#########

المحاسبة

سوريا.. ثلاث قراءات في العدالة الانتقالية


وبطبيعة الحال، تكون الدولة قد أعلنت وفاتها؛ فمن جهة هي مستباحة من أطراف دولية عديدة فيما يتعلق بالاقتصاد والقرار السياسي وكافة الجوانب الإدارية، ومن جهة أخرى يحكمها من الداخل ديكتاتور منتصر لا يملك سوى البطش وقوة السلاح في وجه من لا يُسبّحون بحمده!

25 / تشرين ثاني / نوفمبر / 2018


سوريا.. ثلاث قراءات في العدالة الانتقالية

 

 

 

 

*معاذ حسن

 

في الحديث عن العدالة الانتقالية، نحن نخوض في جملة من البحوث والآليات المعقّدة للخروج من هذا المأزق التاريخي في سورية؛ حيث إنه مفهوم أوسع من محاسبة الجناة وصياغة دستور للبلاد أو تعويض المنكوبين وجبر الضرر، وإلى ما ذلك استحقاقات قانونية تعود للفئة المتضررة.

إنه شكل سوريا الجديدة، بعيداً عن العواطف والأوهام في تصور هيئة الدولة القادمة. فالاحتمالات حتى تاريخنا هذا، مفتوحة على جميع التحليلات السياسية وحتى اختلاف نوايا وقرارات الدول التي تدير الصراع.

 

*السيناريو الأول

ذهب نظام الأسد بسورية إلى حدّ وصفها بالذبيحة التي توزع على المعارف والغرباء معاً، مما يبعد احتمالية أن يكون المصير السوري بقرار (سوري) خالص؛ ولكن، ماذا لو ذهبنا في التفاؤل والأحلام الوردية إلى مرحلة تتجاوز تعقيدات المشهد السياسي، وتقفز فوق تهشم الوجود السوري بكافة أشكال حضوره، بحيث تتحقق العدالة الانتقالية بفعل وطني نخبوي، نظيف من الارتباطات الدولية والإقليمية.

 

في بادئ الأمر سيتم الاتفاق على وصول حكومة من النخبة الوطنية إلى الحكم ومواقع اتخاذ القرار، وحتماً ستكون مستقلة عن التدخلات والقرارات الخارجية والتبعية بكافة أشكالها، وهنا كان لابد من استخدام عبارات كالتفاؤل والأحلام كإسقاط مباشر على صعوبة تحقق هذا الفعل على أرض الواقع، ولو بالمنظور القريب في أقل التقديرات.. وذلك يتبع بطبيعة الحال لميزان القوى السوري الهشّ على الصعيد السياسي والعسكري، وحتى غياب أي تواجد سوري له ثقل يمتلك خطة عمل واضحة في إعادة بناء الدولة، وإدارة حقيقية للتعامل مع جميع الأزمات السرطانية الموجودة.

 

إن حدوث أي تغيير سياسي في العالم يرتبط في غالبيته بالعامل الاقتصادي بالدرجة الأولى، ومن ثم تأتي شبكة العلاقات السياسية والترويج الإعلامي لصناعة حاضنة جماهيرية تلتف حول استراتيجية وأهداف النظام البديل، وهذا ما لا تمتلكه المعارضة السورية على اختلاف أطيافها؛ وهنا تكمن أولى العقبات في وجه المرحلة الانتقالية، نتيجة سياسات نظام الأسد في التعامل مع المجتمع السوري؛ فقد عمل هذا النظام على صناعة جماعات سورية، ولم يتم تكريس مفهوم الشعب بالمعنى الفعلي في (دولة الأسد)، ما أدى إلى تشرذم الثورة، وتفتت المجتمع وتصاعد الاقتتال الداخلي فيه؛ وما جاء على لسان أحد أبواق النظام عبارة تفضح استغلال النظام لهذه النقطة ( شوي خلطنا الأوراق فاتت الناس ببعضا). أيضا هناك قول لنائب رئيس النظام السوري فاروق الشرع يخفي وراءه صعوبة قيادة المجتمع بهذه التركيبة المعقدة التي احترفها نظام الأسد وكانت ركيزته الأساسية في بقائه( المعارضة السورية عاجزة عن إدارة صيدلية).

 

إذن، نحن أمام إشكالية حقيقية في توحيد الرؤى حول مفهوم العدالة الانتقالية. فالجماعات السورية لا زالت تتبنى انتماءات تندرج تحت الفكر الطائفي والمناطقي، ناهيك عن عوامل عديدة كالخوف والدين وعامل الثأر، بالإضافة إلى نوع التوجه في الماكينات الإعلامية لدى هذه الجماعات، بمعنى آخر، لابد من مجهود كبير للتمييز بين المحاسبة والانتقام.

