#########

المحاسبة

مستقبل العدالة الانتقالية في سوريا


بالإضافة إلى إعادة الاعتبار والسيادة للقانون السوري الغائب وتمتينه لمنع تكرار ووقوع الانتهاكات مرة أخرى، يتعين ضمان تحقيق قيم الديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان وحمايتها وتأهيل مؤسسات المجتمع المدني للعمل عليها وذلك بهدف بناء دولة سورية حديثة ديمقراطية مدنية تعددية

21 / تشرين أول / أكتوبر / 2018


مستقبل العدالة الانتقالية في سوريا

 

المحامي مثنى الناصر – مع العدالة

 

تُشير العدالة الانتقالية إلى مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي قامت بتطبيقها دول مختلفة من أجل معالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وتتضمّن هذه التدابير الملاحقات القضائية، ولجان الحقيقة، وبرامج جبر الضرر وأشكال متنوّعة من إصلاح المؤسسات.. فالعدالة الانتقاليّة ليست نوعاً خاصّاً من العدالة، بل هي مُقاربة من أجل تحقيق العدالة خلال مدّة الانتقال من المنازعات وقمع الدّولة، بواسطة تحقيق المحاسبة العادلة، والتّعويض عن الضّحايا و تقدّم العدالة الانتقالية اعترافاً بحقوق الضحايا وتشجّع الثقة المدنية، وتقوّي سيادة القانون والديمقراطية.

 

دور الضحايا في العدالة الانتقالية

الضحية هي كل من لحقه ضرر جراء تعرضه لانتهاك على معنى هذا القانون سواء كان فرداً أو جماعة أو شخصاً معنوياً وتعد ضحية أفراد الأسرة الذين لحقهم ضرر لقرابتهم بالضحية على معنى قواعد القانون العام وكل شخص حصل له ضرر أثناء تدخله لمساعدة الضحية أو لمنع تعرضه للانتهاك.

ولكي تكون العدالة المراد تطبيقها في غايتها هي إحقاق الحق والإنصاف وجبر الضرر لمن وقعت الانتهاكات بحقه من أحد أطراف الصراع، فيجب أن تكون العدالة الانتقالية بما يتعلق بالضحية أشبه ما تكون بفصول للمصارحة بين المعتدي والضحية والتي يجب أن تكون بعد إنشاء مؤسسات ولجان تهدف للحقيقة وتركز على فكرة التعويض وجبر الضرر.

والضحية هي كل من لحقه ضرر جراء تعرضه للانتهاك سواء أكان فرداً أو جماعة أو شخصاً معنوياً.

ولإنجاح العدالة الانتقالية لابد من إشراك الضحايا في العملية الانتقالية لتكون من مكونات العدالة والتحول الديمقراطي الذي ينشده المجتمع.

 

دور النساء في العدالة الانتقالية

غالباً ما يشكّل العنف المرتكز على النوع الاجتماعي عنصراً مشتركاً بين النزاع والأنظمة السلطويّة في هذه السياقات، ينتشرُ الإفلات من العقاب على الانتهاكات ضد النساء وفي الوقت نفسه، غالباً ما تكون النساء غائبة أو ممثلة تمثيلاً ناقصاً في الجهود المبذولة لمعالجة مثل هذه الإساءات؛ ومع أن الاهتمام الدولي إلى الأبعاد الجنسانية للصراع قد نَمَى، فإن قضايا عدالة النوع الاجتماعي لم تٌدمج بشكل كاف في مبادرات العدالة الانتقالية. وقد أظهرت الأمثلة الأخيرة لولايات لجان الحقيقة، والآراء القضائية، وبرامج جبر الضرر اعتباراً قليلاً للطبيعة الخاصّة والمعقدة للانتهاكات القائمة على النوع الاجتماعي.

