#########

المحاسبة

جهود محاسبة النظام السوري والآليات المتاحة (2-2)


يمكن ملاحقة مجرمي الحرب في محاكم بعض الدول المحلية تحت الولاية القضائية العالمية للدولة والتي تسمح بمحاكمة جرائم معينة حتى دون توّرط مواطنيها أو أراضيهاK ويمكن استخدام الولاية القضائية العالمية ضد مسؤولين حاليين أو سابقين في نظام الأسد مّمن يزورون أو يقيمون الآن في أوروبا والولايات المتحدة

10 / كانون أول / ديسمبر / 2018


جهود محاسبة النظام السوري والآليات المتاحة (2-2)

 

 

 

 

 د. بشير زين العابدين – مع العدالة

 

الآليات المتاحة للمساءلة والمحاسبة

يمثل المسار القانوني مجالاً واعداً في مواجهة النظام وحمله على وقف الانتهاكات الواسعة التي دأب على ارتكابها منذ نحو خمسة عقود، وذلك في مقابل تراجع الملف العسكري وجمود المسار السياسي، حيث تتجه سياسات العديد من الدول نحو مماهاة الموقف الروسي في إعادة تأهيل النظام الأسد، ومنحه الشرعية التي فقدها، وتطبيع العلاقات معه.

وقد سارت الوساطة الأممية بهذا الاتجاه، حيث استبعدت المواضيع الشائكة مثل المحاسبة والعدالة الانتقالية، وغضت الطرف عن ملفات التهجير والإخفاء القسري والمعتقلين بهدف إنجاح جهود تشكيل اللجنة الدستورية، وفي ظل تعثر الوساطة الأممية وعدم قدرتها على إقناع النظام في التعاون معها في تشكيل تلك اللجنة، بدأت العديد من الأطراف في التفكير بجدية حول الوسائل المتاحة لنزع الشرعية عن النظام، ومن أهمها:

 

الإطار الوطني للمساءلة

1- رفع قضايا في المحاكم السورية: يتطلب هذا الخيار وجود جسم قضائي يتسم بالنزاهة والحياد، وهو أمر غير متوفر في ظل حكم بشار الأسد، وذلك نتيجة تفشي المحسوبية والفساد وتدخل السلطة التنفيذية في عمله وهيمنة المؤسسات الأمنية عليه. ومن غير الممكن افتراض استقلالية القضاء السوري في ظل الصلاحيات التي يمنحها دستور النظام لبشار الأسد الذي يرأس وفق بنوده مجلس القضاء الأعلى وينوب عنه وزير العدل.

وعلى الرغم من ذلك فإنه يتوفر في سوريا عدد لا يستهان به من القضاة المنشقين عن النظام، والذين يملكون الكفاءة والخبرات اللازمة لرفع قضايا ضد رموز النظام لو توفرت في المناطق التي لا تتبع للنظام مجال إنشاء محاكم وطنية ومنحها صلاحية إصدار الأحكام بهذا الشأن. وعلى الرغم من محدودية أثر تلك الأحكام، إلا إنه سيكون لمثل تلك المحاكمات أثر رمزي غاية في الأهمية لو قررت الأطراف الرئيسة تبنيها وتفعيلها على أرض الواقع.

2- إنشاء محكمة وطنية-دولية مختلطة: تشتمل المحكمة الوطنية-الدولية المختلطة على مزيج من القضاة السوريين والدوليين، وتقوم على الأراضي السورية، وتختصّ في محاكمة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت بحق الشعب السوري خلال السنوات السبع الماضية، مدعمّة بخبرات دولية، وتطبق القانون الدولي.

 

ولا شك في أن الاستفادة من الخبرات الدولية في المحاكم المختلطة يعزز إمكانياتها ويرفع من ثقة السوريين والعالم بأسره فيها، إذ إنها تضمن إصدار أحكام نزيهة ومنصفة، وتؤكد على أن الانتقام ليس هو الهدف، وأن الملاحقة لن تشمل مجموعة عرقية أو دينية معينة، بل ستلاحق كبار الجناة،. وسيمنح مثل ذلك الخيار ثقة أكبر من المجتمع الدولي بالنظام الجديد والتزامه بالعدالة والمصالحة، ويُثبت أنه لا مكان لسياسات الثأر أو الانتقام ضمن برنامجه، ولذلك فإن مسألة بناء الثقة في تلك المحكمة تمثل أهمية بالغة.