وهنا ينبغي على المرحلة الانتقالية إزالة كل آثار حقبة الاستبداد وإعادة الثقة بين المواطن والدولة، وعدم تجاهل الماضي، بل ضرورة العودة إليه بآليات العدالة الانتقالية، وهذا يفتح الباب على مصراعيه للتعامل مع كافة الانتهاكات والكوارث التي خلفها نظام الأسد، ابتداء من مجرمي الحرب وضباط النظام الذين أشرفوا على المعارك، وليس انتهاء بتفكيك بنية النظام المافيوي في مؤسسات الدولة وسلطاتها.

الأمر معقد جداً، ويحتاج إلى سنوات من العمل في مجتمع أنهكته الحرب ونال منه الفقر والظروف القاهرة؛ فما هي المرجعية القانونية التي ستعمل وفقها المحاكم في ظل قضاء لا يستحق تسميته حتى ما بين محاكم تابعة للأسد وما بين الهيئات الشرعية؟

أيضا يشكل التفاوض السياسي السلمي (بلا مساومات) عنصراً أساسياً في التحكم بمسار العدالة الانتقالية، إذ يكون أحد حالات تحقيقه هو منح حصانة قضائية لرموز وشخصيات في نظام الأسد اقترفت جرائم حرب وانتهاكات إنسانية وحقوقية.

 

 لا نريد الاستطراد في ذكر جميع المعوقات، فالأمر ببساطة يحتاج إلى طاقات وجهود مضاعفة تضاهي وتفوق حجم الخراب والانتهاكات التي خلفها نظام الأسد.

يبقى السؤال كيف السبيل أساساً لوصول نخبة وطنية تدير مرحلة العدالة الانتقالية بلا أية ارتباطات خارجية ويكون لديها الطاقة بكل ما تحمله الكلمة من معنى: فكرية، مادية، سياسية، أخلاقية…  في ظل مناخ سياسي معقد تدخل في سورية على أساس صراعات دولية وإقليمية ليس في واردها بناء دولة سورية ولا تأبه لانتهاكات أو جرائم حرب أو دفن الرضّع أحياء؟!

 

*السيناريو الثاني

 يبدأ ببديهية واضحة، وهي، إن الصراع على مناطق النفوذ وإثبات الوجود والقوة، لهما الدور الرئيس فيما يجري داخل سورية، وبالتالي، فإن شكل العدالة الانتقالية وآلياتها تختلف من حيث الضرورة بحسب مصدر الرعاية والدعم والهيمنة الخارجية على الساحة السورية عند انتهاء الحقبة الدموية. فالصراع في سورية لم يعد بين الشعب والطغمة الحاكمة، إنما هو صراع إقليمي ودولي على سورية.

فالمشهد السياسي أكثر وقاحة وفجوراً من جعل هذا الصراع مخفياً في كواليس الدول اللاعبة في الشأن السوري.. كما حدث في الثاني والعشرين من نوفمبر عام ٢٠١٧ حين عقدت قمة روسية إيرانية تركية في جنيف دون وجود أي طرف سوري مشارك ضمن مؤتمر يخصّ مسار التسوية والصراع في بلاده.

وإن إدخال النظام السوري لإيران وميلشياتها وإعطاء روسيا الصلاحيات والذرائع لهيمنتها الحالية في الداخل السوري، هو بمثابة عملية بيع رخيصة للوجود السوري، وليس فقط للأرض والقرار، والسيادة واستثمارات الاقتصاد، ناهيك عن انتهاكات ومعارك “حزب الله” ضد الشعب السوري، وما جاء في حكم هذه التنظيمات كلواء “أبو الفضل العباس” وغيره من ميليشيات طائفية.

لا يوجد في التاريخ الغابر وإلى يومنا هذا نظام يستحضر قوى أجنبية لقتل الشعب الذي يحكمه، هذا يحدث عادةً للتصدي لاعتداءات خارجية، فتستعين الأنظمة بالحلفاء والأصدقاء والمرتزقة أحياناً.  

وبالتالي، نحن أمام مأزق واضح في سير العدالة الانتقالية إذا ما تم الإشراف عليها دولياً، فالأمر بات مرتبطاً بالرابح والأكثر هيمنة في هذا الصراع، وليس شأناً سورياً صرفاً. فالصحف ووكالات الأنباء تتداول عنواناً يقول: (سوريا بين التقسيم الأميركي والفيدرالية الروسية)، كدلالة واضحة تفضي إلى مصير سوري بإشراف أجنبي، له منظومة مختلفة في أهدافها واستراتيجياتها، ومآربها ليست فقط كسر الثورة التي عرّت المجتمع الدولي، بل حتى النظام الحاكم، الذي أصبح نادلاً يخدم طاولات القوى المتصارعة.

