ضمن الشهر ذاته الذي تم فيه اكتشاف مقبرة بابا عمرو، عُثر على مقبرة جماعية حول مدينة "نوى" في ريف درعا، بالقرب من مناطق تمركز قوات النظام، وذلك بعد تحرير المدينة نهاية العام 2014
09 / آذار / مارس / 2019
*أحمد طلب الناصر – مع العدالة
في منتصف عام 2015 طالب “آدم بويز” الرئيس التنفيذي للمفوضية الدولية للأشخاص المفقودين (ACMB) المجتمع الدولي بالتدخل لإنهاء مأساة الشعب السوري التي بدأت منذ منتصف مارس/ آذار 2011. إذ صرّح بأن “التحقيقات الدولية رصدت اختفاء ما لا يقل عن 80 ألف شخص في سورية، لم يقتلوا في معارك فحسب، بل تم اخفاؤهم في مقابر جماعية ولدينا صور عبر “الساتلايت” توضح وجود العديد من هذه المقابر في سورية. ورغم اطلاع الأمم المتحدة والحكومات على هذه الصور، لم يتحركوا، ولم يتدخل أحد لوضع حد لهذه المجازر”.
واليوم، وبعد مضي ثماني سنوات على تلك المأساة تجاوزت أعداد المختفين المئة ألف شخص، ما يدلّ على ازدياد أعداد تلك المقابر الجماعية لتصل إلى ضعفي ما كانت عليه في ذلك العام دون حراكٍ فاعل للمجتمع الدولي، على الرغم من اكتشاف معظم تلك المقابر الجماعية المرتكبة من قبل ميليشيات الأسد وحلفائه الإيرانيين، والموزّعة على كامل الجغرافيا السورية.
ويتساءل الكثير من السوريين عن المقابر التي أخفى النظام في داخلها جثث أقربائهم وأحبّتهم من ضحايا مجازره، السرية والعلنية، منذ بدأ باستهداف المتظاهرين وسحب أجسادهم، لتبقى مجهولة المصير إلى هذا اليوم.
فكيف أنشأ النظام تلك المقابر، ومتى بدأها، وأين توزّعت، ومَن ضحاياها؟
أسئلة عديدة سنحاول الإجابة عليها من خلال تتبع أخبار المقابر الجماعية التي تم الكشف عنها، والتي مازالت مجهولة حتى اليوم، والتي تم ذكر بعضها من خلال شهود العيان وأحاديث الناس القريبين من مناطق ارتكاب الجريمة.
-
المقبرة الأولى:
تم اكتشاف أولى تلك المقابر في مدينة درعا التي انطلقت منها التظاهرات، وذلك بعد مرور أقل من شهرين على اندلاع الثورة، وبالتحديد في يوم 16 مايو/ أيار 2011.
صبيحة ذلك اليوم اكتشف أهالي “درعا البلد” وجود مقبرة جماعية وسط أرض زراعية متاخمة للمنطقة، وذلك بعد انتشار رائحة الجثث المتفسخة في المكان، وما إن بدؤوا بإزالة التربة السطحية بالجرافة حتى بدأت تتكشف ملابس وأجساد الجثث الملقاة داخل المقبرة، فانتشرت الصور الأولية لها لتسارع قوات الأمن إلى تطويق المكان ومنع الناس من أخذ الجثث أو التعرّف عليها بعد أن كذب على الأهالي بتسليمها لهم.
وتعود تلك الجثث إلى ضحايا المظاهرات الأولى التي شهدتها المدينة لا سيما لأولئك الذين توجهوا سيراً من الريف نحو المدينة حاملين أغصان الزيتون لمطالبة النظام بفكّ الحصار عن أهلها وإيقاف القصف، ليرد عليهم الأخير بالرصاص الحي ثم سحب الجثث بعد أن لاذ الأهالي بالفرار طلباً للنجاة تاركين خلفهم جثث أبنائهم.
ولا يزال عدد ضحايا تلك المجزرة مجهولاً لعدم التمكن من إكمال الحفر واكتشاف بقية الجثث، إلا أن الأهالي يرجحون أنه تجاوز العشرين جثة.
-
حصرياً لـ “مع العدالة”: مقبرة سرية في مداجن ماهر الأسد!
ما إن انتشر خبر مقبرة درعا في وسائل الإعلام حتى بدأ أهالي المدن السورية الأخرى يربطون اختفاء أبنائهم بالمقابر الجماعية بعد أن كانوا يصبّون اهتمامهم فقط صوب المعتقلات الأمنية والمشافي العسكرية؛ فراح الناس يتناقلون أخبار مقابر سرّية أقامها النظام بالقرب من مناطق سيطرة قواته للتخلص من ضحايا التظاهرات الأولى.