 

جدير الذكر أن هذه الفكرة قد طُرحت من قبل جامعة الدول العربية عام 2012، إلا أن الجامعة لم تتخذ أي إجراء للمضي قدماً في تحقيق هذه الفكرة. وكان السفير الأمريكي السابق لشؤون جرائم الحرب، ديفيد شيفر، قد اقترح آنذاك إنشاء محكمة مختصة تغطي كلاً من سورية والعراق، وذلك بتوقيع معاهدة بين الأمم المتحدة وحكومة ملتزمة بتوفير العدالة للضحايا. وبيّن شيفر أن هذه المحكمة ستقوم على مبدأين أساسيين، هما: “الولاية العالمية” والذي تستطيع من خلاله أي دولة أن تحاكم أي شخص قام بجرائم ضد الإنسانية، والثاني مبدأ “الولاية القضائية المحلية لإحدى الدول خارج حدود الدولة” وفقاً لمبدأ الأثر، والذي هو متبع في المحاكم الأمريكية والعديد من المحاكم الأخرى، ولكن هذا الاقتراح لم يستجب له لعدة أسباب لوجستية ومادية وسياسية، وهناك سبب رئيس وهو عدم موافقة أية دولة عربية مجاورة على القيام بهذه الخطوة الجريئة.

 

3- تشكيل تحالف بين المنظمات الوطنية لدعم جهود المساءلة

في ظل الظروف القهرية التي تمر بها البلاد، يبقى مجال الحراك القانوني والقضائي متاحاً ولكن خارج المؤسسات الرسمية، حيث يتعين على الجهات الفاعلة ومنظمات المجتمع المدني تشكيل آليات تنسيقية وتحالفات فاعلة لتوثيق الانتهاكات وحفظها بطرق قانونية لتقديمها للقضاء الذي سيقام في سوريا المستقبل.

ويمكن أن يعمل ذلك التحالف أو الآلية التنسيقية المشتركة على عدة ملفات أبرزها:

– إنشاء وحدة قانونية خاصة من قبل خبراء قانونيين مستقلين بشرط أن تكون الدول ذات الصلة على استعداد للتعاون طواعية أو من خلال اتفاقات ثنائية أو متعددة الأطراف. علماً بانه لن يكون لهذه الوحدة أثر قانوني على الأرض إلا إنه سيشكل ضغطاً على النظام السوري، وهناك عدد متزايد من الدول الأعضاء بما في ذلك المملكة المتحدة التي بدأت بتأييد هذا النهج.

– دعم الجهود الدولية التي تبذلها بعض الدول لمحاسبة النظام على استخدام الأسلحة الكيميائية وتوفير الشهود والمعلومات والدعم لها، وأبرزها مبادرة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان (22 يناير 2018) التي تتضمن 30 دولة، وتعمل على منع مستخدمي السلاح الكيميائي من الافلات من العقاب، وتتضمن المبادرة إعداد لوائح بالأشخاص المشتبه بهم” في هذا المجال، وتوعية المجتمع الدولي والرأي العام بالمعلومات التي يتم جمعها حول المسؤولين المتورطين باستخدام الاسلحة الكيميائية، وإنشاء موقع خاص على الإنترنت، وفرض عقوبات، من نوع حرمان من تأشيرات وتجميد أصول مالية.

– دعم الجهود القانونية المبذولة لرفع قضايا ضد رموز النظام في الدول الغربية، وخاصة في ألمانيا وفرنسا وإسبانيا والسويد والنمسا والولايات المتحدة الأمريكية، وتوفير الدعم والتوجيه للضحايا لزيادة فاعلية هذه الجهود، وإطلاق المبادرات بهذا الخصوص.

– تشكيل لجنة وطنية لتقصي الحقائق، تعمل على إصدار مواد علمية وموثقة تسهم في معرفة الحقيقة بالنسبة للضحايا وذويهم، وتشمل التعريف بكيفية ارتكاب الجنايات والانتهاكات ومتى وأين ومن الفاعل ولماذا. كما تشمل معرفة مكان دفن الجثث في حال عدم تسليمها لذويها. وتقوم بإجراء البحوث، وإقامة جلسات علنية، وتوظيف كافة الآليات المناسبة الأخرى للتّثبت من الحقائق المتعلقة بالانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان والقوانين الدولية التي ترعاها.

