ما يعيب عمل محكمة الجنايات الدولية، أنها لا ترفع الدعاوي إلا بناء على إحالة من مجلس الأمن، أو بطلب من أي دولة في الأمم المتحدة، وبالتالي ففي جزء من نظامها هي محكومة بالشلل
19 / شباط / فبراير / 2019
*أحمد عيشة – مع العدالة
تاريخياً، لم تجر محاكمة مجرمي الحروب أو الذين قاموا بانتهاكات ضد البشر من تعذيب وقتل إلا في حالات قليلة تمّت وفق إرادة المنتصرين، أو المنتصر، أما في حالة الصراع بين الكبار، فغالباً ما يتم نسيان الجرائم التي ارتكبوها هم أو وكلاؤهم، لكن هذا لا يميت حق المطالبة بعدالة أي كانت صيغتها، على هذه الأرض أو في السماء.
طيلة فترة الحرب الباردة، التي امتدت من نهاية الحرب العالمية الثانية لبداية التسعينيات من القرن الماضي، كان المجرمون من حكام ديكتاتوريين وميليشيات يتمتعون بحماية أحد الطرفين، أو كليهما في حالات خاصة (الأسد مثلاً)، وبالتالي كان للجرائم تصنيفات سياسية حيث كثيراً ما غاب عنها التصنيف القضائي.
جرت أولى المحاكم عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، عقب انتصار السوفييت والأميركان على ألمانيا النازية وقتها فيما عرف بمحاكمات نورنبيرغ، حيث طالت مسؤولين وقادة المجازر من سياسيين وعسكريين وشرطة سرية، وللعلم كانت محاكمات عسكرية، ورغم ذلك نجا العديد من مجرمي الحرب النازيين، أما الجرائم التي اقترفها جيش الحلفاء لدى اجتياح ألمانيا فليست “جرائم” وإنما عمليات “تحرير”.
تأسست أثناء ذلك محكمة العدل الدولية، في حزيران 1945، لكنها اختصت في حل النزاعات والخلافات بين الدول المستقلة الموجودة ضمن الأمم المتحدة.
في منطقتنا، خلال تلك الفترة التي عرفت بفترة الاستقلال والتحرر الوطني، كانت تلك المفاهيم وأشكال الحكم غائبة تماماً، فكل الدول العربية محكومة من قبل ضباط عسكريين وملوك وأمراء، وغالبيتهم مستبدون، وأكثرهم استبداداً، نظام الأسد، الذي اشتهر بمجازره في الثمانينيات وخاصة مجزرة سجن تدمر الشهيرة بحق معتقلين مجردين من كل شي، حتى من ثيابهم، ومن بعدها مجزرة حماة في شباط 1982 التي دمر فيها المدينة، وقتل ما لا يقل عن (20) ألف إنسان بأشكال ووسائل مرعبة، ليست بشرية أو حيوانية، إنها أسدية.
بعد انهيار معسكر الكتلة الشرقية في بداية التسعينيات وهيمنة نظام القطب الواحد الأميركي، وعقب حالات الاقتتال التي نتجت عن تفتت بعض الدول الشرقية، مثل يوغسلافيا، حيث ارتكب الصرب والكروات مجازر عرقية ودينية فظيعة، تأسست محكمة خاصة بيوغسلافيا اعتماداً على قرار مجلس الأمن رقم 827 تاريخ 25 آذار/ مارس 1993، وبالاعتماد على الفصل السابع من هذا الميثاق واُختيرت مدينة (لاهاي) الهولندية مقراً لها، ورغم أنها استمرت في عملها لحوالي 24 عاماً، لكنها لم تُحاكم سوى القلة من مجرمي الحرب الصربيين والكروات.
تلاها تأسيس محكمة خاصة مشابهة لها كذلك بقرار من مجلس الأمن رقم 955 في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 1994، وهي المتعلقة برواندا عام 1994، ومقرها تنزانيا، في أعقاب المجازر بين قبائل التوتسي والهوتو والتي راح ضحيتها أكثر من (500) ألف إنسان بمختلف وسائل القتل البدائي والحديث، والجديد فيها إدخال تهمة الإبادة الجماعية ضمن الجرائم الموصوفة. ورغم عدم انتهائها من إدانة كل من اتهمتهم (حوالي مئة شخصية) إلا أن مجلس الأمن أنهى عملها بنهاية عام 2015.
على ضوء تلك التجربتين، باشرت المناقشات من أجل تأسيس محكمة الجنايات الدولية، التي لم يُعلن عن تأسيسها إلا عام 2002 اعتماداً على ميثاق روما لعام 1998، والتي صار من اختصاصها جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية. ومن أبرز إنجازاتها بما يتعلق بمنطقتنا طلب المدعي العام فيها توقيف الرئيس السوداني عمر البشير لاتهامه بالتورط في” أعمال إبادة جماعية” في دارفور، ورغم كل المناشدات والطلب من الدول ومن مجلس الأمن لا يزال هذا الديكتاتور طليقاً يرقص بالعصا حتى أمام الثائرين ضد حكمه.
