في الحقيقة عمل النظام على سنّ قوانين وقرارات توافق مصلحته وتضمن له البقاء لفترة أطول وتؤمن له حصانة من جميع الجوانب بالدولة، لذا ارتكب ملايين الانتهاكات بحق المدنيين دون السماح لأي جهة بالوصول إلى معلومات عن مسببها، وهذا ما يصعب عمل المنظمات الأممية في سورية
15 / آذار / مارس / 2019
*فراس العلي _ مع العدالة
غير معلوم عدد الطلعات الجوية التي نفذها نظام الأسد منذ عام 2011، بل حتى الغارات الجوية التي نفذت فعلاً في سورية لا يوجد لها أرقام دقيقة في سجلات الموثقين، لكن كانت أهم الأسلحة التي ركز عليها النظام من أجل بث الرعب والإرهاب بنفوس المدنيين مسجلاً بذلك جملة انتهاكات جسدية ونفسية تجاوزت قدرة عشرات المنظمات الحقوقية على توثيق ما حصل.
في صيف 2015، تلعب الطفلة دعاء في إحدى حدائق مرسين وبجانبها أفراد العائلة التي جاءت لاجئة لتركيا من حلب بعد ازدياد وتيرة القصف على المدينة آنذاك، وبينما كانوا يتبادلون الأحاديث مرت طائرة بسماء المدينة جعلت الطفلة ذات الثماني سنوات تهرع مسرعة نحو والدتها لتختبئ.
تقول والدة دعاء: “نحن الكبار بعضنا اعتاد على سماع دوي القصف في حلب، ففي اليوم الواحد كانت تقصف الطائرة أحياء حلب الشرقية أكثر من مرة، أنا وحدي شهدت على أكثر من مئات حالات القصف المروحي والحربي، لكنني أعرف العديد من النساء في الحي يتعرضن لانهيار عصبي وارتفاع بالضغط كلما صارت الطائرة بالأجواء”.
وتضيف، علمت دعاء أن تسرع للاختباء تحت طاولة خشبية لدينا في المنزل كلما قدمت الطائرة لسماء المدينة، فلم نكن نعرف أيّة غارة جوية قد تستهدف حينا أو حتى البناء الذي نسكن فيه ونحاول بأبسط الوسائل أن نحتمي احتياطاً من خطر قد ينهي حيواتنا بأية لحظة.
مثل ردة فعل عائلة دعاء يوجد حالات لا تعد ولا تحصى، ففي كل طلعة جوية ينفذها ضباط النظام لإنجاز مهامهم بقصف المناطق المأهولة بالمدنيين، يكون هناك الآلاف منهم وربما عشرات الآلاف ببعض المدن يأخذون احتياطاتهم كلما سمعوا هدير الطائرة قادم من بعيد للمدينة.
ولم تتحدث تقارير المنظمات الأممية عن الذعر والخوف الذي تركه طيارو النظام أثناء تنفيذ طلعاتهم الجوية على المدن والبلدات السورية، فيما يعيد البعض السبب إلى تركيز المنظمات الحقوقية على آثار الانتهاكات وليس أسبابها، كافتتاح مراكز الدعم النفسي للسوريين وتقديم المعونات بأشكالها.
في المقابل، لا يمكن محاسبة المسؤولين عن ارتكاب مثل هذه الانتهاكات بحق المدنيين دون إتاحة نظام الأسد للهيئات الحقوقية بالوصول إلى معلومات تؤدي لمعرفة هوية المسؤولين عن وضع وتنفيذ مهام الطلعات الجوية وهذا الأمر مستحيل بنظر غالبية السوريين.
ويقول صالح الأحمد وهو أحد الحقوقيين المطلعين: “من المستحيل على نظام مخابراتي بالدرجة الأولى أن يسمح لأكثر منظمة أممية شأناً أن تصل لسجلات لديه وتقودها إلى التحقق من الانتهاكات خاصة إن نظام الأسد يصنف مثل هذه الوثائق تحت بند أسرار الدولة والمساس بها ممنوع بشكل مطلق”.
ويتابع، في الحقيقة عمل النظام على سنّ قوانين وقرارات توافق مصلحته وتضمن له البقاء لفترة أطول وتؤمن له حصانة من جميع الجوانب بالدولة، لذا ارتكب ملايين الانتهاكات بحق المدنيين دون السماح لأي جهة بالوصول إلى معلومات عن مسببها، وهذا ما يصعب عمل المنظمات الأممية في سورية.
ذعر جماعي
ليست حالة دعاء وعائلتها الوحيدة، بل هناك ملايين السوريين الذين عاشوا هذا الخوف المستمر في المناطق المحررة آنذاك. كانت جموع المدنيين تتفرق قاصدة الأبنية والأماكن التي يمكن الاحتماء بها في كل مرة تتعرض لها المدن للقصف.