– تولي ملف جبر الضرر الذي تعترف الحكومات من خلاله بالأضرار المتكبَّدة وتتّخذ خطوات لمعالجتها. وغالباً ما تتضمّن هذه المبادرات عناصر مادية (كالمدفوعات النقدية أو الخدمات الصحيّة على سبيل المثال) فضلاً عن أشكال رمزية كالاعتذار العلني أو إحياء يوم للذكرى. ويعتبر التعويض المالي وجهاً واحداً فقط من أوجه التعويض، ويشمل رواتب تصرف للأرامل والأيتام، ومعاشات تقاعدية ومنح دراسية إلى جانب تقديم الدعم النفسي. كما تتضمن الإجراءات الرمزية اعترافاً واعتذاراً رسمياً من رئيس الدولة السورية المستقبلية باسم المجتمع السوري عن كافة الأخطاء التي تم ارتكابها بحق الضحايا، بالإضافة إلى مبادرات تخليد ذكرى الضحايا.

– وضع محددات وطنية لإصلاح المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية والاقتصادية والتربوية والثقافية، وتفكيك آلية الانتهاكات البنيوية بالوسائل المناسبة وضمان عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والإفلات من العقاب، وبناء مؤسسات قائمة على الكفاءة والشفافية وتكافؤ الفرص.

– وضع أطر قانونية جديدة للمرحلة الانتقالية تتضمن اعتماد تعديلات دستورية، والانضمام للمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان لضمان حماية حقوق الإنسان وتشجيعها.

– توفير الاستشارات المجتمعية لمساعدة ملايين المتضررين في المطالبة بحقوقهم، والحصول على التعويضات اللازمة، وإجراء المشاورات الوطنية لجبر الضرر وتحقيق المساءلة والمصالحة الشامل الذي سيتم اعتماده.

 

الإطار الدولي للمساءلة

1-المحكمة الجنائية الدولية: وهي منظمة حكومية دولية ومحكمة دولية مقرّها لاهاي بهولندا، وتتمتع بصلاحية محاكمة الأفراد على جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب الدولية. والغرض من المحكمة الجنائية الدولية هو استكمال النظم القضائية الوطنية القائمة، وبالتالي لا يجوز لها ممارسة ولايتها القضائية إلا عند استيفاء شروط معينة، كأن تكون المحاكم الوطنية غير راغبة في أو غير قادرة على مقاضاة المجرمين. وقد بدأت المحكمة الجنائية الدولية عملها في مطلع يوليو 2002، وهو التاريخ الذي دخل فيه نظام روما الأساسي حيز التنفيذ.

وفي الوقت الحالي تُعتبر “المحكمة الجنائية الدولية” الجهة القضائية الوحيدة القادرة على محاسبة مجرمي الحرب، إلا أن عدم توقيع النظام على نظام روما الأساسي جعل مطالبة المحكمة بالتدخل في القضية السورية يحتاج لقرار من الأمم المتحدة، الأمر الي عرقلته كل من روسيا والصين بتكرار استخدام حق النقض (الفيتو) لمنع صدور قرار بإحالة الملف السوري إلى تلك المحكمة. كما أن الرغبة غير متوفرة أساساً في إحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية عند الدول الرئيسية في مجلس الأمن، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة. أضف إلى ذلك أن مجلس الأمن، منذ تأسيس المحكمة، لم يقم إلا بإحالة ملفين اثنين إلى محكمة الجنايات الدولية: ملف دارفور وملف ليبيا.

ولا يعني ذلك أن مجال المحكمة الجنائية الدولية لا يزال مغلقاً، فهنالك أربعة طرق يمكن للمحكمة الجنائية الدولية امتلاك الصلاحية في سوريا من خلالها، هي:

1- إحالة ملف سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية من مجلس الأمن في الأمم المتحدة.

2- أن تمنح سوريا طواعية الاختصاص القضائي للمحكمة الجنائية الدولية لحالات معينة فقط.

3- انضمام سوريا للمحكمة الجنائية الدولية من خلال الانضمام إلى نظام روما الأساسي.

4- إطلاق المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية تحقيقاً من تلقاء نفسه.

ويجدر التنبيه إلى أهمية العمل على استصدار تقدير نيابي بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية: فعلى الرغم من أن سوريا ليست طرفاً في نظام روما الأساسي، إلا أن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية يمكنه إذا قّرر ذلك التحقيق في سوريا بمبادرته الخاصة، وسيكون لمثل هذا القرار أهمية كبيرة لو تم التوصل إليه.