 

عزّزت التطورات الأخيرة في القانون الدولي حول الانتهاكات المتّصلة بالنوع الاجتماعي والقرارات الصادرة (مثل قرارات مجلس الأمن في الأمم المتّحدة رقم 1325 و1820 و1888 بشأن المرأة والسلام والأمن التزام المجتمع الدولي بمكافحة هذه الجرائم ومع ذلك، على الرغم من هذا التقدم، لم يكن هناك سوى نجاح محدود في ملاحقة مرتكبي جرائم العنف القائمة على النوع الاجتماعي على المستوى المحلي أو الدولي.

 

ويأتي دور المرأة في قلب أهمية هذا العمل المجتمعي، والذي تمثل في “جمعية أمهات مايو” او “Madres de plaza de Mayo”

والتي اعتبرت أول معارضة سياسية بدأت في أثناء الحكم السلطوي في وقت تم فيه حل الأحزاب السياسية وعدم السماح بعمل المنظمات الحقوقية.

وقد تشكلت في البداية من أربعة عشرة سيدة من أمهات الشباب اليساري المعارض المعتقل من قبل النظام ثم زادت أعدادهم ليصلوا إلى عشرات الآلاف من الأمهات والجدات ثم الأبناء والاحفاد.

وقاموا بالإعلان عن قضيتهم في صمت من خلال التجول وهم يحملون أسماء أبنائهن على رؤوسهن في ميدان مايو أمام القصر الرئاسي أسبوعياً طوال أكثر من ثلاثين عاماً.

بالإضافة إلى ذلك الأهمية المحورية لأداة كتابة الحقيقة، فكما سبقت الإشارة كان للمجتمع المدني وأهالي الضحايا دور مهم في جمع المعلومات والبدء في توثيق الحقيقة أثناء الحكم السلطوي، لكن النقلة الكبرى في هذا المسار حدث عندما أصدر أول رئيس منتخب بعد نهاية العهد السلطوي “راؤول القونسين” قرارا بتشكيل اللجنة الوطنية للحقيقة “CONADEP”

وانتهت اللجنة بإصدار تقرير رسمي تم تسليمه لرئيس الجمهورية وإعلانه للمواطنين.

حيث توثيق الحقيقة وحفظ ذاكرة جماعية للأمة فضلاً عن كونه مستند قوى يمكن على أساسه محاكمة رموز النظام السابق.

وتشخيص لمواطن العلة في مؤسسات الدولة وقوانينها والتي كانت السبب في حدوث تلك التجاوزات وعدم التمكن من إيقافها إلا بعد سقوط النظام.

وهذا ما يفسر أن تقرير لجنة الحقيقة جاء تحت عنوان “Nunca Mas ” أو “أبداً لن يحدث مرة اخرى”.

وقد شهدت التجربة الأرجنتينية حالات من التراجع في الإرادة السياسية وعدم الرغبة في تفعيل مسار المحاكمات وتفضيل فكرة العفو العام كما كان طوال فترة التسعينيات في عهد الرئيس الأسبق كارلوس منعم.

إلا أن الحقيقة المكتوبة والموثقة ظلت أساساً يمكن الرجوع اليه والاستناد عليه لبدء مسار المحاكمات إذا ما تغيرت الإرادة السياسية في وقت لاحق.

وهو ما حدث بالفعل منذ 2003 عندما وصل الى الرئاسة نستور كريشنر الذى شهد عهده الغاء قوانين العفو وبداية فتح المحاكمات وإصدار أحكام فعلية بحق مرتكبي التجاوزات.

 

مستقبل العدالة الانتقالية في سوريا

جاءت الثورة السورية نتيجة سنوات من القمع و البطش و التعذيب و الإستبداد الذي ظهر على شكل انتهاكات حقوق الإنسان وشملت المشاكل الاجتماعية و الاقتصادية وشملت انتهاكات حقوق الإنسان التعذيب والاحتجاز التعسفي و الاختفاء القسري و القتل خارج نطاق القانون على نطاق واسع، وغيرها من التدابير القمعية ضد معارضي النظام السوري والناشطين ووسائل الإعلام والمجتمع المدني  وسيق مئات الآلاف من المدنيين إلى المحاكم العسكرية و الاستثنائية وشاع استخدام أساليب التعذيب لانتزاع الاعترافات من الموقوفين، كل هذا أدى إلى قيام الثورة و الاحتجاجات الشعبية منتصف شهر آذار 2011 في سوريا و التي قابلها النظام السوري بمختلف أنواع الأسلحة الثقيلة و حتى المحرمة دولياً و الذي أدى إلى قتل ما يقارب مليون سوري و تهجير و نزوح 13 مليون ما بين خارج سوريا و داخلها عدا عن عشرات الآلاف من المفقودين والمحتجزين .

