#########

العدالة والمساءلة

هل يمكن مساءلة روسيا بشأن الانتهاكات التي ارتكبتها في سوريا؟


إذا قبلت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قضية على النحو المبين أعلاه، وأصدرت حُكماً إيجابياً بشأن الأسس الموضوعية، فلن يعني ذلك أن أي فرد من أفراد الجيش الروسي سيقضي وقتاً في السجن. 

10 / نيسان / أبريل / 2021


هل يمكن مساءلة روسيا بشأن الانتهاكات التي ارتكبتها في سوريا؟

*المصدر: المركز السوري للعدالة والمساءلة 


لم تكتفِ روسيا باستخدام حق النقض الفيتو ضد السُّبل الممكنة لمساءلة الحكومة السورية على الفظائع التي ارتكبتها، بل لعبت أيضاً دوراً نشطاً في النزاع السوري. ويسرد تقرير من 200 صفحة نشره مؤخراً ناشطون روس انتهاكات حقوق الإنسان المختلفة والجرائم الدولية التي ترتكبها أطراف النزاع، ومن بينها روسيا. وعلى الرغم من الدعوات المتكررة من قبل الأمم المتحدة ودول أخرى، لم تبذل روسيا أي محاولات للتحقيق في العديد من الحالات ومساءلة الجناة الذين يعملون في صفوفها. وبدلاً من ذلك، نفت روسيا ارتكاب جرائم حرب في سوريا. وإن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو كيف يمكن لضحايا التدخل العسكري الروسي في سوريا السعي من أجل تحقيق العدالة والمساءلة.

لا تُعتبر المسؤولية الجنائية الفردية خياراً لأن روسيا ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية (ICC). وقد ركّزت المحاكمات بموجب الولاية القضائية العالمية على الجماعات المتطرفة والموظفين ذوي الرتب الدنيا في الحكومة السورية (انظر الملحق الأول من التقرير السنوي للمركز السوري للعدالة والمساءلة لعام 2021). ولكن بصفتها عضواً في مجلس أوروبا ومن الدول المصادقة على الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان (“الاتفاقية“) والبروتوكولات ذات الصلة، تخضع روسيا للولاية القضائية للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECtHR). ومع ذلك، لا تزال هناك مخاوف بشأن عدم امتثال روسيا للأحكام الصادرة عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، مما يثير تساؤلات حول الأثر العملي لهذه الاستراتيجية.

الولاية القضائية (خارج الحدود الإقليمية) للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان 

في حين أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان لا يمكنها النظر في قضايا بمبادرة ذاتية، إلا أنها يمكن أن تتلقّى طلبات خاصة بانتهاكات حقوق الإنسان من دول متعاقدة أو أفراد أو مجموعات أفراد أو منظمات غير حكومية. ووفقاً للاتفاقية، لا يُشترط أن يكون الفرد الذي يقدّم شكوى مواطناً أو مقيماً في إحدى الدول المتعاقدة. ويمكن أن يكون الشخص ضحية مباشرة أو متضرراً بشكل غير مباشر، على سبيل المثال، كأحد أفراد عائلة شخص متوفى أو مفقود. وإن الشرط الوحيد هو أن الانتهاك المزعوم لحقوقه قد ارتكبته دولة متعاقدة. وبموجب المادة 56 من الاتفاقية، تتمتع المحكمة بالاختصاص القضائي فقط عندما يحدث الانتهاك المزعوم على أراضي دولة متعاقدة.

وسّعت المحكمة اختصاصها خارج الدول المتعاقدة في عدد من الحالات المحددة، على سبيل المثال، عندما تمارس الدولة المتعاقدة “سيطرة فعلية” على الضحية، أو على المنطقة التي حدث فيها الانتهاك المزعوم. في قضية جالود ضد هولندا، وجدت المحكمة أن هولندا مارست سيطرة فعلية في منطقة في العراق من خلال تشغيل نقطة تفتيش. وفي قضية السكيني وآخرين ضد المملكة المتحدة، وجدت المحكمة أن المملكة المتحدة تصرّفت كقوة احتلال في العراق من أيار/مايو 2003 إلى حزيران/يونيو 2004، وبالتالي كانت تتمتع بسيطرة فعلية. ووفقاً للمحكمة، فإن إدارة مرفق اعتقال في الخارج هي وسيلة أخرى لممارسة سيطرة فعلية، مما يستدعي تفعيل الولاية القضائية خارج الحدود الإقليمية من قبل دولة متعاقدة، كما ورد في قضية الجدة ضد المملكة المتحدة.