2- إنشاء محكمة دولية خاصة بسوريا: يمكن لمثل هذه المحكمة أن تضمن عدالة حقيقية وفعالة لمحاسبة كبار المرتكبين في سوريا. ولكن تشكيل هذه المحكمة معقّد للغاية، لأنه أيضا يستند إلى وجود رغبة دولية في ذلك. أضف إلى ذلك الكلفة العالية جدا لإقامة هذه المحكمة والعدد المحدود جدا الذي يمكنها محاكمته، كحال المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة مجرمي الحرب في يوغسلافيا السابقة. إن العالم قد فقد شهيته لإنشاء مثل هذه المحاكم، التي أثبتت نزاهتها ولكنها لم تثبت نجاعتها. وقد حاولت بعض الدول طرح فكرة إقامة محكمة دولية خاصة على غرار “محكمة الحريري”، ولكن مثل هذا الإجراء يتطلب قراراً من مجلس الأمن، والذي سيلقى نفس مصير مشاريع القرارات التي حاولت تجريم نظام الأسد في مجلس الأمن بسبب الفيتو الروسي والصيني المزدوج.

3- مقاضاة رموز النظام عبر مفهوم الولاية القضائية العالمية: والذي يمثل مجالاً واسعاً لرفع قضايا في ضد رموز النظام في الدول الغربية التي تسمح تشريعاتها ومحاكمها بملاحقة المشتبه بارتكابهم مخالفات جسيمة لحقوق الإنسان بغض النظر عن جنسياتهم، ومكان ارتكاب الجريمة المزعومة، وتقديمهم إلى محاكمها، علماً بأن الاختصاص القضائي العالمي ليس بديلاً عن الاختصاص الوطني، بل يشكل امتداداً له في منع إفلات المجرمين من الملاحقة والمحاسبة، وهو بهذه الصفة، يقوم بمهمة النظر في الجرائم وملاحقة مرتكبيها نيابة عن المجتمع الدولي، وهي مهمة ترتكز على التضامن الإنساني للدفاع عن مصلحة الشعوب والدول برمتها وحمايتها جنائياً ومنع المجرمين المتهمين بجرائم خطيرة من التمتع بحق اللجوء.

وبناء على ذلك المفهوم فإنه يمكن ملاحقة مجرمي الحرب في محاكم بعض الدول المحلية تحت الولاية القضائية العالمية للدولة والتي تسمح بمحاكمة جرائم معينة حتى دون توّرط مواطنيها أو أراضيها. ويمكن استخدام الولاية القضائية العالمية ضد مسؤولين حاليين أو سابقين في نظام الأسد مّمن يزورون أو يقيمون الآن في أوروبا والولايات المتحدة.

ويمكن أن يكون هذا الخيار أكثر قابلية للتطبيق لدى فرار كبار قادة النظام إلى أوروبا في فترة ما بعد الأسد، تماماً كما حاكمت فرنسا الزعماء الروانديين المشتبه بتورطهم في جرائم الإبادة الجماعية، وقد سبق الحديث عن القضايا التي تم رفعها في السويد وألمانيا وفرنسا وإسبانيا والنمسا من خلال مفهوم الولاية القضائية العالمية.

4- مقاضاة رموز النظام عبر مفهوم “الولاية القضائية المحلية”: يمكن رفع دعاوى ضد مجرمي الحرب من خلال الولاية القضائية المحلية على أساس ازدواج الجنسية، ووفقا لذلك يمكن أن يحاكم الأفراد من قبل دولتهم، حيث يحمل العديد من الجناة والضحايا جنسيات مزدوجة، وخاصة دول الاتحاد الأوروبي التي تستخدم الولاية القضائية المحلية ضد مزدوجي الجنسية الذين عادوا من سوريا، وعلى رأسها فرنسا وألمانيا، حيث مارست تلك السلطات في حق متهمين ثبت انتماؤهم إلى تنظيمات إرهابية مثل “داعش” و”القاعدة”.

كما يمكن لعائلات مزدوجي الجنسية الذين تعّرضوا لانتهاكات على يد عناصر النظام المطالبة بالتعويضات من نظام الأسد عن طريق محكمة محلية، حيث رفعت عائلة ستيفن سوتلوف (صحفي أمريكي قتل على يد داعش) دعوى قضائية في محكمة اتحادية أمريكية ضد النظام، واتهمت فيها الأسد بتوفير المال، والمواد، والدعم العسكري لداعش مّما “أدى إلى اختطاف وقتل ستيفن سوتلوف”.