ومن بين تلك المقابر الجماعية السرية الأولى، يصف أحد مزارعي الغوطة الشرقية في الريف الدمشقي لمنظمة “مع العدالة”، بعد مرور ما يقرب من 8 سنوات كيف كان يلمح شاحنات كبيرة مغلقة تمرّ بين الحين والآخر تلحق بها حافلة خضراء مليئة بجنود النظام بالإضافة إلى شاحنة عسكرية من نوع (زيل)، حيث يستقر ذلك المزارع داخل بيت حجري وسط أرضه التي يعمل بها، والقريبة من الأوتوستراد الواصل بين بلدة “حرّان العواميد” ومحطة الكهرباء الحرارية الواقعة وسط سهل واسع يطلق عليه “وديان الربيع” يعرفه معظم أهالي الغوطة الشرقية كما يعرفون أيضاً بوجود مداجن ومزارع تعود ملكيتها لماهر الأسد شقيق رئيس النظام السوري وقائد الفرقة الرابعة سيئة السمعة؛ وكان يشرف على تلك الممتلكات عناصر من الفرقة المذكورة، وهي مسوّرة ومحصّنة جيداً ويمنع الاقتراب منها أو حتى رؤيتها بوضوح لوجود حاجزٍ مرعب يمنع اقتراب السيارات قبل أن تندلع الثورة حتى.
يقول المزارع “أبو ناجي”: في اليوم الأول لمرور تلك المركبات كانت ترافقهم جرافة و”مِجبل إسمنت”، ولكن حين عادت المركبات بعد حوالي 3 ساعات لم أرَ الجرافة والمجبل معهم، ويبدو أنهم تركوها هناك” ويكمل أبو ناجي حديثه فيقول “تلك الأيام شهدت تظاهرات كبيرة في مدينة دوما ومدن الغوطة الشرقية وسقط خلالها العشرات من أبنائها، أكثرهم في دوما، بنيران قوات الأمن والجيش، لا سيما بعد اقتحامها من قبل العميد “محمد خضور” و”عصام زهر الدين” في 25 نيسان/ أبريل 2011، ولا يمرّ أسبوع بدون مرور تلك المركبات طوال فترة وجودي هناك التي تجاوزت شهراً ونصف الشهر، اضطررت للمغادرة بعد نصب النظام لحاجز قرب المزرعة تماماً وتم تهديدي بشكل مباشر إذا لم أغادر”.
ويؤكد أبو ناجي بأن تلك الشاحنة المغلقة كانت محملة بالجثث، وأن المقبرة تقع بالتأكيد داخل مزارع ماهر الأسد شديدة الحراسة والتحصين.
“لا أستبعد أن يكون نصف مختفي الغوطة الشرقية مدفونين هناك” يقول أبو ناجي بصوت يخنقه الحزن.
-
فرقة الموت الثالثة:
وليس بعيداً عن الغوطة الشرقية، بدأت الأخبار تصل مؤخراً عن مقبرة عملاقة أخرى يعتقد بأنها تضم رفاة الآلاف من أبناء الريف الدمشقي، في الغوطة والقلمون ومركز العاصمة أيضاً، وتتمركز داخل مقرّ الفرقة الثالثة ذائعة الصيت منذ أيام التدخل السوري بلبنان وأحداث الثمانينات التي تلتها؛ ويقع ذلك المقرّ بالقرب من بلدة “القطيفة” في القلمون.
وتعتبر تلك الفرقة المسؤولة عن إطلاق صواريخ أرض-أرض، باتجاه مدن مختلفة من سورية، لا سيما الغوطة الشرقية، إضافة لعملياتها العسكرية ذات الطابع الوحشي، في ريف دمشق، وممارسات حواجزها القمعية في منطقة القلمون، والتي طالت العديد من الناشطين، والمدنيين.
وقد كشفت مصادر عسكرية قريبة من الفرقة عن تلك المقبرة، مؤكدة بأنها تمتد على مسافة تقارب الخمسين دونمًا، وتضم رفات المئات ممن قضوا تحت التعذيب في سجون الفرقة والسجون الأخرى، أو من ضحايا حواجز الفرقة ومداهماتها.
وقد قام عناصر تلك الفرقة الدموية وحواجزها باعتقال مئات من أبناء القلمون، وتعرضوا للتعذيب والتصفية، منذ ما قبل الثورة أيضاً، لا سيما أثناء قيادتها من قبل العماد “شفيق فياض”، رجل الدولة الرابع في زمن الأسد الأب.
