كانت داريا من أوائل المدن المنتفضة. في يوم الجمعة 25 مارس، أعادت حركة "تجمع شباب داريا" التي تشكلت في التسعينيات، تجميع صفوفها من أجل نضال جديد.
24 / آذار / مارس / 2021
*مع العدالة | ترجمة: أحمد بغدادي
في بلدة محاصرة من قبل نظام الأسد، وجدت مجموعة صغيرة من الثوار مهمة جديدة: بناء مكتبة من الكتب التي تم إنقاذها من تحت الأنقاض. بالنسبة لأولئك الذين تقطعت بهم السبل في المدينة، قدمت الكتب ملاذًا خياليًا من أهوال الحرب.
تواصلتُ مع أحمد المعضماني عندما كان في قبو مخفٍ عبر سكايب، في 15 أكتوبر 2015، حينها لم يكن قد غادر داريا، مدينته، التي تقع بالقرب من العاصمة دمشق. حيث أصبحت المدينة تابوتاً، يحاصرها النظام، ويعاني سكانها من الجوع؛ وأحمد، كان واحداً من 12000 ناجٍ.
تعرضت المدينة لنيران صواريخ “بشار الأسد” وبراميل متفجرة وحتى هجوم بأسلحة كيماوية لعدة أشهر. كانت داريا محاصرة من قبل قوات النظام السوري منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2012. ومثل كثيرين آخرين، حزمت عائلة معضماني حقائبها وهربت إلى بلدة مجاورة. ولقد توسلوا إلى أحمد أن يتبعهم. لكنه رفض – كانت هذه ثورته، ثورة جيله.
انضم إلى إحدى المظاهرات الأولى في داريا التي دعت إلى التغيير في عام 2011. لقد تذكر كل شيء عن “أول مرة” له: إن قلبه يحترق. وأحياناً يفقد صوته من هتاف الشعارات. أما الإحساس الأول له بالحرية والفرحة، كان في التواجد هناك في المظاهرات.
وكان معضماني وغيره من الثوار الشباب قد بقوا، ليس للدفاع عن مدينتهم، ولكن لإبقاء شيء فيها حياً. في المدينة تحت الحصار، حصل على كاميرا فيديو، حيث تحقق أخيراً حلم طفولته: كان يكشف الحقيقة. بعدها انضم إلى المركز الإعلامي الذي يديره المجلس المحلي الجديد. في النهار، كان يتجول في شوارع داريا المدمرة. ويقوم بتصوير أنقاض المنازل، والمستشفيات التي تزدحم بالجرحى، دفن الضحايا، وآثار حرب غير مرئية بالنسبة للعالم، ولا باستطاعة وسائل الإعلام الأجنبية الوصول إليها وتغطيتها. أما في الليل، يقوم بتحميل مقاطع الفيديو الخاصة به على الإنترنت.
في أحد الأيام، أواخر عام 2013، اتصل أصدقاء معضماني به – كانوا بحاجة إلى بعض المساعدة. لقد عثروا على كتب أرادوا استخراجها من تحت أنقاض منزل تم نسفه.
صدمته الفكرة على أنها سخيفة. وكان ذلك في منتصف الحرب. ما الفائدة من حفظ الكتب عندما لا يمكنك حتى إنقاذ الأرواح؟ لم يكن يوماً قارئاً جيداً . بالنسبة له الكتب مليئة بالأكاذيب والدعاية. بعد لحظة من التردد، تبع أصدقاءه عبر فجوة في جدار، عقب ذلك، وقع انفجار في الباب الأمامي للمنزل. وهذا المبنى الممحطم، يعود لمدير مدرسة فرّ من المدينة وترك كل شيء وراءه.
كان معضماني حذراً في طريقه إلى غرفة المعيشة التي كانت مضاءة بالقليل من أشعة الشمس. أما الأرضية الخشبية مغطاة بالكتب المتناثرة وسط الحطام. ومع حركة بطيئة، جثا على الأرض واختار كتاباً بشكل عشوائي. بأصابعه نفض الغبار عن غطاء كتاب أسود، كما لو كان يعزف على أوتار آلة موسيقية. كان العنوان باللغة الإنجليزية؛ شيء عن الوعي الذاتي، كتاب علم النفس. التفت إلى الصفحة الأولى، وفكّ رموز الكلمات القليلة التي يعرفها. اتضح له أن الموضوع لا يهم. كان يرتجف من الداخل. إحساس مقلق يأتي مع فتح الباب للمعرفة. مع الهروب، لثانية، من روتين الحرب. مع الاحتفاظ بقطعة صغيرة (كتاب)، وإن كانت صغيرة، فهذا من أرشيف المدينة، والتسلل عبر هذه الصفحات كأنك تفرّ إلى المجهول.
