهم التحديات هي حجم الدم الذي أريق في سوريا، وصعوبة إصلاح كلّ الصفوف العليا والوسطى في هذه المؤسسات، والمبالغ الهائلة التي يتعين تأمينها من أجل بناء مؤسسات عسكرية وأمنية بعقيدة جديدة وسياسة مختلفو. وثمّة عائق آخر هو غرس ثقافة ديمقراطية في مؤسسة عسكرية. أما التحدي الآخر، فهو الانتشار الكبير للسلاح بين السوريين وهيمنة فصائل راديكالية متطفرة، ستقف عائقا في وجه بناء مؤسسات أمنية حديثة.
ولكن إصلاح المؤسسات لا يتوقف عن المؤسستين الأمنية والعسكرية، فجميع مؤسسات الدولة الأخرى يجب أن تخضع لعملية إصلاح جذري. وسيتطلب ذلك:
فحص أهلية الموظفين: النظر في خلفية الموظّفين من خلال إعادة الهيكلة أو التوظيف للتخلّص، في مجال الخدمة العامة، من المسؤولين الاستغلاليين والفاسدين، أو بمعنى آخر لمعاقبتهم.
الإصلاح البنيوي: إعادة هيكلة المؤسسات بغية تعزيز النزاهة والشرعية، من خلال ضمان المحاسبة وبناء الاستقلالية وتأمين التمثيل وزيادة الاستجابة.
الإشراف: إنشاء هيئات الإشراف ذات الظهور العلني ضمن مؤسسات الدولة لضمان المحاسبة أمام الحوكمة المدنية.
تحويل الأطر القانونية: إصلاح أو إنشاء أطر قانونية جديدة، مثل اعتماد تعديلات دستورية أو معاهدات دولية لحقوق الإنسان لضمان حماية حقوق الإنسان وتشجيعها.
التربية: برامج التدريب للمسؤولين والموظفين العامين حول معايير حقوق الإنسان القابلة للتطبيق والقانون الإنساني الدولي.
ويهدف إصلاح المؤسسات كتدبير للعدالة الانتقالية إلى الاعتراف بالضحايا كمواطنين وحاملي حقوق، وإلى بناء الثقة بين كافة المواطنين ومؤسّساتهم العامة. فالتدابير الهادفة إلى تأمين المساعدة في هذا الإطار تتضمّن الترويج لحرية المعلومات، وحملات المعلومات العامة حول حقوق المواطن، وتدابير الإصلاح الشفهيّة أو الرمزية مثل الأنصبة التذكارية أو الاعتذارات العلنية.
خامسا. المشاركة والاستشارات المجتمعية: إن مسارا ناجحا للعدالة الانتقالية في سوريا لا يمكن أن يكون من دون سلسلة طويلة من المشاورات الوطنية التي يشارك فيها ممثلون عن جميع المواطنين، وبخاصة ضحايا القمع الاستبداد وعائلاتهم والمنظمات التي تمثلهم، إضافة على قادة المجتمع المدني السوري والإعلاميين والأكاديميين والسياسيين. ويتطلب مسار المشاورات الوطنية عقد سلسلة في المحافظات، تتوج بعقد ندوة وطنية بالعاصمة يتم فيها طرح جميع المقترحات الواردة من الجهات ويكون من مخرجاتها تصميم تصور نهائي لجبر الضرر وإصلاح الحقيقة والمساءلة والمصالحة الشامل الذي سيتم اعتماده.
ومن المهم إشراك عدد كبير من الجهات الوطنية والمدنية السورية، بما فيها النساء وغيرهم ممن تم استبعادهم. تعتمد قيمة واستدامة جهود العدالة في هذا السياق بشكل كبير على مشاركة الناس خارج هياكل السلطة السياسية والاقتصادية. وهذا يعني تجاوز اتفاقيات النخبة وأصحاب المصالح الخاصة؛ في تتطلب أن يشارك الضحايا وغيرهم من الفئات المهمشة في تحديد أفضل السبل لمعالجة الإخفاقات الهائلة لحقوق الإنسان لبناء مستقبل أكثر أمنا بالنسبة لهم.
