#########

المحاسبة

أهمية الاختصاص العالمي في ملاحقة مرتكبي الجرائم بحق الشعب السوري


يعتبر مبدأ الاختصاص القضائي العالمي أحد الأدوات الأساسية لضمان منع وقوع انتهاكات القانون الدولي الإنساني، والمعاقبة عليها في حال ارتكابها من خلال فرض العقوبات الجنائية، وهو يشكل استثناء لمبدأ الإقليمية في القوانين الوطنية.

07 / أيلول / سبتمبر / 2018


أهمية الاختصاص العالمي في ملاحقة مرتكبي الجرائم  بحق الشعب السوري

 

المحامي ميشال شماس

 

إن الدعوة اليوم إلى تحقيق العدالة في سوريا وإدانة الانتهاكات والجرائم المرتكبة بحق السوريين ومحاسبة مرتكبيها، باتت مطلباً هاماً وملحّاً ليس من أجل تأكيد سيادة القانون  والمحاسبة وردّ المظالم إلى أهلها وتعويض الضحايا وطمأنة ذويهم وحسب، بل وأيضاً، من أجل إرساء حركة السلم الأهلي والتحول نحو مجتمع آمن وقادر على إرساء الديمقراطية، ووضع حدّ للأحقاد واليأس والإحباط والاحتقان والتطرّف والعنف ومنع حدوث حالات انتقام عشوائية  قد تدمّر روابط المجتمع السوري. ولأن أيضاً حجم المأساة التي يعانيها الشعب السوري لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، سواء من حيث العدد الهائل للضحايا والمهجّرين والمختفين قسرياً في سجون النظام، أو من حيث حجم الدمار الهائل والنهب الواسع الذي طال البشر والحجر…إلخ؛

ورغم ارتفاع أصوات ملايين السوريين المطالِبة بإحالة ملف الجرائم المرتكبة في سوريا إلى محكمة الجنايات الدولية، إلا أن عدم جدية الأمم المتحدة والفيتو الروسي حالا دون إحالة ملف سورية إلى المحكمة المذكورة، أو حتى إنشاء محكمة خاصة بالجرائم المرتكبة في سورية، على غرار محكمة يوغسلافيا. وهذا ما أعطى مؤشّراً واضحاً للمجرمين بأن يمعنوا في إجرامهم بحق السوريين، وتشجيع المجرمين الآخرين على ارتكاب جرائم أكثر وأشد بشاعة، الأمر الذي يتناقض مع جوهر المواثيق الدولية الخاصة بحماية حقوق الإنسان.

 

أمام هذا الواقع لم يتبقَّ أمام السوريين إلا طرق أبواب المحاكم الوطنية في الدول الغربية والأوروبية تحديداً، التي تسمح تشريعاتها ومحاكمها بملاحقة المشتبه بارتكابهم مخالفات جسيمة لحقوق الإنسان بغض النظر عن جنسياتهم، ومكان ارتكاب الجريمة المزعومة، وتقديمهم إلى محاكمها وفقاً لما نصّت عليه اتفاقيات جنيف4  لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 الذي وسِّع من نطاق هذا الالتزام ليشمل المخالفات الجسيمة الوارد تعريفها فيه، إضافة إلى جرائم الحرب الأخرى، مثل تلك المدرجة في المادة الثامنة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998، وهو ما بات يُعرف  بمبدأ الاختصاص العالمي(1[i]) competence universelle   .

 

 

فمَ هو مبدأ الاختصاص العالمي؟

يعتبر مبدأ الاختصاص القضائي العالمي أحد الأدوات الأساسية لضمان منع وقوع انتهاكات القانون الدولي الإنساني، والمعاقبة عليها في حال ارتكابها من خلال فرض العقوبات الجنائية، وهو يشكل استثناء لمبدأ الإقليمية في القوانين الوطنية، فهو ينطلق من فكرة الدفاع عن المصالح والقيم ذات البعد العالمي، ومنح أي قاضي وطني الحق في توقيف ومحاكمة المشتبه به بارتكاب الجرائم المذكورة في اتفاقيات جنيف الأربع، واتفاقية روما المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية، واتفاقية مناهضة التعذيب، وذلك بصرف النظر عن مكان ارتكاب الجريمة وجنسية مرتكبها أو جنسية الضحايا. ويتم ممارسة هذا المبدأ عندما لا تضطلع دولة جرت فيها انتهاكات خطيرة للقانون الدولي الإنساني بمسؤوليتها لاتخاذ إجراءات قانونية في مباشرة التحقيق في الادعاءات المتعلقة بتلك الانتهاكات ومحاكمة مرتكبيها. وإن ممارسة هذا الاختصاص القضائي العالمي بشكل فعَال من قبل دول العالم سيشكل الآن وفي المستقبل آلية فعاّلة لضمان المُساءلة ووضع حد للإفلات من العقاب.