شابان من جامعي الكتب في مكتبة داريا. تصوير أحمد معضماني
استغرق معضماني وقته واقفاً، والكتاب إلى صدره ملتصقاً. كان جسده بأكمله يرتجف. ويتذكر كما يقول إنه “نفس الإحساس بالحرية الذي شعرت به في مظاهرتي الأولى.
وقطع انفجار قريب قطع الاتصال بالإنترنت. ولقد قمت بالنظر في الشاشة، وبعد لحظة، واصل قصته، مقدماً جرداً للكتب الأخرى التي وجدت بين الأنقاض في ذلك اليوم: الأدب العربي والعالمي، والفلسفة، واللاهوت، والعلوم؛ هناك بحر من المعرفة.
وتابع قائلاً: “لكن كان علينا أن نسرع”. “كانت الطائرات تحوم في الخارج. تحركنا بسرعة، وحفرنا بحثاً عن الكتب، وملأنا صندوق سيارة “بيك آب” حتى حافته”.
في الأيام اللاحقة، استمرت جهود التجميع من أنقاض المنازل المهجورة والمكاتب المدمرة والمساجد المتهدمة. ولقد طور المعضماني حالة استثنائية. مع كل عملية بحث جديدة عن الكتب، كان يستمتع باكتشاف الصفحات المنسية، مما يعيد الحياة إلى العالم المدفون تحت الأنقاض. قاموا بالتنقيب بأيديهم العارية، وأحيانًا بالمجارف. إجمالاً ، كانوا 40 متطوعًا أو نحو ذلك – نشطاء وطلاب وثوار – هم دائمًا على استعداد، في انتظار أن تغادر الطائرات حتى يتمكنوا من الحفر في الأنقاض. لقد أنقذوا 6000 كتاب في أسبوع واحد. بعد شهر واحد، وصلت المجموعة إلى 15000. كانت الكتب قصيرة وطويلة وبعضها تالف، وبأغلفة متضررة؛ كان بعضها نادرًا ومطلوبًا للغاية.
نعم؛ عليهم أن يجدوا مكاناً لتخزين الكتب وحمايتها. إنه الحفاظ على القليل من المعرفة قبل أن يتصاعد منها الدخان. وقد تم التوصل إلى اتفاق بشأن إنشاء مكتبة عامة. لم يكن لدى داريا واحدة في عهد الأسد، لذا ستكون هذه هي الأولى. وأضاف معضماني ” إنّه رمز لمدينة لن تنحني – مكان نبني فيه شيئًا حتى مع انهيار كل شيء آخر من حولنا”. توقف، متأملاً، قبل أن ينطق بجملة لن أنساها أبداً: “ثورتنا كان المقصود منها البناء، وليس التدمير“.
مظاهرات سلمية في مدينة داريا
خوفاً من انتقام النظام، قرر المنظمون أن هذه المكتبة ستبقى في أقصى درجات السرية. لن يكون لها اسم ولا علامة. ستكون ضمن مساحة تحت الأرض، محمية من الاكتشاف والقذائف، حيث يمكن للقراء المتعطشين والمبتدئين على حد سواء التجمع، وتكون القراءة هي الملاذ، وصفحة تنفتح على العالم عندما يتم قفل كل باب. بعد التجوال في المدينة، اكتشف معضماني وأصدقاؤه قبو مبنى مهجور غادر سكانه، على حدود خط المواجهة، ليس بعيدًا عن القناصين، لكنهم نجوا إلى حد كبير من نيران الصواريخ. فسارع المتطوعون ببناء رفوف خشبية. وجدوا الطلاء لتجديد الجدران المغبرة. وقاموا بإعادة تجميع أريكتين أو ثلاث أرائك. في الخارج، كدسوا بضعة أكياس من الرمل أمام النوافذ، وجلبوا مولداً للكهرباء. لأيام، كان جامعو الكتب منشغلين بإزالة غبار هذه المجلدات ولصقها وفرزها، وفهرستها وتنظيمها. الآن، هي مرتبة حسب الموضوع وبالترتيب الأبجدي. وعلى الرفوف، وجدت الكتب ترتيبًا جديدًا متناغمًا.