 

المجالات المتاحة لدعم جهود المحاسبة 

على الرغم من الجهود التي بذلتها المنظمات السورية في مجال المحاسبة، إلا إنه لا يزال هنالك مجال كبير للعمل مع السلطات الغربية لضمان محاسبة رموز النظام وجلبهم للعدالة، حيث يمكن إقامة علاقة تعاون مع وحدات جرائم الحرب المتخصصة ضمن صفوف أجهزة إنفاذ القانون والادعاء وعلى رأسها “شبكة الإبادة الجماعية التابعة للاتحاد الأوروبي” ووحدة التعاون القضائي التابعة للاتحاد الأوروبي (Eurojust) وهي عبارة عن جهاز تعاون قضائي في الاتحاد الأوروبي مهمته مساندة وتعزيز التعاون بين جهات التحقيق والادعاء داخل الاتحاد في ما يتعلق بالجرائم الخطيرة، وتتمتع بآلية تنسيق بين أجهزة الادعاء لتبادل المعلومات يطلق عليها “شبكة نقاط الاتصال الخاصة بالأشخاص المسؤولين عن الإبادة الجماعية والجرائم ضدّ الإنسانية وجرائم الحرب” (شبكة الاتحاد الأوروبي للإبادة الجماعية)، حيث تعقد شبكة الاتحاد الأوروبي للإبادة الجماعية اجتماعات نصف سنوية يتبادل خلالها المحققون والمدعون من جميع الدول الأعضاء في الاتحاد، وكذلك النرويج، وسويسرا، وكندا، والولايات المتحدة، ويتبادلون الخبرات وطرق العمل، وتوفر الشبكة منتدى مهمته الأساسية تسهيل التعاون وتشارك المعارف داخل الاتحاد الأوروبي في ما يتصل بالجرائم الدولية الخطيرة. حيث يتعين على المنظمات السورية المعنية بملف المساءلة التعاون مع تلك الشبكات، وإمدادها بالموارد الكافية للاضطلاع بولايتهما وتقديم الدعم المعلوماتي لها.

ويمكن في الوقت نفسه الاستفادة من وحدات جرائم الحرب المتخصصة ضمن هيئات إنفاذ القانون والادعاء بهدف التصدي للجرائم الدولية الجسيمة المرتكبة بالخارج، وخاصة ألمانيا التي كانت أول دولة يُدان فيها شخص على جرائم إبادة جماعية بناء على مبدأ الولاية القضائية العالمية بعد إنشاء وحدات جرائم الحرب في 2009، والتي تمكن من خلالها قاضى الادعاء الألماني التحقيق في جرائم دولية خطيرة ارتكبت في رواندا وشرق جمهورية الكونغو الديمقراطية والعراق. كما حصل الادعاء في السويد من طرفه على أول حُكم إدانة الأول في جرائم الحرب عام 2006، بشأن فظائع ارتُكبت خلال النزاع في يوغوسلافيا السابقة في عام 1993، ثم فُتحت 6 قضايا أخرى منذ إنشاء وحدات جرائم الحرب السويدية، بحق أفراد اتُهموا في جرائم دولية خطيرة وقعت أثناء النزاعات في كل من يوغوسلافيا السابقة ورواندا والعراق. علماً بأن هنالك وحدة متخصصة في جرائم الحرب في جهاز الشرطة السويدي، وهو مكلف حصراً بالتحقيق في الجرائم الدولية الخطيرة، ويوجد كذلك “فريق ادعاء جرائم الحرب” يتبع للادعاء السويدي، ويتكون من 8 معاونين للمدعي العام، يعمل 4 منهم بدوام كامل على هذه القضايا، ويقودون التحقيقات في الجرائم الدولية الخطيرة ويتعاونون عن كثب مع هيئة جرائم الحرب، ولا يحتاجون إلى تصريح من القضاء لفتح تحقيقات رسمية، كما هو الحال في دول أخرى، ما يؤدي إلى التعجيل بالإجراءات. ولدى الشرطة الاتحادية الألمانية وحدة متخصصة تُدعى “الوحدة المركزية لمكافحة جرائم الحرب والجرائم المتصلة بموجب قانون الجرائم ضد القانون الدولي” (Zentralstelle für die Bekämpfung von Kriegsverbrechen und weiteren Straftaten nach dem Völkerstrafgesetzbuch)، والتي يعمل فيها 13 ضابط شرطة، وتتعاون بشكل روتيني مع مترجمين وباحثين وعاملين بالدعم الفني منتدبين من الشرطة الاتحادية، وكذلك تتعاون مع استشاريين خارجيين. بالإضافة إلى “وحدة جرائم الحرب” التابعة للادعاء الاتحادي، والمعنية بالملاحقة القضائية في الجرائم الدولية الجسيمة بموجب قانون الجرائم ضد القانون الدولي.

