في معتقلات النظام السّوري عشرات آلاف المغيّبين قسراً ينتظرون بينما تقرأ، عزيزي القارئ هذه السّطور. وخارج جدران "قبور الأحياء" أهاليهم أسرى الانتظار أيضاً، عالقون في واقع العجز عن كشف مصيرهم، أحياء كانوا أم غادروا مجهولي الأسماء.
21 / كانون أول / ديسمبر / 2023
*مع العدالة: المصدر”تلفزيون سوريا-حازم العريضي”
“كنّا ننتظر خلف ذلك الباب الذي لم نعد نميّز بين كونه باباً أم جداراً محكماً لا يُفتح.. منّا من أمضى سنوات وآخرون أمضوا شهوراً أو أسابيع حتى اللّحظة”، لسان حال أحد النّاجين.
في معتقلات النظام السّوري عشرات آلاف المغيّبين قسراً ينتظرون بينما تقرأ، عزيزي القارئ هذه السّطور. وخارج جدران “قبور الأحياء” أهاليهم أسرى الانتظار أيضاً، عالقون في واقع العجز عن كشف مصيرهم، أحياء كانوا أم غادروا مجهولي الأسماء.
هذا في حين تستمر جهود منظّمات حقوقيّة وروابط ذوي المعتقلين، وربما أبرزها مؤخّراً هو التوافق على رؤية لطبيعة عمل المؤسسة الدولية المستقلة لشؤون المختفين قسرياً المنشأة حديثاً كـ “آلية إنسانية”، كما يستمر النداء بشعار “بدنا المعتقلين والمعتقلات.. بدنا الكل” في الاحتجاجات السّورية المتجدّدة يوميّاً في محافظة السويداء جنوبي سوريا.
وقد تعلّم الشعب السّوري من تجربته خلال أكثر من 12 عاماً أن النظام في دمشق لم يستجب يوماً لمطالب الشّارع، بل أجرى النّظام عشرات من “مبادلات الأسرى”، وهو تعبير يحرص الأخير على استخدامه، مع فصائل مسلّحة واجهت عنفه بالعنف، كما أصدر بضعة قرارات استثنائية يسمّيها “مراسيم عفو” للإفراج عن عشرات المعتقلين من أصل عشرات الآلاف، وذلك تحت ضغوط سياسيّة من حلفائه الروس، بحسب مصادر في المعارضة السّورية، وسنأتي على بعض تفاصيل ذلك في هذا التقرير إلى جانب استيضاح دور الآلية الدولية الجديدة لاستجلاء مصير المختفين قسرياً، أين وصل؟ وماذا يُنتظر منه؟
الخروج على قاعدة “الكل أو لا شيء”
كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد تبنت قراراً بإنشاء الآلية الدولية الجديدة في 29-6-2023 لكنّها لم توضع موضع التنفيذ بعد، إذ لا يحدد نص القرار طرق عمل هذه المؤسسة، بل تقرَّر أن يطوّر الأمين العام للأمم المتحدة إطارها المرجعي وإعداد الاختصاصات الرسمية لتفعيل المؤسسة في غضون 80 يوماً، بالتعاون مع المفوض السامي لحقوق الإنسان. وهو ما تأخّر إنجازه، فما تفسير ذلك؟
مسؤولة ملف المعتقلين والمفقودين في الهيئة التفاوضية السورية أليس مفرج توضّح “لم يتم التوافق (حينها) على هذه الهيكلية فتم التمديد حتى بداية السنة المقبلة، أعتقد في شهر آذار حتى يتم الإعلان عن هذه الهيكلية”، لكن تؤكد مفرج أن أوساط المجتمع المدني السوري استطاعت التوافق لاحقاً على تصوّر لعمل المؤسسة متجاوزةً الجدل بشأن أن تكون آلية للمحاسبة أو فقط “إنسانية”، لصالح الأخيرة، وذلك إدراك أن المجتمع الدولي لن يتبنّى آلية أخرى بوجود (IIIM)*3 “الآلية الدوليّة المحايدة والمستقلة”.
ومن بين التحديات العديدة التي يواجهها تفعيل الآلية الجديدة، مشكلات الوصول إلى البيانات المطلوبة، إذ لا يتعاون النظام مع الأمم المتحدة ويتصرف بعدائية.