هؤلاء الشباب السوريون تعايشوا مع الموت ليلاً ونهاراً. وقد فقد معظمهم بالفعل كل شيء – (بيوتهم، وأصدقاؤهم، وآباؤهم). وفي خضم الفوضى، تشبثوا بالكتب كما لو كانوا متشبثين بالحياة، على أمل غد جيد، من أجل نظام سياسي أفضل. وكانوا مدفوعين بتعطشهم للثقافة، يطورون فكرة عما ينبغي أن تكون عليه الديمقراطية. فكرة تحدّت طغيان النظام وحارقي كتب تخص الدراسات الإسلامية. كان معضماتي وأصدقاؤه جنوداً حقيقيين من أجل السلام.
قبل الثورة، درس المعضماني الهندسة المدنية في جامعة دمشق. عندما انتفضت سوريا ضد نظام الأسد في آذار 2011، كان يبلغ من العمر 19 عامًا. وقد أمضى والده، 12 شهراً في السجن عام 2003 بسبب انتقاد بسيط لنظام الأسد، همس به لصديق!
غاب المعضماني عن أول احتجاج في داريا. خلال المرة الثانية، تسلل إلى الخارج وانضم إلى الحشد وهو يهتف بأعلى صوته: “واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد“.
مرت أسابيع، ثم أشهر، واستمرت الاحتجاجات. وخرج الأسد مهدداً عبر “الراديو “: سنربح. لن نستسلم. سنقضي على المعارضين “. أطلقت قوات النظام النار على المتظاهرين. وهتف المعضماني وأصدقاؤه بصوت أعلى – “حرية… حرية” – كما حمل معارضون آخرون السلاح لحماية أنفسهم.
شرح المعضماني سبب تركيز النظام على داريا. قائلاً: “ليست داريا مثل المدن الأخرى“. تمتد مقاومة المدنية إلى الوراء قبل الثورة.
بدأت داريا بالمقاومة في أواخر التسعينيات، في أحد المساجد، حيث كان النشطاء يدرسون القرآن ويقرأون الأعمال المحظورة للمعارضين المتدينين. على وجه الخصوص، أمضوا أوقات في شرح كتابات جودت سعيد – أحد المفكرين المسلمين الأوائل الذين تعاملوا مع فكرة اللاعنف. على عكس التسمية “الإرهابية” التي ورِثوها بعد ذلك بكثير، كان هؤلاء الرجال يدافعون عن شكل من أشكال “المذهب السني” الذي يفضل الحوار والتسامح. أسلحتهم الوحيدة كانت عبارة عن كتب قليلة تم جمعها سراً. وتم التقاط هذا التقليد المتمثل في المعارضة (اللاعنفية) من خلال المعرفة، عن طريق الصدفة تقريبًا، عندما قاموا بإنشاء مكتبة تحت الأرض.
وبحلول عام 2002، بدأت مجموعة من شباب داريا في ترجمة معارفها الجديدة إلى نشاط، مع مبادرات بيئية ومدنية. وبعد الغزو الأمريكي للعراق، تظاهرت داريا ضد الاحتلال. كما عارضت حكومة الأسد العملية العسكرية الأمريكية، لذلك شعر المتظاهرون بالأمان في احتجاجهم. لكن حكومة بشار الأسد بدأت تقلق بشأن هذا الزخم الشعبي، الذي كان ينمو بشكل كبير جداً. وبعد شهر، تم اعتقال وسجن 24 ناشطاً شاركوا في التخطيط للمظاهرة.
في بداية الربيع العربي، خلال آذار 2011، أثار حدث جديد سكان داريا. مستوحىً من سقوط زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر. حيث كتب بعض الأطفال والمراهقين في درعا، وهي مدينة سورية على بعد 130 كليومتر عن دمشق، “أتاك الدور يا دكتور” على جدار مدرستهم. كانت الرسالة موجهة للأسد. تم اعتقالهم وتعذيبهم. سرعان ما تصاعد الغضب إلى الشوارع في جميع أنحاء سوريا.