 

وإن الهدف الأساسي من اللجوء إلى تطبيق الاختصاص القضائي العالمي كإجراء استثنائي للعدالة الدولية، كان لأجل  سدّ الثغرات الموجودة في القانون الدولي، الذي مازال يفتقر إلى وجود صيغة فعّالة لتطبيق الاختصاص العالمي، هذه الثغرات التي يستفيد منها المجرمون في الإفلات من العقاب والمحاسبة، فمحكمة الجنايات الدولية مثلاً مازالت مقيدة بإرادات الدول، لاسيما الدول الخمس دائمة العضوية التي تمتلك حق النقض في مجلس الأمن وهي روسيا والصين وأمريكا وفرنسا وإنكلترا ،يضاف إليها أن اختصاص المحكمة  يبقى محدوداً زمنياً بالجرائم المرتبكة ابتداء من تاريخ نفاذ قانون المحكمة في عام 2002، وفقاً لنص المادة “11” من النظام الأساسي للمحكمة، ولا يحق لها البحث في أية جرائم  قبل عام 2002  إلا إذا وافقت الدولة  المعنية على ذلك، وهذا يعني إفلات المجرمين الذين ارتكبوا جرائهم قبل عام 2002 من الملاحقة والمحاكم. والقول نفسه ينطبق على المحاكم الدولية الخاصة، كما في المحكمة الخاصة بيوغسلافيا السابقة والمحكمة الخاصة بلبنان على سبيل المثال. (2[ii])

 

 

والاختصاص القضائي العالمي ليس بديلاً عن الاختصاص الوطني،  بل يشكل امتداداً له في منع إفلات المجرمين من الملاحقة والمحاسبة، وهو بهذه الصفة، يقوم بمهمة النظر في الجرائم وملاحقة مرتكبيها نيابة عن المجتمع الدولي، وهي مهمة ترتكز على التضامن الإنساني للدفاع عن مصلحة الشعوب والدول برمتها وحمايتها جنائياً ومنع المجرمين المتهمين بجرائم خطيرة من التمتع بحق اللجوء، أي الحظر الجماعي على تواجدهم  في أي دولة  دون ملاحقة ومحاكمة(3[iii]).

بدأ تقنين الاختصاص العالمي من خلال اتفاقيات جنيف لعام  1949، حيث نصت عليه  في المادة  “149” من الاتفاقية الأولى والمادة “50 من الاتفاقية  الثانية والمادة “129” من الاتفاقية الثالثة  والمادة 146 من الاتفاقية الرابعة، وعلى أن  كل دولة صادقت على هذه الاتفاقيات  تعتبر ملزمة  بملاحقة الأشخاص المشتبه بهم اركاب  انتهاكات جسيمة  ومحاكمتهم  مهما كانت جنسيتهم( 4)، وتم التأكيد أيضاً بعد محاكمات نورنبورغ على أنه  ينبغي ملاحقة الأشخاص الذين قاموا  بارتكاب جرائم  الحرب  بناء على مبدأ العالمية، وتطبيق الاختصاص الجنائي العالمي  على جميع المخالفات  الخطيرة لاتفاقيات جنيف الأربع، والتي يندرج معظمها تحت فئة جرائم الحرب ضد الإنسانية،  أما الجرائم  الأخرى  التي يمكن للدول ملاحقتها  وفقاً لها ممارسة الاختصاص العالمي  فتشمل الإبادة الجماعية، التي ترتكب أثناء الحروب  والتعذيب وتجارة الرقيق،  والهجمات على الطائرات أو اختطافها، والأعمال الإرهابية، وكذلك جريمة الاختفاء القسري (5[iv])

 