وتلعب هنا مؤسسات المجتمع المدني دورا كبير في إنجاح خطط العدالة الانتقالية في سورية من خلال نشر الوعي القانوني وتقديم التسهيلات لإجراء المحاكمات وتوثيق الجرائم والانتهاكات وباستطاعتها الإشراف على سير العدالة الانتقالية وتقديم المشورة للجان تقصي الحقائق وتشجيع الضحايا على رفع الدعاوي ضد المسئولين عن الجرائم للانتقال بسورية من حالة الشمولية إلى حالة الديمقراطية والتعددية وفق دستور يحفظ حقوق جميع المواطنين.
كما ينبغي التأكيد على قضية الابتكار في تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا. فمن المحتمل في بعض الظروف ألا تتناسب الطرق الأكثر جدوى في معالجة الانتهاكات الجسيمة الإنسان مع المفاهيم التقليدية للمساءلة. على سبيل المثال، في ظروف النزوح القسري الهائل، ربما يجب أن يحتل ضمان العودة الآمنة، وإعادة حقوق الملكية، وتحديد مصير المفقودين التركيز الأولى لنهج قائم على حقوق الإنسان في التعامل مع الفظائع والدمار التي وقعت. هذه القضايا قد تكون لها الأسبقية على القضايا التقليدية للعدالة الجنائية أو تقصي الحقائق وجهود البحث عن الحقيقة، ولكن يجب أن نكون على استعداد لرؤية هذه الجهود كجهود العدالة الانتقالية.
خاتمة
وصل السوريون على ضرورة تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا باعتبارها مدخلا للمساءلة والتعويض وضمان عدم التكرار والمصالحة، منذ الأيام الأولى للثورة. وبدأ سوريون ينظمون أنفسهم في منظمات غير حكومية مختصة بقضية العدالة الانتقالية ويبنون فيما بيهم صلات ومشاريع مشتركة. وقد شمل ذلك منظمات المناصرة والتوثيق والتدريب وغيرها. وزاد عدد هذه المنظمات عن الخمسين منظمة سورية غير حكومية، شارك بعشها في وضع تصورات لتحقيق العدالة الانتقالية في سوريا. كما شكل عدد من هذه المنظمات تحالفا للعدالة الانتقالية باسم “مجموعة تنسيق العدالة الانتقالية”، التي كانت أول تحالف مجتمع مدني للمنظمات التي تعمل في مجال المساءلة والعدالة الانتقالية، هدف إلى صياغة رؤية وطنية للعدالة الانتقالية في سوريا والبدء بعملية تشاور واسعة لإشراك السكان على نطاق أوسع في عملية العدالة الانتقالية وتشجيع الضحايا وعائلاتهم على تنظيم أنفسهم في منظمات الضحايا.
اليوم أكثر من أي وقت مضى، تكتسب العدالة الانتقالية أهمية أكبر، باعتبارها الطريق الوحيد لإحقاق الحق وإعادة الحال إلى نصابها في سوريا. وفي حين يبدو الصراع في سوريا يقترب من نهايته، فمن المهم جدا ألا يكون ذلك مناسبة للإفلات من العقاب بالنسبة لكبار المرتكبين، أو لفرض سياسة عفا الله عما مضى. إن الانتصار العسكري لا يمكن أن يكون مبررا للإفلات من العقاب، وفي هذا المجال، تقع على عاتق المجتمع الدولي والإنسانية المتحضّرة مسؤولية عدم السماح للمنتصر أن يفرض إرادته سياسيا وعسكريا وقضائيا.
بيد أن ثمّة عقبات كبيرة تقف في وجه تطبيق مسار العدالة الانتقالية في سوريا، أهما استفحال انتهاكات حقوق الإنسان وارتفاع نسبة جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية في سوريا، وانتصار ميليشيات النظام وحلفاؤه على الأرض والخوف من أن يعيد النظام سيطرته على مملكة الخوف السورية، ويبدأ بعمليات انتقامية ضدّ كلّ من ثار ضدّه وانسحاب الإدارة الأمريكية ومعظم دول العالم من الملف السوري وتركه هدية للاحتلال الروسي و4. اعتراف النظام بقتل وتعذيب وتصفية آلاف المخفيين قسرا من السوريين، من خلال إعلام دوائر السجل المدني بوفاتهم. ومن المعيقات الأخرى الكلفة الهائلة لتطبيق العدالة من حيث المحاكم ووسائل جبر الضرر وإصلاح المؤسسات. ومع ذلك ليس أمام السوريين من أجل إعادة بناء وطنهم أخلاقيا وسياسيا واجتماعيا سوى تطبيق العدالة الانتقالية، ما أمكننا ذلك.
.
.