كانت داريا من أوائل المدن المنتفضة. في يوم الجمعة 25 مارس، أعادت حركة “تجمع شباب داريا” التي تشكلت في التسعينيات، تجميع صفوفها من أجل نضال جديد. “من داريا إلى درعا، شعب حر”، كرر ذلك المتظاهرون في جوقة واحدة. وتضخم الحشد. وفي غضون ساعة، تحدى الآلاف الحظر المفروض على التظاهر. بعدها أُطلقت الرصاصات الأولى، بالتزامن مع ابتكار المتظاهرين طرقاً سلمية قابلوا بها الجنود: – وزّعوا عليهم وروداً وزجاجات ماء مع ملاحظات مرفقة: “نحن إخوتكم، لا تقتلونا“.
أثارت الرسالة حفيظة النظام. وتناقضت مع الدعاية الرسمية القائلة بوجود متعصبين (إسلاميين) ممتلئين بالكراهية والحقد بين المتظاهرين. في سبتمبر 2011، تم القبض على زعيم تلك الاحتجاجات السلمية وتعذيبه. وأعيدت جثته مشوهة إلى أسرته. بعد ذلك، بدأت تتشكل فصائل المقاومة المسلحة لكن الحراك السلمي استمر.
وفي 25 آب/أغسطس 2012، أرسل الأسد الدبابات؛ بعد ثلاثة أيام من القصف المكثف، هاجم جنود النظام داريا. شارع بشارع. منزل وآخر، و اصطف السكان الذين قاوموا أمام الجدران وأطلق عليهم النار، واحداً تلو الآخر. رجالاً، نساء، وأطفالاً. كان عقاباً جماعياً للمتظاهرين. للزهور وزجاجات المياه. من أجل هذه الأوديسة (رحلة السلام) التي تمتد إلى التسعينات، قبل الثورة بكثير.
في مأوى مؤقت، لم يكتشف المعضماني حجم المجزرة حتى غادرت القوات بعد ثلاثة أيام. كانت جثث عشرات الضحايا قد تجمعت في باحة أحد المساجد. تم إنشاء مقبرة على عجل لحوالي 500 قتيل، لكنه يعتقد أن هناك ما لا يقل عن 200 آخرين، مدفونين على عجل حيث تم إعدامهم.
في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2012، فرضت الحكومة حصاراً على داريا. وبمجرد إعلان هذه العقوبة، بدأت موجة جديدة من النازحين. وشمل ذلك والدي معضماني. وقد اختار الناشط الشاب البقاء. وقال “لا تتخلَّ عن ثورة في منتصف الطريق“. لم يكن لديه أي طريقة لمعرفة ما سيأتي بعد ذلك.
الأستاذ محمد شحادة، مدرس اللغة الإنجليزية وتقنيات المقاومة اللاعنفية، ينقذ الكتب في داريا. تصوير محمد الإيمان
أصبحت المكتبة بسرعة كبيرة أحد الأركان الأساسية لهذه المدينة المعزولة. تفتح من الساعة 9 صباحًا حتى 5 مساءً ، ما عدا يوم الجمعة، يوم الراحة، واستقبلت ما معدله 25 قارئًا يوميًا، معظمهم من الرجال. يقول معضماني نادراً ما نشاهد النساء والأطفال في داريا، فالخروج مغامرة. بشكل عام، اكتفوا بقراءة الكتب التي يحضرها آباؤهم أو أزواجهن إلى منازلهم، بدلاً من المخاطرة تحت البراميل المتفجرة التي تسقط من السماء.
قال معضماني: “في الشهر الماضي، سقط نحو 600 برميل على المدينة”. وكان صديقه “أبو العز”، المدير المشارك في المكتبة، على وشك الموت. خلال سبتمبر 2015، كان في طريقه إلى قبو الكتب عندما سقط أمامه أحد البراميل المتفجرة عبر من مروحيات النظام.
تسقط هذه الحاويات المليئة بالمتفجرات والخردة المعدنية بشكل عشوائي وهي مدمرة بشكل مريع. أصيب أبو العز في عنقه بقطع من الشظايا أصابت جهازه العصبي. بعد ذلك، كان يعاني من تشنجات أسفل ظهره.
عقب أسابيع من النقاهة، تمكن أبو العز من مغادرة سريره في المشفى الميداني وانضم إلى معضماني في المركز الإعلامي الذي يديره المجلس المحلي، حيث تحدث باسم المعارضة هناك. وقال ” إن الكتب هي طريقتنا لتعويض الوقت الضائع والقضاء على الجهل ” .