من جهتها المفوضية السامية لحقوق الإنسان كانت قد طلبت من النظام ومن هيئة التفاوض تقديم تصور بشأن عمل المؤسسة الدولية الجديدة، باعتبارهما طرفي “العملية السياسية” المرتبطة بالقرار الأممي 2254.
كالعادة النظام وصف هذا المسعى الإنساني بالـ “مسيّس” و”مخترق السّيادة” ولم يقدم تصوّراً حتى الآن بخلاف ما أنجزته منظّمات المجتمع المدني السوري، وعلى وجه الخصوص روابط الضحايا، بالتنسيق مع الهيئة في وضع تصوّرها، وعلى رأسها روابط الضّحايا التي أنجزت ميثاق “الحقيقة والعدالة”، الشبكة السورية لحقوق الإنسان، المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، ومعظم المبادرات المعنية الموجودة في الداخل، والمنظمات النّسوية.
سقف التوقعات.. لا إفراط ولا تفريط
قد يبدو مُحبطاً تقييم البعض لدور الآلية الدولية الجديدة؛ رئيس المجلس السوري للدراسات والأبحاث القانونية أنور البني يقول “لن يكون لديها شيء تقدمه سوى جمع المعلومات وإبقاء قضية المختفين على الطاولة الدولية”.
بدوره رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني يُفضّل عدم ” التخفيف” من أمر الآلية الجديدة ولكن دون تضخيم دورها، فيؤكّد أن تخصيص مؤسسة دولية مستقلّة للسوريين دوناً عن كل المفقودين في العالم هو أمرٌ مُبرّر “لأن المفقودين والمختفين في سوريا يشكّلون النسبة الأعلى في العالم” (أعلى نسبة بالنظر إلى تعداد الشعب السوري)، وتوثّق الشبكة السّورية في تقرير حديث أن 155604 أشخاص لا يزالون قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري (آذار 2011 – آب 2023)، ويوضّح عبد الغني أن هذا التوثيق يخضع لمعايير ومنهجيّة دقيقة تتّبعها الشبكة وسط صعوبات الوصول إلى المعلومات، وهو ما يبرّر كونها أقلّ بكثير من الأرقام التي تبلغ مئات آلاف المعتقلين لدى النظام السوري وفق الناشطين السوريين.
من جهتها عضوة الهيئة التفاوضية السورية أليس مفرج تبيّن أن (IIIM) ستقوم بدور المحاسبة وتقديم الأدلة لمحاكمات مستقبلية محتملة وفي حال تحوّل ملف سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية بينما تسهم “المؤسسة الدولية لشؤون المفقودين” الجديدة إلى جانبها بجمع المعلومات كما تحاول “الكشف عن مصير المفقودين”، وتضيف مفرج “ستجمع الكثير من الأدلة التي تثبت إجرام النّظام وبقية أطراف النزاع الأخرى، وسيتم تثبيت هذه الأدلة وتحويلها إلى (IIIM)”.
وأخذاً بذلك يتبين أن الآلية الجديدة قد تؤسس لأحد المرتكزات الضّرورية للمرحلة الانتقالية المنشودة في المستقبل المتمثّل في “آليات تقصي الحقائق” المبني على الحق في معرفة الحقيقة إلى جانب تحقيق العدالة للضحايا والمحاسبة، التعويض الفردي والجماعي، وإصلاح المؤسسات المرتبطة بالانتهاكات.
أما ماهية دور الآلية الجديدة هذا وتوقيته فهو يتوقف على مستقبل الكفاح لأجل إسقاط النظام وتنفيذ القرار الأممي 2254، ويبدو ذلك مثيراً للجدل وكأنه “وضع العربة أمام الحصان”، إلا إن نظرنا إلى ما يُضاف إلى هذا الدور من وظائف آنية في الحاضر تتعلق بظروف ذوي المفقودين، وسنأتي عليها تباعاً.