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل يمكن للسوريين الاستفادة من تطبيق الاختصاص العالمي في الجرائم والانتهاكات الخطيرة التي ارتكبت بحقهم  سواء من قبل قوات نظام الاسد  والميليشيات المسلحة الإيرانية واللبنانية والعراقية والكردية والإسلامية في ظل عدم توفر إمكانية إحالة ملف سوريا إلى محكمة الجنايات الدولية أو إقامة محكمة خاصة للنظر بالجرائم والانتهاكات الخطيرة في سورية نظراً إلى تعطيل هذه الإمكانية  بفعل الفيتو الروسي  في مجلس الأمن؟

 

في الإجابة على هذا السؤال الهام، نقول نعم، إنه يمكن الاستفادة من اللجوء الى مبدأ الاختصاص العالمي، لاسيما في الدول التي تأخذ في قوانينها وتشريعاتها ومحاكمها الوطنية بهذا المبدأ.  ولا بد هنا من التذكير بالعمل الرائع الذي أنجزه فريق من المحامين والنشطاء السوريين في المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية Syrian Center for Legal Researches & Studies و المركز السوري  للإعلام وحرية التعبير Syrian Center for Media and Freedom of Speech بالتعاون مع المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان(ECCHR)  وبعد سنوات من الجهد والعمل المضني من فتح الطريق أمام السوريين لاسيما اللاجئين منهم في الدول الأوربية لملاحقة ومقاضاة المسؤولين عن جرائم التعذيب وجرائم ضد الإنسانية في سوريا، وتمكنوا من رفع أربع  قضايا  في ألمانيا  وواحدة في النمسا  بحق عدد كبير من المسؤولين الأمنيين والعسكريين في نظام الأسد،  يشتبه بأنهم مارسوا التعذيب والقتل الممنهج  بحق آلاف من المعتقلات والمعتقلين  في  مراكز الاحتجاز، كما يواصل فريق المحامين السوريين اتصالاته مع عدد من الدول الأوروبية الأخرى من أجل أن تفتح محاكمها  لقضايا جديدة بحق مرتكبي  جرائم التعذيب  والقتل  في السجون السورية ومراكز الاحتجاز السرية.

 

وكان  المدعي العالم الاتحادي الألماني  قد استجاب مشكوراً وبشكل مباشر في 12 مايو / أيار 2017 للدعوى الجزائية الأولى التي رفعت في برلين بخصوص التعذيب في سوريا استناداً لمبدأ الاختصاص العالمي وأصدر قراره فيها بإصدار مذكرة توقيف بحق اللواء جميل حسن مدير إدارة المخابرات الجوية في سورية، والمتهم بإعطاء الأوامر لمرؤوسيه بتعذيب المعتقلين حتى الموت (6[v])

 

 

وقد وصف الأستاذ أنور البني أحد المدعين في هذه الدعوى إلى جانب كلّ من الأستاذين مازن دوريش ومنعم هيلانة: “إنها خطوة تاريخية في سبيل تحقيق العدالة للسوريين، ومحاسبة المجرمين الذين لن يكون لهم مكان آمن بعد الآن،” وتعهد:” بمواصلة ملاحقة كافة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والتعذيب بحق الشعب السوري، أينما كانوا”. وختم حديثه بالقول: “ننتظر باقي مذكرات التوقيف بحق باقي المجرمين في سورية، وعلى رأسهم الرئيس بشار الأسد”، مؤكدًا أنه “لن يكون هناك مأمن لهم بكل العالم”. ([vi]7)

 

وكان المركز الأوربي لحقوق الإنسان في برلين وهو الداعم الأساسي لجميع الدعاوي التي رُفعت في ألمانيا والنمسا، حتى الآن قد أصدر بياناً في  8 يونيو 2018 تعليقاً على مذكر التوقيف بحق اللواء جميل حسن “إن مذكرة الاعتقال بحق “جميل حسن” تشكل نقطة انعطاف وخطوة هامة لصالح المتضررين من منظومة تعذيب الأسد، ولصالح الناجين وعائلات الضحايا وللمعتقلين الذين ما زالوا قابعين في مراكز اعتقال الحكومة السورية”، وذلك على حد تعبير فولفغانغ كاليك، الأمين العام لمنظمة المركز الأوروبي لحقوق الإنسان الدستورية European Centre for Constitutional and Human Right. كما أن ذلك يشكل إشارة مُشجعة لــ ٢٤ شخصاً من النشطاء السوريين والناجين من التعذيب، والذين ساهمت شهاداتهم بالوصول لمذكرة الاعتقال ، سويةً بمشاركة من المحامي السوري أنور البني (المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية) ومازن درويش (المركز السوري للإعلام وحرية التعبير)، حيث تم رفع أربع دعاوى قضائية في ألمانيا بحق مسؤولين رفيعي المستوى من حكومة الأسد. و”جميل حسن” هو رأس جهاز المخابرات الجوية في سوريا”.