كان أبو العز يبلغ من العمر 23 عامًا ، تمامًا مثل المعضماني. كما انقطعت دراساته في كلية الهندسة. فهو لم يكن أبدًا مثقفًا.
وتابع قائلاً: “قبل الثورة كنا نعيش على الأكاذيب. لم يكن هناك مجال للنقاش. كنا نحيا في تابوت. كانت الرقابة ملتصقة بنا، في حياتنا اليومية. لقد كان الأسد سيد البلد والزمن والفكر “.
كان أبو العز لا يزال يعاني من ألم كبير في جروحه، لكنه أراد التحدث عن شغفه الجديد بالكتب. الكلمات لها القدرة على تهدئة الجروح في الذهن. أصبح فعل القراءة البسيط مصدر راحة كبيرة له. كان يحب أن يتجول في الصفحات، ويفقد نفسه بين السطور. كانت اختياراته في القراءة انتقائية، تتراوح من تحليلات وشرح الإسلام السياسي إلى الشعر العربي إلى علم النفس.
“الكتب لا تصنع حدوداً. إنها تطلق سراحنا. القراءة تساعدني على التفكير بشكل إيجابي، والتخلص من الأفكار السلبية. وهذا أكثر ما نحتاجه الآن “.
نزوح أهالي داريا قسراً بعد دمار مدينتهم والحصار الذي فرضه النظام السوري عليهم- أرشيف.
ماذا عن المكتبات الأخرى؟ ماذا قرأوا؟ ما الموضوعات التي استحوذت على اهتمامهم؟ قال أبو العز الكتاب يشبه قطعة ثمينة تقوم بفحصها لأول مرة – كان الزوار ومرتادو المكتبة غير معتادين على القراءة؛ يخجلون، وأغلبهم متوترون ومتخوفون حتى من فكرة لمس غلاف الكتاب. لكن بعض الكتب بدأت تكتسب شعبية شفهية (بالحديث عنها بين الناس). قال: “هكذا انتهى الأمر بمعظم الذين استعاروا الكتب،حيث عمدوا إلى قراءة رواية الخيميائي – باولو كويلو.”
“نعم ، إنه أحد أكثر كتبنا شهرة. يتداول الناس الرواية فيما بينهم. لقد قرأها البعض عدة مرات “.
ربما كان هذا الكتاب الأكثر مبيعًا عالميًا، إنه يلامس مرتادي المكتبة لأنه يصف مفهومًا مألوفًا لهم: اكتشاف الذات. إنها رحلة الراعي الإسباني من الأندلس إلى الأهرامات المصرية. سمع شباب داريا الثوريون في هذا الكتاب صدى ملحمتهم المحفوفة بالمخاطر. كان يحتوي على كنز ثمين بشكل خاص في أعينهم: فكرة الحرية اللامحدودة.
بين جيل أبو العز، الذي لم يعرف إلا الديكتاتورية القاسية لحزب البعث (في السلطة منذ أوائل الستينيات)، كان التعطش للتغيير ملفتاً للنظر. “معظم القراء مثلي. لم يحبوا الكتب قط قبل الحرب. اليوم، لدى شباب داريا كل شيء ليتعلموه. يبدو الأمر كما لو أننا جميعًا نبدأ من الصفر. في المكتبة ، يسألني الناس عن كتب حول “الديمقراطية” طوال الوقت “.
كتاب آخر، وُضِع في مكان بارز على الرف، أثبت شعبيته بشكل خاص: كتاب “العبر” لابن خلدون. لقد قام قرائنا جميعًا بقراءة هذا الكتاب الضخم من حين لآخر. وفيه يستخدم مؤرخ تونسي من القرن الرابع عشر أبحاثه (تجاربه) الخاصة لمحاولة تحديد أسباب صعود وانحدار المجتمعات العربية “. في خضم عدم اليقين الثوري، قدم هذا الرائد في علم الاجتماع الحديث، إن لم يكن حلولاً، على الأقل طرقًا للتفكير في قضايا أساسية مثل الحوكمة، وصراعات السلطة، والتنمية الاقتصادية – وهي موارد رئيسة في وقت كان فيه شكل سوريا المستقبلية موضع تساؤل إلى ما لا نهاية.