كما يتعين العمل على رفع المزيد من القضايا ضد النظام من خلال توظيف قوانين دول الاتحاد الأوروبي في مجال محاسبة مرتكبي الجرائم الجسيمة في سوريا، وخاصة منها السويد التي اعتمدت في يونيو 2014 قانون: “المسؤولية الجنائية عن الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب”، وتنطلق بنوده من نظام روما المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية، إذ يتضمن صلاحيات الملاحقة القضائية في جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، ويضم مختلف أشكال المسؤولية الجنائية المستخدمة عادة في القانون الجنائي الدولي، بما يشمل مسؤولية القيادة، ويمنح صلاحيات النظر في أمر جرائم الحرب التي وقعت قبل بدء نفاذ القانون في 2014 بموجب قانون العقوبات السويدي بصفتها “جرائم ضد القانون الدولي”. ووفقاً لقانون العقوبات السويدي، فالمحاكم السويدية تتمتع بولاية قضائية عالمية “خالصة” في شأن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، ما يعني عدم الحاجة إلى صلة تربط السويد بالجريمة حتى تفتح ملاحقة قضائية بشأنها، حتى إذا كانت قد ارتكبت خارج السويد ولم يكن الجاني أو الضحايا مواطنين سويديين أو مقيمين على أراضي السويد، ويتمتع الادعاء بسلطة تقديرية في اختيار المضي قدما في القضية بناء على الأدلة المتوفرة له، لكن الادعاء ملزم بالتحقيق في حال وجود أدلة كافية. وكذلك ألمانيا التي دمجت نظام روما المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية بقوانينها المحلية عن طريق قانون الجرائم ضد القانون الدولي في 2002، ويُعرِّف قانونها جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية بالاتساق مع معاهدة المحكمة الجنائية الدولية، كما نصوصاً مهمة عن مسؤولية القيادة بصفتها من ضمن أشكال المسؤولية الجنائية. بموجب القانون الألماني، مما يمنح السلطات الألمانية الحق في التحقيق في الجرائم الدولية الجسيمة المرتكبة بالخارج والملاحقة القضائية عليها حتى إن لم يكن للجرائم صلة ما بألمانيا.

وتتطلب تلك المهام الأساسية؛ توفير التأهيل والتدريب المناسب للسوريين العاملين بوحدة جرائم الحرب، بما يتسق مع توفير الشروط اللازمة لمحاكمات عادلة، واستكشاف الخيارات المتاحة لتحسين تدابير الحماية المتوفرة للشهود في المداولات المتصلة بالجرائم الدولية الخطيرة، عند الاقتضاء، لحماية أهالي الشهود في الدول الأخرى. بالإضافة إلى تأهيل الضحايا والشهود في الدول الغربية بصورة خاصة وتوعيتهم بحقهم في تبليغ الشرطة بالجرائم وبالمشاركة في المداولات الجنائية، بما يشمل إتاحة معلومات لهم عن الإجراءات واجبة الاتباع، وتوفير الاستمارات الإلكترونية، وأية وسائل مماثلة مستخدمة في التواصل مع الجمهور، حول كيفية اتصال ضحايا أو شهود الجرائم الدولية الجسيمة بوحدات جرائم الحرب المتخصصة، وترجمة القرارات والأحكام والبيانات الصحفية المهمة والمواقع الإلكترونية التي بها معلومات ذات صلة بالقضايا الخاصة بالجرائم الواقعة في سوريا إلى اللغات المناسبة، كالعربية والإنجليزية، وعقد فعاليات واسعة النطاق بالمؤتمرات الصحفية والفعاليات التي تناقش فيها وحدات جرائم الحرب عملها، في أوساط المجتمع السوري.