ويمكن للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أيضاً ممارسة الولاية القضائية خارج الحدود الإقليمية في الحالات التي تحمل “سمات خاصة”. ففي قضية عبد الحنّان ضد ألمانيا، ادّعى أفغاني فقد أقاربه في عام 2009 أثناء غارة جوية شنّها الجيش الألماني على شاحنة بالقرب من ولاية قندوز، أن ألمانيا انتهكت واجبها بإجراء تحقيق فعال في الحادث (المادة 2 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان). وعند البتّ في إمكانية قبول القضية، وجدت المحكمة أنه نظراً لخطورة الانتهاكات المزعومة، والولاية القضائية الوحيدة لألمانيا على قواتها، والافتقار إلى الوسائل الأخرى المتاحة لإجراء تحقيق فعال، فقد مارست ألمانيا الولاية القضائية على قواتها في أفغانستان. لذلك، يمكن تقديم دعوى في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان مفادها أن الانتهاكات الروسية – مثل استهداف المنشآت الطبية في سوريا من قبل الطائرات الروسية – تشكّل سمات خاصة تبرّر ممارسة المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان الولاية القضائية خارج الحدود الإقليمية.

غير أن هناك بعض القيود على هذه المقاربة. أولاً، لم يتم تحديد “السمات الخاصة” بشكل جيد، حيث أشارت المحكمة في قضية غوزاليورتلو وآخرين ضد قبرص وتركيا، إلى أنه لا توجد مجموعة من السمات الخاصة ولا سياسة حول كيفية ترجيح هذه السمات مقابل بعضها البعض، مما يجعل من الصعب معرفة متى توافق المحكمة على مراجعة من هذا القبيل. ثانياً، قد تقتصر مقاربة “السمات الخاصة” على الالتزامات الإجرائية بموجب المادة 2 من الاتفاقية لقاء الإخفاق في التحقيق في الانتهاكات المزعومة للحق في الحياة. ومع ذلك، يمكن للمرء أن يجادل بشكل معقول بأن الهجمات التي تشنها روسيا على الأعيان المدنية تشكّل انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني وأن روسيا لم تفلح في إجراء تحقيقات فعالة في هذه الأعمال. لذلك تمارس روسيا الولاية القضائية خارج أراضيها، مما يُلزمها وفقاً للمادة 2 من الاتفاقية بالتحقيق في الانتهاكات المزعومة للاتفاقية والسماح باستخدام بند الولاية القضائية خارج الحدود الإقليمية للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.

استنفاد سبل الانتصاف المحلية 

على غرار المحكمة الجنائية الدولية تماماً، تعمل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان باعتبارها “محكمة الملاذ الأخير”، مما يعني أن المحكمة لا تتدخل إلا عندما يستنفد المشتكي جميع سبل الانتصاف المحلية (المادة 35 (1) من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان). واستناداً إلى مبدأ التكامل، تقبل المحكمة فقط قضايا المشتكين الذين استنفدوا جميع سبل التقاضي أمام الهيئات القضائية، سواء كانت مدنية أو جنائية، في الدولة المتعاقدة التي رُفعت الشكوى ضدها. ومع ذلك، يتم تطبيق هذه القاعدة بطريقة مرنة في بعض الأحيان. على سبيل المثال، في قضية أكسوي ضد تركيا وجورجيا ضد روسيا 1، أقرت المحكمة بأن استنفاد سبل الانتصاف ليس إلزامياً عندما تطبق أجهزة الدولة المتعاقدة “ممارسة إدارية” في انتهاك الحقوق المنصوص عليها في الاتفاقية. وبالتالي، تم تعريف “الممارسة الإدارية” على أنها تكرار لأفعال تتغاضى عنها السلطات الأخرى في الدولة.