كانت الكتب تساعد في نقل هؤلاء الشباب السوريين إلى مكان آخر. استلهم سكان داريا من هذه الروايات الكثير. لقد كانت مصدراً فكرياً تم حجبه لفترة طويلة.
كان أبو العز غير صبور ليتعافى بما يكفي للعودة إلى المكتبة. بالنسبة له، لم يكن مكانًا للشفاء فحسب، بل كان أيضًا مكانًا يمكن أن يتنفسه – صفحة مفعمة بالأمل في تاريخ سوريا المظلم.
في نهاية أكتوبر 2015، فتحت صندوق الوارد الخاص بي للعثور على رسالة من معضماني، قرأتُ عنوان الموضوع: “قواعد المكتبة“
- لا يمكن استعارة أي كتاب بدون إذن أمناء المكتبات.
- لا تنس إعادة كتبك في التاريخ المحدد.
- أي قارئ يعيد كتابًا متأخرًا سيتم منعه من استعارة الكتب مرة أخرى.
- احترام السلام والهدوء للآخرين وامتنع عن إحداث الضجيج.
- انتبه، وحافظ على نظافة المكتبة.
- يرجى إعادة الكتب إلى مكانها الأصلي بعد قراءتها.
كانت هذه التعليمات قد طبعت على قطعة من الورق A4 ووضعت بشكل بارز عند مدخل الطابق السفلي، ملتصقة بعمود، حتى يتمكن الجميع من رؤيتها.
هو وأصدقاؤه قد خلقوا شيئاً استثنائياً في وسط منطقة حرب، ومكتبتهم أرض بلا حدود. مخبأ سري حيث يتم تداول الكتب دون الحاجة إلى تصريح مرور آمن أو سترة واقية من الرصاص. وفي هذا المكان المحمي، تمكنوا من تهيئة أجواء من الألفة الجماعية، فضلاً عن الشعور بالأخلاق والانضباط، والغريب أن الأمور طبيعية. لم يكن هناك شك في أن هذا ساعدهم على الصمود. حتى مقاتلي الجيش السوري الحر كانوا منتظمين في المكتبة.
يقول معضماني “إن أكثر قارئنا إخلاصًا هو معارض مسلح. يقرأ كل ما يجده. يقضي الكثير من الوقت في قراءة كتب ابن خلدون لدرجة أن أصدقائي وأنا أطلق عليه هذا الاسم الآن”.
في اليوم التالي، عرّفني إلى عمر “أبو أنس”، الملقب بابن خلدون. كان يتحدث بلهجة سورية قريبة إلى العربية الفصحى، كما لو أن قراءة كتب العلماء العظماء قد أثّرت على مفرداته.
مثل معضماني، كان أبو أنس يدرس الهندسة قبل الثورة، قبل أن يقلب الصراع حياته رأساً على عقب. يقول: “عندما بدأت قوات النظام في إطلاق النار علينا، لم يكن لدينا خيار سوى حماية المتظاهرين. لذلك تخليت عن دراستي وتطوعت للقتال. كانت المرة الأولى التي حملت فيها السلاح “.
المقاتل المعارض للأسد عمر أبو أنس في المكتبة المصغرة التي بناها على خط المواجهة. تصوير مالك ريف
ينتمي أبو أنس، 24 عامًا، إلى ثوار لواء شهداء الإسلام. إلى جانب أجناد الشام، كان هذا الفصيل العسكري أحد ألوية الجبهة الجنوبية للجيش السوري الحر. كان هذا المقاتل الشاب من بين عدد لا يحصى من شبان داريا، الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و 28 عامًا، والذين تم دفعهم بين عشية وضحاها إلى الخطوط الأمامية للحرب. على عكس قادتهم المنشقين عن الجيش الرسمي، لم تكن لديهم خبرة قتالية. زملاء الدراسة السابقين في الكلية والجيران المجاورين، وجدوا أنفسهم أحيانًا يقاتلون ويواجهون القنابل والدبابات بسلاح واحد مشترك بين ثلاثة أشخاص.
سألته إن كان يعتبر نفسه جهادياً، فتوقف لفترة طويلة قبل الرد. وأضاف “إذا اخترت محاربة النظام، فإن ذلك كان للدفاع عن أرضي”. “بلدي.. وحقي في الحرية”. “القتال لم يكن خياراً. لقد كان ضرورة، عندما يتم إطلاق النار على أصدقائك أمام عينيك لمجرد أننا نلوّح بقطعة من الورق تدعو إلى التغيير، ماذا بقي، باستثناء الرغبة في حماية المتظاهرين الآخرين؟ للأسف، هكذا بدأ كل شيء. وبعد ذلك، مع قنابل وصواريخ النظام، بدأت دوامة العنف المفرغة”.
