في الوقت الذي ذكر فيه تقرير لمنظمة "هيومان رايتس ووتش" أن في كل من ألمانيا والسويد عناصر عديدة متوفرة تسمح بإجراء التحقيقات والملاحقات القضائية على الجرائم الفظيعة في سوريا
30 / تشرين ثاني / نوفمبر / 2018
*سائد الشخلها
منذ بداية الثورة، والحرب بين مناصري الحرية والعدالة، وبين النظام الذي شرّع أبواب الحرب على جميع الجبهات، كان أهم الملفات التي قاتل الشعب السوري للحصول عليها هو ملف محاسبة المجرمين، والذي كان –بسبب ارتهان القضاء المحلي للنظام المجرم-لا يمكن تطبيقه إلا بآليات دولية، ومع اصطدام آمال السوريين بصخرة الفيتو الروسي-الصيني وفشل كل لجان التحقيق العربية والدولية، كان لابد من البحث عن طرق جديدة أكثر نجاعة لتحقيق العدالة.
وبعد سبع سنوات من البحث والمحاولة من قبل الحقوقيين السوريين والمتعاطفين مع القضية السورية، وفي وقت كادت آمال الجميع بالتلاشي، طفا على السطح بصيص أمل قد يجعل من محاكمة المجرمين أمراً واقعاً، وهو استخدام مبدأ الولاية العالمية لمحاكمة كل من تلطخت أيديه بدم الشعب السوري.
يجرّم القانون الدولي جرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية ومختلف انتهاكات حقوق الإنسان، ويفرض على جميع الدول أن تحقق في تلك الجرائم وتحاكم مرتكبيها أمام القضاء الوطني، وفي حالة افتقاد القضاء الوطني شروط النزاهة والعدالة، لا يتبقى أمام ضحايا تلك الانتهاكات سوى اللجوء إلى دول يطبق نظامها القضائي قاعدة الولاية القضائية العالمية، والتي حققت فيما سبق عدة إنجازات لا يستهان بها، كدور المحاكم الوطنية الكينية بعرقلة زيارة الرئيس السوداني “عمر البشير” لأراضيها، وسعيها لتحويل أمر المحكمة الجنائية الدولية بالقبض عليه لأمر قضائي وطني، وكذلك قرار المحكمة البريطانية بإصدار مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين، وبعدها، أمرها بمحاسبة أي مسؤول مصري تورط بدماء المتظاهرين في مصر، يضاف إليها دور هذا الاختصاص بمحاكمات المجرمين في رواندا والبوسنة، وكان آخرها منذ أيام بمطالبة “مجموعة الخمسين محام للدفاع عن الحريات والتصدي للانحراف بالسلطة” في تونس، رفع دعوى قضائية لدى المحاكم التونسية بتكليف من مدونين وصحفيين يطالبون بمنع زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى تونس تحت نفس هذا المبدأ.
استخدامات سابقة
في أول حكم تحت الولاية القضائية العالمية خاص في الشأن السوري أدانت محكمة في ستوكهولم عام 2015 المواطن السوري “مهنّد الدروبي” والحاصل على إقامة في السويد عام 2013، بتهمة التعذيب كجريمة حرب إذ كان مقاتلاً في “الجيش السوري الحر”، ونال في البداية عقوبة بالسجن مدتها 5 سنوات، قبل أن تصبح 8 سنوات، وفي آذار 2016 اعتقلت الشرطة السويدية عنصراً آخر من جماعة سورية مسلّحة، واتُهم بالمشاركة في قتل 7 جنود سوريين في 2012 خارج أرض المعركة.
أما في ألمانيا، قالت الشرطة إنها فتحت 13 تحقيقاً في قضايا تتعلق بسوريا، فضلاً عن “تحقيق هيكلي” حول سوريا أيضاً لجمع أدلّة متوفرة في ألمانيا لتسهيل إجراء محاكمات جنائية مستقبلية أمام محاكم ألمانية أو محاكم أخرى؛ ويواجه مواطنان سوريان على الأقل في الوقت الحالي تهم جرائم حرب في ألمانيا لأنهما كان ينتميان لجماعات سورية مسلحة. حيث اتُهم أحدهما باختطاف مراقب تابع للأمم المتحدة في 2013، والآخر مشتبه بقيادة ميليشيا أشرفت على تعذيب عديد من الأسرى.
وفي فرنسا، فتحت النيابة العامة أيلول 2015 تحقيقاً أولياً في أعمال فظيعة ارتكبتها الحكومية السورية استناداً إلى مجموعة صور قيصر، ولم تحدد النيابة العامة الفرنسية إن كانت لها ولاية قضائية على هذه الجرائم أم لا، وأفادت تقارير إعلامية أن مصالح الهجرة الفرنسية وفّرت معلومات للنيابة العامة حول عدد من المشتبه بهم، بما في ذلك منشق يُشتبه في ضلوعه في تعذيب وقتل معارضين للحكومة في 2011 و2012.