ما ستقدمه الآلية الجديدة
تقاطعت المعلومات خلال بحثنا في النقاط التالية كأبرز ملامح الدور المنشود من الآلية الجديدة لاستجلاء مصير المفقودين في سوريا:
منصّة لمخاطبة مجلس الأمن والمطالبة بكشف مصيرهم: “كونها آلية أممية، تستطيع مخاطبة مجلس الأمن والهيئات الأممية والدول.. والمنظمات المعنية”، وفق تعبير فضل عبد الغني.
وبحسب تصوّر المعارضة السّوريّة ومعظم شركائها في المجتمع المدني وروابط الضحايا،
تمثيل ذوي المفقودين تمثيلاً رسميّاً في المؤسسة، وتشير أليس مفرج إلى مطالب بتمثيل نسائي لا يقل عن 30% وصولاً إلى المناصفة “باعتبارهن الأكثر تضرّراً.. بوصفهنّ معتقلات بآليّة الوصم المجتمعي أو بكونهنّ تحولّن إلى معيلات بعد اختفاء أقاربهنّ” (إذ تغلب نسبة الرجال بين المعتقلين).
اجتماع دوري، كل ثلاثة أشهر، يعقده الأمين العام للأمم المتحدة مع السوريين والسوريات لإطلاعهم على التحديثات والأخذ برأيهم.
تعهد الدول الداعمة لقرار إنشاء الآلية بالدعم السياسي والمالي ورفدها بالخبرات، كما تسعى إلى إنشاء مكاتب إقليمية للمؤسسة في دول جوار سوريا.
إصدار “شهادة غائب” لذوي المفقودين: وهو مسعى قريب المدى لتقديم بدائل عن الوثائق الشخصية لحل المأزق القانوني الذي تعاني منه أسر المفقودين، تقول أليس مفرج “قدمنا مقترحاً بإصدار شهادة غائب بالتعاون مع الدول المستضيفة للاجئين”.
لا تنازل عن الحق في المحاسبة: إن استخدام مصطلح إنساني لتأطير ولاية المؤسسة الجديدة لا يعني التنازل عن “حق السوريين في محاسبة جميع المنتهكين عبر برنامج متكامل للعدالة الانتقالية”، وفق تعبير مفرج.
العمل على اتساع الجغرافيا السورية وتعاون قوى الأمر الواقع: وتشير مفرج إلى أن العديد منها أبدى استعداده رسمياً للتعاون مع الآلية الجديدة باستثناء النظام في دمشق.
ولا بد لنا من الإشارة هنا إلى أن “الآلية الإنسانية” نفسها ليست كافية بغياب تعاون النظام، ولكنّها قد تفسح في المجال للمطالبة بتفعيل الدور الغائب للصليب الأحمر في زيارة المعتقلين أسوة بما تفعله في بعض دول الجوار، مع الاختلاف الشديد في التجربة، حيث تزور مراكز اعتقال دوائر المخابرات في بعض الدول منذ الثمانينيات، والهدف الأهم للوصول إلى المعتقلين هو “تجنب الاختفاء السياسي“ مع ضمان بقاء تقارير ومعلومات المنظمة سرية لبناء الثقة مع الأطراف الأخرى.
دور الفصائل المسلحة وبروباغندا النظام
تؤكد عضوة هيئة التفاوض أليس مفرج أن هناك “عمليات تبادل” لا تزال تجري بين النظام والفصائل العسكرية المعارضة حتى الآن، وتضيف “هناك الكثير من التفاصيل غير الواضحة للعيان، وهي ليست مجرد مبادلات، بل مسائل تتعلق بالمعابر ومسائل كبيرة”، دون أن تفصح عن تفاصيل إضافية.