عكست كلمات أبو أنس نفس الصراحة التي اتسمت بها الشعارات الثورية لعام 2011 – التعطش للحرية، واللجوء إلى السلاح باعتباره الوسيلة الوحيدة لحماية النفسس. يقول: أما بالنسبة للجهاد … لأولئك الذين يسعون لتشويه صورتنا من خلال تصويرنا كمتعصبين دينيين، فإن ردي بسيط: نحن مسلمون. نحن نرفض أي اغتصاب وتشويه لديننا. سواء كان ذلك من قبل جبهة النصرة، الفرع السوري للقاعدة، أو الدولة الإسلامية؛ هؤلاء الناس لا يمثلون أفكارنا. يشوهون الدين. لا تنسوا أن الثورة بدأت بدعوات للعدالة واحترام حقوق الإنسان وليس الإسلام “.
مقاتل معارض للأسد يقرأ على خط المواجهة. تصوير أحمد معضماني
كنت أشعر بالفضول لمعرفة اللحظة التي بدأ فيها للكتب أهمية حاسمة في حياته. هل كان ذلك عندما فتحت المكتبة؟ عندما قرأ فقرة معينة؟ يقول: “كان ذلك عندما فهمت أن الحرب يمكن أن تستمر لسنوات. عندما أدركت أنه لا يمكننا الاعتماد إلا على أنفسنا “.
ومنذ ذلك الوقت، ستحل الكتب محل الجامعة التي لم يعد يدرس فيها. كان عليه أن يثقف نفسه. ويملأ الفراغ الذي يمكن أن يسيطر عليه المتعصبون بفرض أفكارهم المتخلفة. “كان للكتب تأثير حاسم بسرعة كبيرة – لقد ساعدتني على عدم فقدان نفسي.”
إنه يعيش حياة مزدوجة، بين الحرب والأدب. حتى أنه أنشأ مكتبة صغيرة على خط المواجهة: عشرات الأعمال المنظمة والمحمية خلف أكياس الرمل. عندما هدأت القنابل، تبادل المقاتلون الكتب وتبادلوا توصيات القراءة. “الحرب مدمرة. إنها تحول الرجال وتقتل العواطف والمخاوف. عندما تكون في حالة حرب، ترى العالم بشكل مختلف. القراءة تسلية وهروب من الواقع المرير، ومعرفة، فهي تبقينا على قيد الحياة. تذكرنا القراءة بأننا بشر “.
سألته إذا كان لديه كتاب مفضل. أجاب على الفور: “القوقعة“. أنا أعرف هذا الكتاب. قرأته قبل الثورة. إنه واقع مرعب في الحقيقة. كتبه الكاتب السوري مصطفى خليفة بعد 13 عامًا من الاعتقال في تدمر، “السجن الصحراوي” الرهيب. هذه الرواية شبه السيرة الذاتية مليئة بأوصاف فظيعة مستوحاة من همجية سجانيه وتعذيبهم وكابوس سجنه في ظل حكم حافظ الأسد.
في عهد الأسد، الأب ثم الابن، تم حظر الكتاب. كان هناك الكثير من الرقابة لدرجة أنه لم يكن لدينا سوى القليل من المعلومات حول مدى وحشية النظام. لقد أدرك معظمنا ذلك في بداية الثورة، عندما بدأت القوات الموالية للأسد في قمعنا بوحشية. اليوم، من المهم أن نفتح أعين الناس على ماضينا، والذي، في لحظات الشك واليأس، يمكن أن يذكرنا لماذا نقاوم “.
على الرغم من القسوة الموضحة في “القوقعة”، طوّر أبو أنس علاقة خاصة بالكتاب. إنه يفتح الباب لتاريخ بلاده المدفون. فالقراءة مقابل محو الذاكرة. وقد علمت لاحقًا أن هذا الكتاب الذي كان محظوراً في وقت ما كان واحداً من أكثر الكتب قراءة في داريا. صار أبو أنس مرتبطاً بشكل خاص بـ”القوقعة” لأنها ذكّرته بوضعه الخاص. كيف يمكن البقاء على قيد الحياة وراء القضبان؟ كيف نتحمل الحبس القسري؟
يضيف أبو أنس: “القوقعة مرآة يمكنني أن أتصور فيها نفسي”. “فقاعة واقية أقوم بصناعتها لأتمكن من تحمل الأسوأ.”