رغم تأسيس هذه المحكمة، لم تتول قضية التحقيق بمقتل رفيق الحريري، رئيس وزراء لبنان في شباط 2005، حيث تأسست محكمة خاصة بلبنان نتيجة اتفاق بين لبنان والأمم المتحدة بقرار من مجلس الأمن رقم 1757 تاريخ 30 أيار/ مايو 2007، والتي لا تزال مستمرة بعملها حتى تاريخه من دون قدرتها على تحديد المجرمين رغم كل الأدلة لديها.
ما يعيب عمل محكمة الجنايات الدولية، أنها لا ترفع الدعاوي إلا بناء على إحالة من مجلس الأمن، أو بطلب من أي دولة في الأمم المتحدة، وبالتالي ففي جزء من نظامها هي محكومة بالشلل.
أما في سورية التي تحكمها العائلة الأسدية منذ حوالي خمسين عاماً، فالجرائم لا تُعدّ ولا تحصى، فبدءاً بالاعتقالات والتي طالت ما يقارب مئات الألوف، تعرض فيها المعتقلون لصنوف تعذيب معروفة، ومنها ما اختلقها مخابرات النظام، من ضرب وحشي لحد التشويه، وتقطيع أطراف وكسر عظام، وحرق أثناء الحياة والموت (فرن صيدنايا)، والحالات كثيرة جداً، تمتد من سجن تدمر في الثمانينيات حتى سجن صيدنايا الشهير بسوئه، وما بينهما كافة فروع التشبيح والتعذيب الكثيرة.
هذا عن الاعتقال، أما عن عمليات قصف القرى والبلدات والمدن بأسلحة استراتيجية كالطائرات والصواريخ فتشهد عليها المنازل المدمرة التي وصلت لحد مليوني منزل، والتي حصدت مئات الآلاف من أرواح المدنيين، والتي أدت لهجرة الملايين داخل وخارج سورية. كما أنه لم يتوانَ عن استخدام الأسلحة الكيمياوية وأكثر مرة، كانت أشهرها المجزرة التي سببتها في الغوطة الشرقية حيث راح ضحية الاختناق حوالي 1300 إنسان.
أمام كل هذه الفظاعات الموصفة والموثقة والمصورة، هل من سبيل لتقديم مرتكبي هذه الجرائم إلى محاكم دولية أو خاصة؟
ضمن الاستقطاب الحاصل في التصارع على سورية، يبدو الأمر لأول وهلة مستحيلاً، خاصة إذا عرفنا أن روسيا استخدمت حق النقض أكثر من عشر مرات لمنع صدور قرار من مجلس الأمن يدين سلوك النظام ويطالبه بوقف جرائمه، وفي نفس الوقت غياب الموقف الحازم من الإدارة الأميركية والغرب من ورائها، لكن هذا لا يدعو لليأس، فهناك بوادر أمل في إمكانية محاكمة هؤلاء المجرمين، آخرها ما قضت فيه محكمة أميركية حول مقتل الصحفية كولفين، وقبلها قانون قيصر الذي يدعو لمعاقبة المجرمين وفرض عقوبات عليهم ما أن يكتمل التصديق عليه من دوائر صنع القرار في أميركا، والمحاولات الإفرادية التي جرت في بعض الدول الأوروبية (اسبانيا وفرنسا وألمانيا) في رفع قضايا ضد شخصيات أمنية ارتكبت جرائم ضد الإنسانية، وآخرها اعتقال عناصر أمنية في ألمانيا وفرنسا، فهذه الإجراءات القضائية تشكل بادرة يجب التركيز جيداً عليها، خاصة أن هناك بعض المعتقلين يحملون جنسيات دول أوروبية وهم من أصل سوري.
ما ينبغي ألا نتوقف عن عمله هو جمع الوثائق والأدلة وهي كثيرة، والتأكد منها لتكون أدلة دامغة أمام المحاكم التي ترفع قضايا ضد هؤلاء القتلة، والعمل مع كافة المنظمات الحقوقية والمدنية الأوروبية والأميركية لتشكيل حالة ضغط ضد حكوماتها بحيث لا تتنازل عن تلك القضايا، أو تساوم عليها ضمن الصفقات المعروفة بين الدول والقائمة على المصالح. ولنكن على ثقة بأنه يوماً ما سيُحاكم هؤلاء القتلة، رغم حالة الاستقطاب السائدة التي تشكل حماية للمجرمين.
مواد شبيهة :
مجزرة الأسد الأب في حماه 1982 دليلاً لمجازر الابن