ومنذ أن تدخّلت روسيا في النزاع السوري في عام 2015، قدّمت لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة بشأن الجمهورية العرية السورية (COI)، ونشطاء حقوق الإنسان وصحفيون استقصائيون ومنظمات غير حكومية مختلفة توثيقاً مفصلاً عن كيفية ارتكاب الجيش الروسي جرائم حرب بشكل متكرر في سوريا. ومن الواضح أن الطبيعة المتكررة لجرائم الحرب التي ارتكبتها روسيا في سوريا – والتي تمتد لست سنوات تقريباً حتى الآن – تُعتبر “تكراراً للأفعال”. وفي قضية جورجيا ضد روسيا 1، وجدت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أيضاً أنه لتقييم ما إذا كان هناك تكرار للأفعال، يمكنها النظر في “القضايا التي تم عرضها عليها“. وقد تشمل هذه الصيغة شكاوى أخرى مرفوعة أمام المحكمة – مثل قضية  العوض ضد روسيا – وكذلك “القضايا” المذكورة في الشكوى نفسها، إما في شكل وصف تفصيلي للحالات أو بالإشارة إلى القضايا المرفوعة لدى محاكم أخرى.

ولم يقتصر الأمر على إنكار روسيا باستمرار لتورّطها في جرائم حرب في سوريا، بل إن السلطات الروسية لم تبذل أي جهد لتوثيق مثل هذه الحالات أو التحقيق فيها بشكل فعال. ويمكن اعتبار هذا الإغفال والإنكار الفعلي بمثابة “تغاضٍ رسمي”. وبالاقتران مع “تكرار الأفعال” الموثق جيداً، يمكن للمرء أن يجادل بأن هناك بالفعل ممارسة إدارية من جانب روسيا فيما يتعلق ليس فقط بانتهاكات المادة 2 من الاتفاقية (الحق في الحياة) ولكن العديد من المواد الأخرى أيضاً.

آثار الحُكم الإيجابي 

إذا قبلت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قضية على النحو المبين أعلاه، وأصدرت حُكماً إيجابياً بشأن الأسس الموضوعية، فلن يعني ذلك أن أي فرد من أفراد الجيش الروسي سيقضي وقتاً في السجن. حيث تأتي الأحكام الصادرة عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان على شكل غرامات يجب على الدولة دفعها كتعويض لضحايا الانتهاكات. وإذا وجدت المحكمة أيضاً هياكل تشريعية أو إدارية أو غيرها من الهياكل داخل الدولة تعزز الانتهاكات، فيمكنها أن تأمر الدولة بإجراء التغييرات الهيكلية اللازمة. وعلى الرغم من أن كلا الحكمين ملزمان للدولة، إلا أن عدم امتثال روسيا للأحكام الصادرة عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ازدياد. ووفقاً لقانون 2015، يجب أن توافق المحكمة الدستورية الروسية على كل حكم صادر عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قبل دفع أي تعويضات، ناهيك عن التغييرات الهيكلية. بل وذهب التعديل الدستوري في عام 2020 للرئيس بوتين – والذي قوبل بكثير من الانتقاد – إلى أبعد من ذلك، حيث نص على أن القانون المحلي يُبطل القانون الدولي. لذلك فمن غير المرجح أن يؤدّي الحكم الإيجابي الصادر عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان إلى دفع أي تعويض لضحايا الفظائع التي ارتكبتها روسيا في سوريا، ولن تغير روسيا سلوكها في هذا الصدد.

الخلاصة 

من الناحية القانونية، يبدو أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان خيار واقعي لمساءلة روسيا على الفظائع التي ارتكبتها في سوريا. ومع ذلك، فإن الحقائق السياسية والعملية تجعل فوائد مثل هذه الحالة ضئيلة نسبياً. وعلى الرغم من التعديلات القانونية لزيادة كفاءة المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في التعامل مع الشكاوى الفردية، إلا أن المحكمة تستغرق وقتاً طويلاً. في قضية عبد الحنّان ضد ألمانيا، استغرق الأمر خمس سنوات من الشكوى الأولية حتى صدور حكم من الغرفة الكبرى بالمحكمة. وفي النهاية، من المحتمل ألا يؤدي الحُكم الصادر عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ضد روسيا إلى دفع تعويضات مالية للضحايا، ولا تغيير في سلوك روسيا في سوريا. وإن الشيء الوحيد المتبقي هو حُكم مكتوب من محكمة إقليمية لحقوق الإنسان، يؤكّد أن روسيا ترتكب فظائع في سوريا ولا تقوم بمساءلة الجناة. وقبل الشروع في هذا النوع من المساعي، ينبغي على أي صاحب شكوى أن يوازن ما إذا كان هذا النوع من الانتصار الرمزي يستحق المتابعة أو ما إذا كانت سُبل العدالة الأخرى واعدة أكثر.