 

و بعد أن يتم التوصل إلى اتفاقية سلام بين جميع الأطراف المتنازعة في سوريا سيظهر حجم المأساة الإنسانية التي حلت بالسوريين جراء الانتهاكات الواقعة بحقهم ، وستعلو صرخات المواطنين السوريين الغاضبة، ممن فقدوا أقاربهم وممتلكاتهم و سيملؤون الساحات مطالبين الحكم الجديدة بالكشف عن مصير أبنائهم المفقودين، والتعويض عن الأذى المادي والمعنوي الذي تعرضوا له في ممتلكاتهم وأرواحهم، و ترتفع أصوات الناس في المطالبة بالانتقام لهم من أولئك الذين تسببوا بمعاناتهم، ومحاكمتهم وإنزال العقاب المستحق بهم و من دون التوصل إلى اتفاقية سلام تضمن التوقف الشامل للعنف لا يمكن البدء بالتنفيذ الناجح للنهج الشامل للعدالة الانتقالية في المرحلة الزمنية المستقبلية و يتوّجب على الدولة اتخاذه في هذا الصدد هو الاعتراف بانتهاكات حقوق الإنسان التي تعرّض لها السوريون و الاعتذار لهؤلاء الضحايا و ذويهم و محاسبة الجناة عن طريق محاكمتهم و هكذا اعتراف ينطوي على اعتبار المواطنين السوريين ضحايا الانتهاكات أصحابَ حقوقٍ انتُهكت من قبل الدولة أو تحت إشرافها وهذا الاعتراف بالضحايا كأصحاب حقوق ويُمكّن ضحايا النزاع السوريين من تقديم طلبات للمساءلة القانونية والتعويضات المادية والمعنوية عن الضرر الذي أُلحق بهم و بصورة علنية و رسمية ، بالإضافة إلى تعزيز السلام الاجتماعي و المصالحة الوطنية السورية وتوثيق الماضي الأليم ،وإيجاد سجل تاريخي للمجتمع السوري المتنوع بمكوناته، بهدف معالجة معظم الانقسامات داخله ودمل الجروح.

 هذا الأمر يستغرق وقتاً طويلاً لتثمر نتائجه إن نجح، و يتطلب تنفيذ مجموعة من الاستراتيجيات التي تساعد الأفراد على التصالح مع ماضٍ قاسٍ ومؤلمٍ من التمييز والانتهاكات وفقدان الأحبّة أمثلة عن هكذا استراتيجيات تشمل إصلاح النظم التعليمية والتربوية لنشر ثقافة التسامح والمساواة وإقامة نصب ومتاحف تذكارية لإحياء ذكرى الأحداث المأساوية، بالإضافة إلى إعادة الاعتبار والسيادة للقانون السوري الغائب وتمتينه لمنع تكرار ووقوع الانتهاكات مرة أخرى، يتعين ضمان تحقيق قيم الديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان وحمايتها وتأهيل مؤسسات المجتمع المدني للعمل عليها وذلك بهدف بناء دولة سورية حديثة ديمقراطية مدنية تعددية تضمن لكل المواطنين الحق الإنساني فيها كما يتوّجب على الدولة السورية في فترة ما بعد الصراع  تعزيز الثقة بين المواطنين السوريين من جهة، وبين المواطنين ومؤسسات الدولة السورية من جهة أخرى.

 

 في الحالة السورية فقدت شريحة كبيرة من المواطنين الثقة في الدولة ومؤسساتها، لذا فبناء الثقة من جديد بمؤسسات الدولة يتطلّب بناء أسس ومعايير هذه المؤسسات على أساس كبير من الشفافية بما يولد شعور لدى المواطنين بأن الدولة ومؤسساتها تمثل مصالحهم وقادرة على تعويضهم عن الانتهاكات التي تعرضوا لها من خلال ملاحقة ومحاسبة مرتكبي هذه الانتهاكات.

