تعرض ناشطان إعلاميان حاولا تغطية وتصوير الشاحنات الداخلة عبر الترنبة للدفع والمنع (والنعر حسب تعبير أحدهما) من أمنيي "هيئة تحرير الشام"، مع مصادرة الكاميرات ومسح كل ما في ذواكرها (طبعاً سمح لإعلاميين موالين للهيئة بالتصوير، مع بعض التعليقات التبريرية).
21 / كانون أول / ديسمبر / 2021
المصدر: تلفزيون سوريا | مالك داغستاني
في شهر يوليو/تموز من هذا العام 2021، تم التصويت في مجلس الأمن بالموافقة على القرار 2585 القاضي بتمديد إدخال المساعدات الإنسانية عبر معبر باب الهوى الواقع شمال إدلب، والذي أصبح المعبر الوحيد في الشمال بعد إغلاق ثلاثة منافذ أخرى كانت عاملة منذ شباط 2016. مدة سريان القرار 12 شهراً أو (6+6 شهور) حسب التسمية الروسية الحريصة على شرعية الأسد، فالقرار سيسمح بإدخال المساعدات للشمال عبر مناطق النظام أيضاً، وهذا ما اعتبرته روسيا نصراً إلى حدٍّ ما.
أحد أهم المسببات الدولية لمنع النظام من فتح معابر تقع تحت سيطرته لإيصال المساعدات إلى مناطق الشمال، كانت لمنعه السابق وصول المساعدات إلى مناطق المعارضة في الغوطة وحمص فترة الحصار، وقد شاهد العالم بأسره فيديوهات يظهر فيها نهب ميليشيات النظام لمساعدات أممية، ومصادرتها أحيانا قبل أن تصل إلى المناطق المحاصرة أعوام 2017-2018. إذاً يتضمن القرار الجديد بطلان أقوى الحجج التي كانت تحرم النظام من معبر أممي. فباستثناء برنامج الأغذية العالمي الذي يمرر المساعدات إلى مناطق النظام منذ سنوات، فإن باقي المنظمات تدخل مساعداتها الإنسانية إلى المناطق الخارجة عن سيطرته عبر معبر باب الهوى حتى اليوم.
في التاسع من هذا الشهر ديسمبر/كانون الأول، أعلنت حكومة الإنقاذ التابعة للجولاني، في بيان رسمي، عن دخول اثنتي عشرة شاحنة تابعة لبرنامج الأغذية العالمي، قادمة من مناطق النظام باتجاه مناطق سيطرتها عبر معبر “الترنبة” الواقع شرقي سراقب، وهي ليست المرة الأولى، فقد سبقها في 30 أغسطس/آب من هذا العام، عملية مشابهة عبر معبر “ميزناز” ليتم تخزينها في مستودعات مستأجرة للبرنامج في بلدة سرمدا. يومها، كانت درعا تتعرض لهجوم شديد، ولربما استشعرت مجسّات مخابرات الجولاني تململاً وغلياناً شعبياً قد ينقلب على الهيئة، مما يزعزع الاستقرار، استقرار يقوم في حقيقته على ولاية الغالب، فتم تجميد تنفيذ الدفعة التالية حتى قبل أيام قليلة خلت.
تعرض ناشطان إعلاميان حاولا تغطية وتصوير الشاحنات الداخلة عبر الترنبة للدفع والمنع (والنعر حسب تعبير أحدهما) من أمنيي “هيئة تحرير الشام”، مع مصادرة الكاميرات ومسح كل ما في ذواكرها (طبعاً سمح لإعلاميين موالين للهيئة بالتصوير، مع بعض التعليقات التبريرية). للطرافة لم يتم إطلاقهما، بعد احتجاز بسيط، بسبب عدالة موقفهما أو تفهم أمنيي الجولاني. حسب أحد الأمنيين، فإن أحد الإعلاميين ينتمي لأكبر عائلات بلدة “بنش”، وبالتالي لن يكون أنسباء الجولاني وهم من عائلة صغيرة في البلدة بخير، في حال استمرار اعتقاله.
بالعودة لقرار مجلس الأمن ذي الصلة، والذي قد ينتهي مفعوله بعد شهر، في حال نجحت روسيا في ترجيح تفسيرها لنص القرار الأممي، وثبّتت مدة الشهور الستة فقط لاستخدام معبر باب الهوى. عندها سيعود ثلاثة ملايين وثمانمئة ألف مدني سوري إلى رهاب ورعب البازارات السياسية التي تسبق وترافق كل اجتماع وقرار لمجلس الأمن. تراكُم الخبرات جعل أبسط المواطنين ثقافةً بارعاً في استقراء الأحداث الجانبية التي توحي بملامح المرحلة القادمة.
يبدو للمتابع أن كلّ شيء يحدث في سوريا وخاصة الشمال السوري، منذ سبع سنوات مرتبط بأستانا. وليس القصد هنا أستانا المعلنة، بل “أستانا الظلّ” إن صحّت التسمية، فكلُّ ما أُعلن في النور لم يُنفّذ حتى الآن، وكلُّ ما حدث ونُفِّذ من تغيّر في مناطق السيطرة، إلى عمليات التهجير ونشوء مخيمات جديدة، هو على الأغلب من مخرجات أستانا الظلّ، التي لا نعرف عنها. حتى بالنسبة للهيئة، لم تعد أستانا “محفلاً ومؤتمراً للكفر والشرّ”، كما كانت قبل سنوات قليلة. بل صارت تحرير الشام واحدة من أدوات التنفيذ لعدة بنود من مخرجاته، فإن كان تسليم بعض المناطق للنظام إشاعةً، فإنّ دوام وقف إطلاق النار، رغم تجاوزات النظام وقصفه المنطقة واقعٌ دامغٌ لا يقبل الشك.