ويحمل السوريون في جعبتهم قصصاً لا تعد ولا تحصى يصورون من خلالها المشاهد الأولى عند قصف إحدى المناطق من قبل طيران نظام الأسد، وفي إحداها يقول رامي: “في إحدى المرات تعرضت مدينتي منبج للقصف ولم تمضِ نصف ساعة حتى أصبح مكان القصف مزدحماً بالمدنيين الذين أتوا ليشاهدوا ما خلفه القصف، صاح أحدهم عادت الطائرة فهلع الجميع للهرب من المكان بما فيهم رجل ترك دراجته النارية جانباً وهلع يركض مع الناس”.
ويتابع، سبب الطيران ذعراً كبيراً في نفوس السوريين وخاصة خلال السنوات الأولى من عمر الثورة، لم نكن نتوقع أن يقدم النظام على قصف المدنيين، وفعلها، هذا الأمر سبب هلعاً ما زال الناس يذكرون تفاصيله إلى الآن.
ومن تبعات القصف أن اضطر ملايين السوريين إلى النزوح داخل سورية أو حتى الهجرة خارجها نحو دول الجوار، بينما تقدر آخر إحصائيات الأمم المتحدة أن عدد النازحين في الداخل السوري يقدر بحوالي 6،2 مليون سوري، إضافة إلى 5،6 مليون سوري قرروا اللجوء لدول الجوار.
ومن بين النازحين عدد ضخم من السوريين الذين هربوا جراء الخطر الذي يهدد حيواتهم بسبب قصف الطيران اليومي لمدن وبلدات سورية، محاولين بذلك أن يجدوا لأنفسهم أماكن أكثر أماناً وخالية من الغارات الجوية.
نسرين فتاة سورية تبلغ من العمر 31 سنة وتعيش في مدينة الرقة، تقول في حديثها: “أتذكر في إحدى المرات أن الطائرة قصفت المدينة بغارات جوية عديدة، اجتمعنا نحن أفراد العائلة في غرفة واحدة ونحن نتلو بعض الآيات القرآنية ونكبّر، بقيت الطائرة في الأجواء لمدة خمس دقائق حتى سمعنا صوت انفجار قريب منا”.
وتضيف، لم يكن الانفجار الأخير، فقد عادت الطائرة بعد حوالي نصف ساعة وقصفت بصاروخ مكاناً آخر، خلال هذه اللحظات أغمي على أختي علا بسبب شدة الخوف الذي تملكها جراء سماع هدير الطيران المستمر ودوي الانفجارات، هذا ما حصل عام 2014.
هل سجلت؟
لا يعرف السوريون كمنظمات وأفراد سوى عدد قليل من أسماء الضباط الطيارين الذين نفذوا الطلعات الجوية وقصفوا مدناً وبلدات وارتكبوا المجازر في كثير من المرات، وهذا ما يثير القلق حول طريقة الوصول إليهم من أجل محاسبتهم على الجرائم التي ارتكبوها وتحديد الضحايا وحجم الضرر بالممتلكات العامة والخاصة أيضاً.
ويقول الأحمد حول ذلك: “عندما تتم محاسبة شخص أو مجموعة أشخاص لابد من وجود دلائل ووثائق تشير إلى مسؤوليتهم عن الفعل، هذه الدلائل بيد النظام وإن أتلفها سيفلت المجرمون من العقاب بطريقة ما، وهذا الأمر غير مستبعد خاصة إن عدداً كبيراً من الطيارين ينتمون للطائفة العلوية وبعضهم من المقربين لعائلة الأسد”.
ويتابع، لا يمكن الاعتماد على ذلك في بعض الأحيان، كلنا يعرف عمليات التزوير التي حصلت ومازالت في أكثر من مكان ضمن دوائر الدولة، في العقارات تغيرت أسماء ملاكها الحقيقيين بسبب مواقفهم من النظام، في دوائر النفوس حصل مرتزقة على الجنسية السورية لقتالهم إلى جانب النظام وهلم جرا فلا استبعد تغيير هؤلاء لأسمائهم أو إتلاف كل الوثائق التي تدين أفعالهم الإجرامية.
وفي حال تمكنت جهة من الوصول لمثل هذه الوثائق، يبقى التساؤل حول تحديد الآلية المناسبة من أجل محاسبة المجرمين، وكيف ستتم محاسبتهم؟ وما درجة الضرر الذي سببوه وهل سيعتمد ذلك على رفع دعاوى من المتضررين أم لا وإشارات استفهام أخرى تحيط بهذا الملف.
وتتعقد المسألة فيما إذا توسعت مساحة المحاسبة ووصلت إلى الدول الأخرى التي شاركت بعمليات قصف استهدفت مدناً وبلدات كطيران التحالف والطيران الروسي، هذا بالإضافة إلى الوصول لهوية الأشخاص المتعاونين معهم بموضوع تحديد الإحداثيات وأماكن انتشار عناصر التنظيم من أجل شن غارة جوية عليهم، فقد سجلت عدة مجازر حصلت بحق مدنيين بسبب قصف من طيران التحالف.
ويبقى هذا الملف رهين الانتهاء من ملفات أخرى أهم منها، ويتم المباحثة حوله وإطلاق الحملات من أجل معالجته مثل ملف المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين والمختفين قسرياً والذين لا يزالون في سجون نظام الأسد ويتعرضون في كل وقت إلى التعذيب المميت من قبل عناصر وضباط النظام.