يتمحوّر هذا الإجراء حول تعزيز سيادة القانون بما يصب في خدمة الهدف الأكبر وهو تعزيز نظام اجتماعي عادل في سوريا ما بعد النزاع وهذا الإجراء لا يقتصر فقط على التطبيق الحرفي للقانون بل يتخطى ذلك ليشمل مجموعة متكاملة من الإجراءات لتحقيق العدالة الاجتماعية كإصلاح الدستور والقوانين التمييزية، والسعي لتصميم وتنفيذ برامج اقتصادية وإنمائية، والقضاء على تركة الاستبداد والتهميش في الوظائف الحكومية.

وتتضمن إجراءات تعزيز سيادة القانون إطلاق عمليات للبحث عن الحقيقة واكتشاف مسببات فشل الدولة والقانون في حماية الأفراد من مآسي انتهاكات حقوق الإنسان، وعقد محاكمات جنائية لكل من تثبت الدلائل تورطه في ارتكاب انتهاكات فردية أو جماعية ومن ثم المعاقبة والتسريح الفوري لمرتكبي الفظائع ويعد دعم وتعزيز استقلالية المنظمات المستقلة غير الحكومية جزء أساسي من ضمان تعزيز سيادة القانون.

تأتي إقرار العدالة الانتقالية في سوريا لنشر ثقافة المساءلة والمحاسبة والعقاب للمسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة بحق الإنسان وكاستجابة ومطلب إنساني وقانوني لإنصاف الضحايا والمتضررين وجبر الضرر والانتقال إلى مرحلة بناء المصالحة الوطنية والسلم الأهلي وعلى أساسهما يمكن بناء حكم ديمقراطي جديد.

إن نوعية هكذا عدالة هي ليست دائمة وإنما مؤقتة تبعاً لظروف المجتمعات التي تتعرض لتحولات وتطورات عسكرية وسياسية وتتفاقم فيها الانتهاكات لحقوق الإنسان الدولي، والقانون  الإنساني الدولي، و القانون الجنائي الدولي، ولا يوجد صيغة موحدة للمجتمعات للتعامل مع أرث ماضي متحطم، مشروخ، كل شيء فيه منتهك ومباح. لكن معظم آليات وأساليب العدالة الانتقالية تؤمن بوجود حقوق للإنسان لابد من الحفاظ عليها والدفاع عنها واستعادتها ضمن الإمكان وفق آليات العدالة والمساءلة.

 

العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية

يرجع تعبير “المصالحة الوطنية” إلى الزعيم الفرنسي التاريخي شارل ديغول. وارتبط بشكل أساسي بضرورة تحمل مسؤولية محو ديون وجرائم الماضي التي وقعت تحت الاحتلال أو إبان حرب الجزائر، كما تحدث الرئيس الفرنسي الأسبق ميتران عن هذا المفهوم باعتباره ضامن الوحدة الوطنية بعد ذلك استخدم مانديلا هذا المفهوم في جنوب أفريقيا عندما كان ما يزال قابعاً في السجن، إذ رأى أن من واجبه أن يضطلع بنفسه بقرار التفاوض حول مبدأ إجراء العفو العام، الذي سيتبع أولاً عودة منفيي المؤتمر الوطني الإفريقي ويطمح إلى مصالحة وطنية، من دونها سيكون البلد عرضةً لمزيد من الاحتراق وإراقة الدماء التي سيقف وراءها الانتقام بكل تأكيد. وتشمل المصالحة الوطنية الإجراءات والعمليات التي تكون ضرورية لإعادة بناء الأمة على أسس شرعية قانونية وتعددية وديمقراطية في الوقت ذاته وبهذا يمكن القول إن المصالحة هي أحد أهداف العدالة الانتقالية، بل هي في الواقع شكل من أشكال العدالة الانتقالية.

.

.