في ذات السياق، ولذات الأهداف المزمع تحقيقها، تنفيذاً لآخر أستانا، ربما تنهي بعض المنظمات الدولية والمحلية أعمالها ومشاريعها في منطقة سيطرة تحرير الشام، والإشارات بدأت. خلال الشهر الأخير نقلت اليونيسيف معظم مشاريعها إلى مناطق سيطرة (الجيش الوطني) في جرابلس واعزاز. بل إنها لم تكمل مشاريع كانت قد بدأتها ولم تصل لنهاية التعاقد فيها، مثل مشروع دعم محطات ضخ المياه في عدة بلدات (حزرة- تلعادة- تفتناز- طعوم- كفرروحين- جبل حارم)، إضافة إلى محطتي ضخ في مدينة إدلب (الثلاثين- الغزل). كانت منحة اليونيسيف تتضمن الوقود والصيانة وأجور المهندسين والمشغلين، لساعات من الضخ تؤمن المياه لمئات آلاف المدنيين، وهي كلفة ضخمة جداً بالنسبة للبلديات والمجالس المحلية التي تقتات على ضرائب أنهكت المواطنين. مواطنون يمكن تصنيفهم تحت كل خطوط الفقر والمعاناة المعروفة عالمياً. السؤال الذي لا يملك أحد له جواباً حتى الآن: لماذا رحلت اليونيسيف؟ حتما ليس لقلة في الدعم، فهي بدأت في ذات الفترة مشروعاً ضخماً جداً لضخ المياه من الفرات لسقاية مدينة جرابلس وما حولها من قرى ومخيمات. طبعاً هذا غير عشرات المشاريع في مناطق شمال شرقي سوريا، التي تستحوذ على أكبر نسب من الدعم، في عديد منها تتم بالتنسيق مع منظمات تتبع لنظام الأسد كالهلال الأحمر السوري ومشاريعه المدعومة من الصليب الأحمر الدولي.
منحة الاتحاد الأوروبي للتعليم والمسماة “مناهل” وقّعت مع المدرسين عقوداً ستنتهي في بداية عام 2022، علماً أن الأوروبيين حتماً يعلمون بموعد انتهاء العام الدراسي في سوريا. في هذا الشهر ديسمبر/كانون أول تنتهي منحة منظمة قبس المحلية المسماة “التعليم التعويضي” لطلاب المرحلة الثانية في مدارس منطقة سيطرة تحرير الشام. وقبس “المحلية” حتماً تعرف أكثر من الأوروبيين أن كانون الأول ليس آخر شهر في العام الدراسي، إشارات توحي بأن الأمر متزامن. المؤسسة الألمانية للتعاون الدولي (GIZ) وهي من المنظمات الدولية الإنسانية التي تعطي منحاً للمنظمات المحلية العاملة في إدلب وأريافه، كانت أوقفت أيضاً كل مشاريعها في منطقة سيطرة هيئة تحرير الشام قبل ثلاثة شهور تقريباً، باستثناء تقديم منح صغيرة، لبعض الفرق التي تعمل في مجال الحماية والدعم النفسي. كل ما يجري، وهو يبدو أنه في الحقل المدني والإنساني، إنما تفوح منه رائحة السياسة، وهي رائحة مريبة، تشير إلى التخلي المتزامن عمن يعيشون في تلك المنطقة، وتركهم إلى مصير سوف يحدده الجولاني بنسخته المحدَّثة.
صامتٌ هو الشارعُ المتخوف من بازار وشيك يتربّص به. فليس بالإمكان أكثر مما كان حسب القول الشائع، وليس في الاستطاعة فتح معركة جديدة مع الجهة المسيطرة والوكيلة لعرّابي البازارات، خصوصاً أن طوابير الخبز انتقلت عدواها إلى هذا القطاع من سوريا، ولحق بطابور الخبز لعنة تدهور سعر الليرة التركية المتداولة في المنطقة، مما زاد في مأساة أناس يعيشون أساساً ظروفاً متطرفة في قسوتها. في هكذا أحوال تنقلب عادةً الأولويات وسلالمها لدى الناس، ويسعون فقط لما يبقيهم على قيد الحياة. أما المهتمون بالشأن العام والناشطون، ومن يريد الكلام أو الكتابة أو التصوير، فعليه أن يستصدر إذناً من مكتب مديرية الإعلام التابع لحكومة الإنقاذ، هذا ظاهر الأمر، أما فعلياً فولي الأمر “خطّاب الأردني”، واسمه الحقيقي محمد نزّال، الذي يعتبر وجماعته، اليد الضاربة للجولاني فيما يخص تكميم الأفواه، وما المكتب الإعلامي إلا واجهة الغاية منها استصدار أذونات، لا تعطى إلا بعد دراسة أمنية تقوم بها جماعة خطاب. إذنٌ من “جبهة النصرة”! بسببه لن يكون من المستغرب مستقبلاً أن يجد الناشط اسمه مدرجاً على قوائم الإرهاب، بذريعة التعامل مع جهة مصنفة دولياً كمنظمة إرهابية. وإن أراد تجاوز موافقة خطاب الأردني، فعليه تقبُّلُ مصير أسوأ مما جرى للناشطين على معبر الترنبة، آخذاً باعتباره أنّ حسابات الأنسباء، لن تنقذه في بلده الذي اتّسع للجميع، وضاق عليه.