وعمليات التبادل تلك هي نهج اعتمده النظام وهـي “بالمئـات مـع الفصائـل العسـكرية” بحسب ما ورد في “الورقة البحثية الخلفية من كتيب العدالة الانتقالية في سوريا”*4، فهل يعني ذلك أن “عمليات التبادل” مع الفصائل المسلحة هي الطرق الوحيدة المتاحة لتحرير المعتقلين؟
تعلّق مفرج إن التعامل مع قضية المعتقلين كـ “صفقة مصلحية” بوصفهم “أسرى حرب” على خلفية نزاع مسلح وليسوا معتقلين ومختفين قسرياً على خلفية الحراك الشعبي ضد النظام يقوّض الملف ويخدم بروباغندا النظام بأنه يخوض حرباً بعكس واقع الحال وممارسات الأخير في اعتقال عشرات الآلاف من المدنيين تعسفياً. ومن جهة أخرى توثّق الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقريرها لعام 2023 أعداد من لا يزالون قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري (منذ مارس 2011 وحتى أغسطس 2023) على النحو التالي:
135638 شخصاً على يد قوات النظام السوري
8684 شخصاً على يد تنظيم داعش
4704 على يد قوات سوريا الديمقراطية
4064 على يد جميع فصائل المعارضة المسلحة / الجيش الوطني
2514 على يد هيئة تحرير الشام
الضغوط الروسية أم قانون قيصر؟
يُجمع كل من أدلى بشهادته في هذا التقرير أن آلية استجلاء مصير المفقودين الجديدة تبقى “بلا أنياب” نظراً لحاجتها إلى الوسائل التنفيذية إضافة إلى عدم تعاون النظام بغياب أدوات ضغط، وذلك حصراً بوضع تنفيذ القرار تحت الفصل السابع في مجلس الأمن.
روسيا عطّلت كثيراً من القرارات الأممية ذات الصلة باعتراضها في مجلس الأمن “الفيتو”، إلا أن مصادر في المعارضة السوريّة تؤكد أن موسكو أسهمت أحياناً في الضغط على النظام وفقاً لمصالحها.
وترى هذه المصادر أن الدور الروسي كان عرّابا أكثر من “عفوٍ رئاسي” أُفرِج بموجبه عن مئات المعتقلين، وذلك بتأثير الضغط السياسي الدولي وعمل المنظمات الحقوقية وعمليات التقاضي في أوروبا بعيداً عن “العملية السياسية” المعطّلة أصلاً أو مجلس الأمن.
على المقلب الآخر، دور الولايات المتحدة بقي “متراخياً” وفق تعبير أليس مفرج التي ترى أن “قانون قيصر” تحوّل إلى أداة لـ “إدارة الأزمة” بغياب إرادة حقيقية لحلّها، مع أن أولويّته كانت الإفراج عن المعتقلين، بل إن عملية التطبيع العربية مع النظام ما كانت لتحصل دون موافقة واشنطن و”قبل تنفيذه التزاماته بشأن القرار 2254 المنصوص فيه على كون ملف المعتقلين بنداً “ما فوق تفاوضي”، وكذلك مقاربة المبعوث الخاص إلى سوريا “الخطوة مقابل خطوة.”
إنهاء الاعتقال التعسّفي يعني إسقاط النظام
للتعامل مع بعض الضغوط يتبع النظام سياسة “الباب الدّوّار” فيطلق سراح العشرات أحياناً مقابل اعتقال أضعاف هذه العدد تعسفياً، وتوثّق الشبكة السّورية لحقوق الإنسان هذا النهج بناء على دراسة*5 في هذا الشأن على امتداد أكثر من عقد ونشرتها في نوفمبر 2022.
توضّح هذه الدراسة أن النظام، بموجب ما لا يقل عن 21 مرسوماً للعفو، أفرج خلال هذه المدّة عن 7351 معتقلاً تعسفياً، في حين اعتقل 135253 شخصاً في الفترة ذاتها وبات معظمهم مختفين قسرياً.
وبذلك لا تختلف سيرة النظام في دمشق عن نظرائه من الأنظمة الاستبدادية، فالاعتقال التعسفي كان تاريخيًا بمثابة الدعامة الأساسية لأنظمة كهذه فتقمع المعارضة وتبث الخوف داخل المجتمع، مما يديم حلقة من القمع تقوض حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية.
وفي الختام، ومع كل ما سلف فإن كل الخيارات في قضية المفقودين والمختفين قسرياً لا تزال غير كافية، لتبقى قصة تنتظر نهاية لا تأتي، ويختصر القضية برمّتها، أحد الناجين من أقبية النظام، بإبداء استعداده للصفح عن بعض خصومه (سجّانيه) مقابل كشف مصير المعتقلين وتحريرهم، أما موقفه بالنسبة لعذابات ذويه فيقول فيها “لن ننسى فكيف أسامح”.