 

إن صعوبة التكهن بمصير الوضع في سورية، وغياب النخبة السياسية الوطنية، وكثرة القوى المتدخلة في الشأن السوري، يفتح الباب على احتمالات مختلفة في شكل المرحلة الانتقالية، حتى وإن كانت هذه المرحلة هي بقاء الأسد نفسه. فحسم الصراع وعقد التسوية، يعني بالضرورة ولادة نظام سياسي جديد، كفيل بإظهار ملامح مراحل الحياة في سورية القادمة.

خلاصة القول في هذا الشأن، لا يمكن حسم الصراع في سورية والبدء بمرحلة انتقالية، دون اتفاق واضح لملامح النظام السياسي الجديد، وهذا يعكس شكل وآليات العدالة الانتقالية التي ستكون حاضرة في ذاك الوقت، وهي بالضرورة مرتبطة بالتسوية الدولية وميزان القوى الإقليمي؛ فالثقل الجيوسياسي والاقتصادي لسورية، لا يسمح بتحقيق مفهوم العدالة الانتقالية إلا عبر المحافل الدولية وبأختام القوى العظمى.

 

* السيناريو الثالث

الكابوس الأكبر لسورية في أن يطول عمر نظام الأسد، ويطغى ميزان القوى الروسي الإيراني في الصراع، وبالتالي يؤدي ذلك إلى انقراض الدولة، وشرعنة الجرائم والانتهاكات المتفرقة بشكل دولي.

فمنذ البداية كانت عقدة أي تسوية في سورية هو الاتفاق على دور الأسد ومصيره، فما بين رواية الحرب ضد الإرهاب وثورة شعب على ديكتاتور، هناك وجهان نقيضان للدولة السورية؛ وعليه، إن نجاح ما يسمى بالحرب ضد الإرهاب، سيقسم سورية إلى فئتين، ما بين “شبيحة” أو سوريين مندسين وعملاء، بصورة ليست بعيدة عما فعله الأسد الأب حين قسم سورية إلى بعثيين وسوريين.

يظهر بشار الأسد في جميع خطاباته السياسية ومقابلاته الإعلامية بصورة الأستاذ المحاضر!  يمتلك الحق والمعرفة، ويصنف البشر بمعايير أخلاقية، بحسب تأليه شخصه أو معارضته. أما عن البروبوغندا الناعمة الرقيقة، التي يصنعها في تعامله مع الشعب وزياراته وظهوره بين الناس، فهي لا تنطلي إلا على الحمقى.

فإن استخدام غاز السارين وإعطاء الأوامر بقصف المدن والأحياء السورية واستخدام الكيماوي إضافة إلى استحضار الأجنبي لانتهاك البلاد، تختصر المشهد في طبيعة احتلال النظام الحالي لسورية! إذاً كيف ستنتهي الحرب بانتصاره؟ وكيف سيكون شكل العدالة الانتقالية حين تضع الحرب أوزارها في دولة الأسد؟

 

  تبدأ محاسبة الجناة، ولكن بحسب معايير نظام الأسد، فالمعارض المهاجر هو من كبار مجرمي الحرب، وليس من الغريب أبداً أن يجعل أحد أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث تقبيل “البوط” العسكري شرطاً لعودة المهاجرين. أيضا هناك تصريح لأحد ضباط النظام يقول: (ستكون أمامهم المشانق).. إن بلداً لا مشانق فيه جدير بأن يخان.

  الأجهزة الأمنية لنظام الأسد ستزيد من صلاحياتها، فهي المنتصر وضامن البقاء، وبالتالي فإن سلطة العسكر ستكون الإله الحاكم في سورية؛ فوجه الديكتاتورية القديم هو بمثابة حمل وديع أمام وجهها الجديد، وهذا ما يقرّه تاريخ العالم في الحياة السياسية والحروب.

وبطبيعة الحال، تكون الدولة قد أعلنت وفاتها؛ فمن جهة هي مستباحة من أطراف دولية عديدة فيما يتعلق بالاقتصاد والقرار السياسي وكافة الجوانب الإدارية، ومن جهة أخرى يحكمها من الداخل ديكتاتور منتصر لا يملك سوى البطش وقوة السلاح في وجه من لا يُسبّحون بحمده!

 

 وأخيراً، إن دولة ضعيفة أنهكتها الحرب وتفتّت شعبها، وتآكلت فقراً وفتكت بها الأمراض” النفسية والأخلاقية” جرّاء النزاعات، لن نستطيع رثاءها، أو تفسير المُفسّر أمام وضعها الكارثي والمأساوي!  لذلك، لا شيء يقال في هذا المقام، سوى حماقة الطرح نفسه في أن تكون هناك عدالة انتقالية بالتزامن مع تقليد الأوسمة للمجرمين والقتلة!

 

المزيد للكاتب

هنا