وأفادت تقارير أن السلطات النرويجية بصدد التحقيق مع 20 من السوريين كانوا تابعين للقوات السورية المسلحة والجماعات المسلحة.
وقال مسؤولون هولنديون عام 2015 إنهم حدّدوا 10 سوريين في البلاد مشتبه بارتكابهم جرائم دولية خطيرة، وهم الآن بصدد التحقيق معهم.
وفتح النائب السويسري العام في آب 2016 تحقيقاً جنائياً في جرائم حرب مرتكبة في سوريا.
وذكر في تقرير “هيومن رايتس ووتش” الصادر عام 2016 والذي كان تحت عنوان “أولى الخطوات نحو المساءلة في سورية والعراق. أزمة اللاجئين واستخدام الولاية القضائية العالمية في أوربا” أن مُعظم الحالات التي استخدمت فيها الولاية القضائية العالمية استهدفت عناصر من الجماعات المسلحة المعارضة في سوريا أو من الجماعات الإسلامية المتطرفة مثل داعش. ورغم أن ذلك يعود على الأرجح إلى توفر معلومات عن هذه العناصر لدى المدّعين الأوروبيين – وليس بسبب انحياز في السياسات – إلا أن ذلك يعني أن حالات الولاية القضائية العالمية لا تعكس الفظاعات التي ترتكبها الحكومة السورية على نطاق واسع ضدّ المدنيين.
نقلة نوعية
مع بدايات هذا العام بدأت ملامح العمل الذي قامت به المنظمات الحقوقية السورية والأوربية خلال السنوات الماضية بالظهور، حيت تم قبول أكثر من 10 قضايا كلها كانت ضد مسؤولين في النظام، كان أولها في ألمانيا بحق جميل حسن، رئيس جهاز المخابرات الجوية السوري، والمطلوب في مذكرة توقيف بتهم التواطؤ في التعذيب والاختفاء القسري وجرائم ضد الإنسانية، وآخرها إصدار مذكرات توقيف من القضاء الفرنسي بحق كل من علي مملوك، مدير مكتب الأمن الوطني وأحد مستشاري بشار الأسد المقربين، وجميل حسن، وعبد السلام محمود، مدير فرع التحقيق في مركز اعتقال المخابرات الجوية ضمن مطار المزة العسكري في العاصمة السورية دمشق، وهو ما ترك ردود فعل دولية متباينة؛ ففي حين رحبت معظم الدول الأوربية بهذه الخطوات كبداية لعهد جديد يسدّ فيه القضاء المحلي الثغرة التي شكلها القضاء الدولي، كانت معظم الحكومات العربية عدا قطر وفلسطين بين رافض ومتحفظ على استمرار العمل بهذه الآلية.
ففي الوقت الذي ذكر فيه تقرير لمنظمة “هيومان رايتس ووتش” أن في كل من ألمانيا والسويد عناصر عديدة متوفرة تسمح بإجراء التحقيقات والملاحقات القضائية على الجرائم الفظيعة في سوريا، والأهم بينها توفر أطر قانونية متكاملة، ووحدات متخصصة جيدة الأداء معنية بجرائم الحرب، وتجارب سابقة في الملاحقات القضائية في هذا الصنف من الجرائم، ردت البعثة الدائمة للنظام السوري لدى الأمم المتحدة على موضوع توسع الولاية القضائية بـ” إن بلادي سوريا ترفض تجاهل البعض للدور الأساسي لقرارات وأحكام محكمة العدل الدولية، كما وترفض محاولات تهميش مكانة هذا الجهاز القضائي باعتباره الأول والوحيد في إطار منظومة عمل الأمم المتحدة، هذا في الوقت الذي تسعى فيه بعض الدول الأعضاء إلى توسيع نطاق الولاية القضائية العالمية، بطريقةٍ مشوهة تستهدف الانتقاص من سيادة الدول ومن دور ومكانة مؤسساتها القانونية والقضائية الوطنية”، في توجس واضح منهم من هذا المبدأ الذي قد يكون الخطوة الأولى على طريق محاسبة جميع مجرمي الحرب في سورية، إن لم نقل نقلة نوعية في عالم القضاء وطرق تحقيق العدالة في العالم كله.
بعد أعوام من المحاولات الفاشلة لتحقيق العدالة لشعب تم ذبحه وتهجيره بكل الطرق المتوحشة والسادية، نرى الآن نوراً يأتي من بعيد قد يحقق للثكالى والمهجرين عدالتهم التي يسألون الله عنها في كل يوم، والفضل بذلك كله يعود للمنظمات الحقوقية السورية والأوروبية التي آمنت بعدالة القضية السورية ودافعت عنها، وكانت تبحث بشكل مستمر عن طرق تستطيع فيها إحاطة النظام السوري بطوق من جرائمه وعزله سياسياً كخطوة أولى لاستصدار قرارات دولية تعمل على اسقاطه.
المزيد للكاتب:
⇓