إيمانه الراسخ بالكتب أعاد إلى الأذهان جميع الرسائل والروايات التي خلفها جنود الحرب العالمية الأولى. مثل “مارسيل إتيفي- Marcel Étévé“، خريج مدرسة “إيكول نورمال سوبريور- École Normale Supérieure” المرموقة في فرنسا، الذي قرأ 80 كتابًا في عامين على خط المواجهة. أو “روبرت دوبارل- Robert Dubarle”، قائد مشاة الجبال الأسطورية في فرنسا، والذي كانت زوجته ترسل له باستمرار كتب للقراءة في الخنادق. ثم هناك شركة “سوسيتيه فرانكلين Société Franklin” الشهيرة، والتي موّلت إنشاء 350 مكتبة للثكنات العسكرية.
إن القراءة للهروب. القراءة لتجد نفسك. القراءة لتشعر بالحياة. أما القراءة لدى شباب داريا معنى أكثر من ذلك. هنا، كانت القراءة عملاً من أعمال التجاوز. وكان ذلك تأكيدًا على الحرية التي حُرموا منها لفترة طويلة.
في أغسطس 2016، انتشرت أنباء مفادها أن مبعوثاً من الفرقة الرابعة وجه إنذاراً لسكان المدينة: غادروا داريا فوراً أو ينتهي بكم الأمر مدفونين أحياء. أصبح الوضع في داريا يائساً. كتب معضماني في سلسلة من النصوص “لم يتبق شيء نأكله، ولا شيء نحمي أنفسنا به. لقد أحرق النظام جميع أراضينا الزراعية. وكان على المعارضين الشباب الذين نجوا من هول الحرب أن يتركوا كنوزهم (الكتب) تحت الأنقاض.
تم إجلاؤه إلى إدلب. بعد أسابيع قليلة، أرسل لي صورة لما تبقى من المكتبة السرية. التقط الصورة أحد المراسلين الذين سُمح لهم بالوصول إلى داريا، تحت المراقبة المشددة من قبل النظام. لقد تعرفت على المساحة المغلقة بممراتها التي تصطف بشكل مثالي ورفوفها الخشبية على طول الجدران.
بعض الرفوف نصف فارغة. ألقيت الكتب المتبقية على الأرض، وتركت في الغبار والعتمة. تناثرت الأدراج المحطمة على الأرض، واختلطت بأحجام متفرقة. في خلفية الصورة، داس جندي يرتدي زياً عسكرياً على الورق الممزق. الكتب لم تنته في النار كما كان يخشى المعضماني. بعد الكشف عن المكتبة السرية، نهبها جنود النظام لبيع الكتب بثمن بخس على رصيف سوق للسلع الرخيصة والمستعملة في دمشق.
بعد عام، غادر بعض أمناء المكتبات سوريا إلى تركيا. إلا أن معضماني بقي في إدلب، حيث كانت الحياة صعبة حتى بعد إعلان وقف إطلاق النار في مايو 2017. استقر القلق بشأن مستقبل غير مؤكد رغم الاريتاح الذي جلبه مشهد الهدنة. في البداية تم الترحيب بنشطاء داريا كأبطال، عقبها أصبح نشطاء داريا محبطين. وقال المعضماني: “أردنا تجسيد طريق ثالث، لإظهار أن البديل للنظام والدولة الإسلامية ممكن”.
شعرت أنه لم يعد هناك هدف محدد للمقاومة. حيث تتنافس عشرات الفصائل والمجالس المحلية على السيطرة. كان هناك أيضًا خوف من أن يقوم النظام بهجومه الأخير على هذه المدينة. إن المعقل الوحيد المتبقي للمعارضة سيكون مسرح المعركة الأخيرة ضدنا.
ومع ذلك، أراد معضماني أن يبقى متفائلاً. أراد الاعتقاد أن ليلة الشعب السوري الطويلة ستعقبها ولادة جديدة. في أي شكل؟ لم يكن يعلم. وفي غضون ذلك، أطلق مكتبة متنقلة لأطفال إدلب.
المصدر: الغارديان