يقول أحد تلك المصادر بأن كثيراً من المعتقلين قتلوا تحت التعذيب، وآخرين تم اعدامهم ميدانياً، بإشراف مباشر من ضابط أمن الفرقة عام 2011م العميد عدنان جميل سليمان، الذي تم ترفيعه وأصبح قائداً للفرقة منذ العام 2015 حتى اليوم.
ومقبرة الفرقة الثالثة هي عبارة عن مقابر عديدة قريبة من بعضها البعض، يتم حفر خنادق طولية وعرضية لدفن الضحايا فيها ثم يتم ردمها. وحتى اليوم تخضع المنطقة لحراسة مشددة تمنع الاقتراب من المكان، فيما كانت عمليات الدفن تتم ليلاً.
ولا تقتصر تلك المقابر على ضحايا معتقلي الحواجز وسجن الفرقة وأبناء القلمون فحسب، بل يؤكد الأهالي بأن أحد أكبر مصادر ضحاياها هو سجن صيدنايا، حيث يتم نقل جثث الضحايا الذين قضوا فيه إلى تلك المقبرة بالتنسيق مع مدير السجن.
ويضاف أيضاً إليهم ضحايا الاقتحامات والمواجهات، حيث تمت تصفية عدد كبير من المدنيين، خلال اقتحامات الفرقة، للقرى والبلدات، ومن بينها “رنكوس” و”عسال الورد” اللتان شهدتا أبشع مجازر القلمون بالإضافة إلى مدينة “النبك”. وكذلك ضحايا مفارز الأمن السياسي في دمشق.
ويعتقد بأن تلك المقابر تضم رفاة أكثر من 5 آلاف مدني، يتحمّل مسؤوليتهم المباشرة كبار ضباط الفرقة وعلى رأسهم اللواء عدنان إسماعيل قائد الفرقة، واللواء لؤي معلا قائد الفرقة السابق ومسؤول الإعدامات بين عامي 2013-2015، واللواء سليم رشيد بركات، والعميد محمد مخلوف ضابط أمن الفرقة، والمقدم فراس الجزعة مدير مكتب قائد الفرقة، وقائد قوات درع القلمون.
-
المطر يغسل مقابر عاصمة الثورة:
في حمص، تأخر الكشف عن مقابر النظام الوحشية التي لم يتوقف عن حفرها طوال الفترة التي سبقت تدميرها والسيطرة على دمارها.
فما إن سقطت أمطار حمص الغزيرة في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2014 حتى كشفت عن مقبرة جماعية ضمت ما يزيد عن 380 جثة في منطقة “وادي الصغير” القريبة من حاجز “النقيرة ” وحاجز بلدة “جوبر” المحاذي لحي “بابا عمرو”.
معظم تلك الضحايا كانت قد قتلت منذ العام 2012 وبعضها لم يتجاوز الشهر أو الشهرين من الزمان، وغالبيتهم من الأطفال الذين بدت على رؤوسهم آثار الثقب بمواد صلبة.
وما إن وصل خبر المقبرة إلى مسامع النظام حتى أسرع بنقل الجثث إلى المشفى العسكري وسط تكتم شديد.
ويعتقد بأن معظم تلك الجثث تعود لمدنيين من أهالي بابا عمرو بالتزامن مع فقدان ما يقرب من 70 عائلة ممن توجهوا نحو الحواجز المذكورة في العام 2012 أثناء هروبهم من الحي نتيجة القصف والاشتباكات.
-
عودة إلى مدينة المقبرة الأولى:
ضمن الشهر ذاته الذي تم فيه اكتشاف مقبرة بابا عمرو، عُثر على مقبرة جماعية حول مدينة “نوى” في ريف درعا، بالقرب من مناطق تمركز قوات النظام، وذلك بعد تحرير المدينة نهاية العام 2014.
احتوت المقبرة على العشرات من الجثث المتحللة وبدا تعرض معظمها لتهشّم واضح في العظام، بالإضافة إلى وجود الأصفاد في أيدي بعض من الضحايا الذين تم التعرف على 30 جثة منهم، وهم من أبناء المدينة نفسها.
-
مقابر على مدّ البصر السوري:
في الواقع لم تسلم مدينة أو بلدة أو قرية سورية انتفضت في وجه النظام من مجزرة أو مقبرة، وكلما خسر النظام أحدها أو انسحب منها إلا وتتكشّف الجريمة مهما جهد في إخفائها.