ويمكن تعزيز فرص المساءلة والمحاسبة من خلال التعاون مع السلطات القانونية والقضائية لإنشاء قاعدة بيانات مركزية لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية التابعة لـ “هيئة الاتحاد الأوروبي لإنفاذ القانون” (Europol)” وضمان تجهيزها بالدعم الكافي فيما يخص القدرات التحليلية، وتعزيز سبل التعاون مع الآلية الدولية المحايدة والمستقلة المعنية بسوريا وضمان تكامل الأدوار وتفادي تكرار الأعمال في الهيئتين. إضافة إلى تذليل الصعوبات المتعلقة بتوفير المعلومات المطلوبة خارج نطاق الدول المعنية، وتوثيق الانتهاكات خارج حدود الاتحاد الأوروبي، وإجراء المقابلات وتوفير الأدلة والشهود، والتنسيق مع الجاليات السورية في أوروبا لمعالجة مشكلات قلة الوعي، وتخطي حواجز اللغة، وضعف ثقة طالبي اللجوء بالسلطات، والعمل على تحويل المعلومات التي يتم جمعها إلى أدلة تثبت قيام رموز النظام بانتهاك القانون الإنساني الدولي وانتهاكات حقوق الإنسان، وإعداد ملفات بهدف تيسير وتسريع الإجراءات الجنائية العادلة والمستقلة بما يتماشى مع معايير القانون الدولي لدى المحاكم الوطنية والإقليمية والدولية.

 

ثالثاً: الجدوى من المضي في مسار المحاسبة

تشهد الساحة السياسية السورية منذ النصف الثاني من عام 2018 تحولات كبيرة، حيث تتعرض المعارضة لضغوط كبيرة بهدف الانخراط في عملية إصلاح دستوري تتضمن بقاء بشار الأسد في الحكم، والقبول بتشكيل حكومة وحدة وطنية تحت رئاسته.

ويبدو أن المواقف الرسمية للعديد من الدول الغربية والوساطة الأممية قد بدأت في التماهي مع الدبلوماسية الروسية التي تدفع باتجاه التوصل إلى حل سياسي يقوم على أساس وقف القتال وتقديم المساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار وإقامة علاقات طبيعية مع النظام، وذلك كجهد تكميلي للعمليات العسكرية الروسية التي أفضت إلى إعادة سيطرة قوات النظام على مناطق واسعة من البلاد.

وفي مقابل المصاعب التي تواجهها موسكو لإقناع واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي للانضمام إلى جهود إعادة ستة ملايين مهجر سوري إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام، تحظى الدبلوماسية الروسية بدعم متزايد من قبل دول الجوار السوري؛ حيث عبر العديد من المسؤولين المعنيين في تلك الدول عن تأييدهم للمبادرة الروسية بشأن عودة اللاجئين السوريين، وذلك على الرغم من عدم توفر الحد الأدنى من المقومات لضمان عودتهم.

كما شرعت بعض هذه الدول في إقامة اتصالات غير معلنة مع النظام، وإجراء مفاوضات على صعيد التعاون والتنسيق الأمني، ونتج عن ذلك فتح المعابر الحدودية التي بقيت مغلقة لسنوات طويلة، حيث أعلنت وزارة الدفاع الروسية في شهر أغسطس الماضي عن فتح سبعة معابر لعودة اللاجئين السوريين، حيث تأمل موسكو في التوصل إلى خطة مشتركة مع واشنطن لعودة اللاجئين إلى الأماكن التي كانوا يعيشون فيها قبل النزاع، وخاصة عودة اللاجئين من لبنان والأردن، وتشكيل مجموعة عمل مشتركة روسية-أمريكية-أردنية برعاية مركز عمان للمراقبة، وتشكيل مجموعة عمل مماثلة في لبنان.

وتتمثل المشكلة الرئيسة في هذا المسار بسعي روسيا إلى إعادة تأهيل النظام في المجتمع الدولي، وتوفير الدعم المالي له دون النظر إلى انتهاكاته الواسعة بحق السوريين عبر سياسات القتل والاعتقال والإخفاء القسري والتعذيب الممنهج وممارسة الإقصاء والتمييز الطائفي وإذكاء الاحتقان المجتمعي.

في هذه الأثناء يدفع تراجع الملف العسكري للمعارضة، وجمود الموقف السياسي الناتج عن تعنت النظام، ومسارعة بعض الدول العربية والغربية لتطبيع العلاقات معه، إلى تعزيز جهود المحاسبة التي تعاني من عقبات كبيرة أبرزها التكلفة العالية للإجراءات القانونية من محامين ولجان وتنسيق دولي ومحاكم، وعدم وجود جهات ممولة على الصعد الرسمية.