 

وأضاف البيان” “من خلال إصدار مذكرة اعتقال كهذه، فإن مكتب المدعي العام الألماني يؤكد بأن مصير أولئك المسؤولين رفيعي المستوى المسؤولين عن التعذيب في سوريا هو مواجهة العدالة. ألمانيا تبدي من خلال ذلك استعدادها للانخراط في تحقيقات جدّية وعملية للمساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة”، على حد تعبير السيد فولفغانغ كاليك الذي أضاف “على السلطات القضائية في بلدان أخرى أن تحذو حذو القضاء في ألمانيا. فطالما ليس هنالك محكمة خاصة أو دولية لملاحقة الجرائم في سوريا، يتوجب على دول أخرى استعمال مبدأ العدالة الدولية Principle of Universal Jurisdiction “([vii]8)

 

وما كان لهذه الجهود أن تثمر لولا جهود المحامين السوريين الذين أخذوا على عاتقهم هذه المهمة، ولولا شجاعة المدعين الأبطال في الإدلاء بشهادتهم، وكذلك أيضاً لولا تعاون المركز الأوربي لحقوق الإنسان، لما كانت هذه الدعاوى.

 

وحالياً تبذل جهود كبيرة لمتابعة ملاحقة المجرمين من خلال رفع قضايا مماثلة في دول أوروبية أخرى، تأخذ قوانينها وتشريعاتها ومحاكمها بمبدأ الصلاحية العالمي،ة كما في السويد والنرويج؛ كما تجري اتصالات مع دول أخرى لتعديل قوانينها وفتح الباب أمام محاكمها بملاحقة مرتبكي الانتهاكات الخطيرة وجرائم الحرب استناداً لمبدأ الصلاحية العالمية،  رغم اقتناعنا بأنّ العدالة للسوريين لن تتحقق في محاكم أجنبية بعيداً عن سوريا، ولكن رفع هذه الدعاوى في أكثر من دولة، واستغلال وجود أعداد كبيرة من اللاجئين في الدول الأوروبية، سيعطي  إشارة قوية لجميع المجرمين  أنه لن يكون هناك إفلات من العقاب، ويساعد على تقليص الملاذات الآمنة التي يفكر المجرمين باللجوء إليها، وأنهم لن يكونوا بمنأى عن ملاحقتهم  ومساءلتهم عن الجرائم الخطيرة التي ارتكبوها بحق السوريين مهما طال الزمن.. كما أنها تعطي جرعة أمل بالنسبة للضحايا وذويهم بأن لا يفقدوا الأمل في تحقيق العدالة  طالما إن هناك سوريين يواصلون جهودهم في سبيل ملاحقة المجرمين ومحاكمتهم وإبقاء باب العدالة مفتوحاً.) [viii]9)

 

المراجع:
1 الاختصاص العالمي
2 اتفاقية روما
3 عالمية الاختصاص العالمي   أمنستي
4  Human Rights Watch
5 الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري لعام 1973، اتفاقية  مناهضة التعذيب لعام 1984  الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006  لمزيد من التفاصيل يرجى  الرجوع إلى موقع الأمم المتحدة – حقوق الانسان- مكتب المفوض السامي.
 6   يرجى مراجعة مجلة دير شبيغل الألمانية
7  من تصريح المحامي أنور البني مدير المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية لصحيفة جيرون
8 بيان صحفي صادر عن المركز الأوربي لحقوق الإنسان في برلين بخصوص مذكرة توقيف اللواء جميل حسن
9 يقدر عدد السوريين الذين لجأوا إلى أوروبا بأكثر من مليون لاجىء  بينهم حوالي  699000 لاجىء سوري في ألمانيا وحدها

.

.