وبصورة سريعة سنمرّ على أبشع وأكبر المقابر الجماعية التي خلّفها النظام في مناطق مختلفة داخل التراب السوري:
في نيسان/ أبريل 2014 تم العثور على مقبرة جماعية في حي جمعية الزهراء بحلب، واتضح لاحقاً بأن الجثث التي تم العثور عليها في المقبرة تعود لمعتقلين كانوا في سجن المخابرات الجوية بمدينة حلب.
وفي حزيران/ يونيو 2015 عثرت فرق الدفاع المدني في مدينة أريحا غربي إدلب على مقبرة جماعية تضم 29 جثة لمدنيين وعسكريين يعتقد أن قوات النظام صفّتهم قبل هروبها من المدينة بشهر من اكتشاف المقبرة.
وكان من بين الضحايا نساء قتلتهم قوات النظام قبل انسحابها من المدينة ورمتهم في بئر ماء قديمة ضمن منطقة “التل” داخل المدينة على طريق “كفرزيتا”.
وكانت أغلب الجثث مقطوعة الرأس والأطراف، وبعضها تفسّخت ويعود تاريخها إلى بداية العام 2015، وبعضها الآخر يعود إلى تاريخ انسحاب قوات النظام.
وفي شهر تشرين الأول/ أكتوبر من نفس العام اكتشف أهالي قرية “معر حطاط” بريف إدلب الجنوبي مقبرة جماعية تحتوي على رفاة 7 ضحايا ملقاة في بئر على أطراف القرية، اعدمتهم قوات الأسد.
أما في حلب، فقد اكتشف الأهالي مقبرة جماعية في بلدة “خان العسل” بعد انسحاب النظام في أيلول/ سبتمبر 2018، وتضمّ المقبرة رُفاة أطفال ومدنيين، قضوا على أيدي قوات الأسد وميليشياته ، ومضى على دفنهم منذ العام 2013، حيث تحللت الجثث، وكان بعضهم قد قُتل حَرْقاً، حيث استخدمت قوات الأسد مادة خاصة لحرق المدنيين وهم أحياء.
وفي محافظة دير الزور، شمال شرق سورية، عثر أهالي مدينة “المياذين” شرقي المحافظة، في أيلول/ سبتمبر 2018، على مقبرة جماعية تحتوي على عشرات الجثث تعود لمدنيين أعدمتهم قوات الأسد والميليشيات الإيرانية أثناء دخولهم المدينة بعد انسحاب داعش منها قبل عام. وقد قامت تلك القوات بإلقاء تلك الجثث، وعددها 50، في إحدى فتحات الصرف الصحي داخل إحدى المدارس، وتعود تلك الجثث لمدنيين رفضوا الخروج من المدينة، وفُقدوا أثناء سيطرة قوات الأسد على المنطقة.
-
حتى مناطق سيطرة النظام لم تسلم من المقابر!
في مطلع العام 2018، فُجع أهالي مدينة “سلمية” التي لم تخرج من قبضة النظام يوماً واحداً، بخبر العثور على مقبرة جماعية داخل منزل أحد أعضاء مجلس الشعب “وريس اليونس”.
وقد تم التعرف على جثث تعود إلى أشخاص من مدينة السلمية كانوا خطفوا في أوقات سابقة، وتم طلب مبالغ كبيرة من ذويهم لإعادتهم، إلا أن الجهة الخاطفة تخلصت من المخطوفين بسبب عدم قدرة ذويهم على دفع هذه المبالغ، مشيرين أن تلك العصابة تتبع لشقيق وريس، رجب اليونس، وهو أحد أذرع سهيل الحسن “النمر” في ريف حماة.
ولا يمر يوم دون اكتشاف العشرات من الجثث حديثة القتل أو المتحللة في أماكن متفرقة من سورية دون التحقيق عن ملابسات هذه الجرائم، وفي غالب الأحيان دون معرفة أصحاب هذه الجثث. في كل اقتحام تقوم بها قوات النظام السوري كانت تترك وراءها العشرات وأحياناً المئات من القتلى كما حصل في داريا وبانياس والحولة والتريمسة وعرطوز ودير الزور، ولكن سرعان ما يكتشف الأهالي هؤلاء ويتم التعرف عليهم ودفنهم؛ لكن هنالك المئات، وربما الألوف من الجثث المخفية تحت التراب لم تكتشف بعد، ولن تكتشف، ربما حتى بعد مرور سنوات، فأعداد المعتقلين في تزايد وعداد المفقودين بات يسجل يومياً فقدان المزيد من السوريين في ظروف غامضة.