وبالإضافة إلى ضعف التمويل؛ تواجه جهود المحاسبة عقبات أخرى تتمثل في عدم رغبة الدول الفاعلة بالأمم المتحدة في إثارة المواضيع المتعلقة بالعدالة الانتقالية والمساءلة وجبر الضرر حتى لا يؤثر ذلك بصورة سلبية على جهودها للتوصل إلى تفاهمات مع روسيا وإيران.

وإذا أخذنا في الحسبان عدم وجود أية حالة مسبقة في تاريخ القضاء الدولي لجلب مسؤول على رأس منصبه لمحاسبته على جرائمه ضد الإنسانية، فإن شهية الدول الداعمة تتقلص إزاء اللجوء إلى المسار القانوني لكبح جماح النظام. كما أن العديد من الجهات الحقوقية والإنسانية لا تهتم كثيراً بهذا القطاع في الوقت الحالي، ربما لعدم قناعتها بجدواه.

وبناء على ذلك فإنه من بات المتعين على المؤسسات السورية المعنية بالمحاسبة والمساءلة أن توحد جهودها بهدف وقف التوجهات الدولية لشرعنة نظام الأسد والتغاضي عن جرائمه نظير صفقات سياسية بين الدول الفاعلة.

ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا من خلال إلقاء المزيد من الضوء على الجناة وعلى جرائمهم والسعي إلى إدانتهم، وتجريم كل من يتعامل معهم أو يسعى إلى منحهم الشرعية التي فقدوها جراء الانتهاكات الواسعة التي تورطوا بارتكابها. والتذكير بأن جميع الجناة، بما فيهم رموز نظام بشار الأسد، يعولون على استعادة الشرعية والإمساك بزمام السلطة، بهدف اتخاذ الإجراءات القانونية والقمعية والسياسية لمنع تجريمهم وضمان إفلاتهم من العقاب. الأمر الذي يدفع بالجهات السورية المختصة في مجالات المساءلة والحاسبة وحقوق الإنسان لتكثيف جهودهم في مجالات توثيق الانتهاكات وتحديد الجناة، وضمان محاسبتهم، بحيث لا تسقط جرائمهم بالتقادم، أو تزول من الوجود تحت شعارات المصالحة والحل السياسي.

أما على الصعيد السياسي؛ فتحتاج قوى الثورة والمعارضة إلى تحسين موقفها التفاوضي في ظل التخاذل الأممي والمجتمعي، وزيادة أوراق الضغط لديها في المحافل الدولية، وذلك من خلال دعم جهود المنظمات السورية والدولية لتجريم النظام وإسقاط الشرعية الدولية عنه وجلب رموز إلى العدالة ومقاضاتهم بشتى الوسائل المتاحة.

ومن شأن تلك الجهود أن تردع النظام عن المضي في سياساته القمعية، وحمله على وقف الانتهاكات الجسيمة التي لا يزال يمعن في ارتكابها، بما في ذلك القتل والإخفاء القسري وممارسة التعذيب الممنهج، وتبني سياسات التمييز على أسس إثنية وطائفية، إذ إن الوسيلة الأنجع لوقف انتهاكات النظام هي تعزيز فاعلية وآليات المحاسبة، وتحقيق الاعتراف الدولي بها، والعمل على تعميق عزلة النظام من خلال الملفات القضائية والقانونية، وتسليط الضوء على الانتهاكات الواسعة التي لا يزال يمعن في ارتكابها.

ومن خلال استقراء التجارب السابقة في رواندا ويوغوسلافيا وغيرها من الدول التي شهدت وقوع انتهاكات واسعة، فإنه من المؤكد أن الجهد المتواصل لاستعادة حقوق ملايين القتلى والجرحى والمعتقلين والمهجرين والنازحين وغيره من المتضررين سيثمر مع العمل الدؤوب والتحلي بالكفاءة والممارسة الاحترافية.

وقد عبر عن ذلك المحامي أنور البني بقوله إن الأمر: “أبعد من أيّة قضية قيد المحاكمة، لأن بناء السلم المستدام يحتاج أن يشعر السوريون بتمكنهم من أدوات تحقيق العدالة، ليعيدوا بنائها كمنظومة متكاملة تحمي عيشهم المشترك في سوريا”.

.

.