#########

العدالة والمساءلة

التسول شمالي سوريا.. مهنة ثانية آثارها خطيرة هل تبررها الحاجة؟


علي دريزي 35 عام مهجّرٌ من ريف حلب الجنوبي، يقيم حالياً في مخيم عشوائي شمال مدينة إدلب، لكنه يقصد أسواق مدينة إدلب بشكل دائم، حاملاً بيده وصفة طبية قديمة، تتضمن أسماء أدوية "دائمة" لوالدته المريضة، طالباً من المارة مساعدته في إكمال ثمن الدواء.

24 / تشرين ثاني / نوفمبر / 2022


التسول شمالي سوريا.. مهنة ثانية آثارها خطيرة هل تبررها الحاجة؟

*مع العدالة- المصدر: تلفزيون سوريا | فراس الرحيم


انتشار التسوّل وازدياد أعداد المتسولين، ظاهرة لا تخطئها العين في مدينة إدلب شمال غرب سوريا، يحتاجُ المرءُ عشر دقائق فقط، يسيرُ خلالها من دوار الكرة الأرضية، عبر ساحة الساعة، بالغاً سوق الصاغة، ليرصد الظاهرة على أرض الواقع، متبيناً مدى تفشيها، بسبب العدد المرتفع للمتسولين ضمن مسافةٍ لا تتجاوز 500 متر.

ابتكار أساليب جديدة للتسول

عماد حواري 57 عام، مهجر من محافظة حمص، يملك معمل “بلوك” ومنشرة رخام في إدلب، أكّد لموقع تلفزيون سوريا أن أعداد المتسولين من النساء والأطفال تضاعفت بشكل كبير، حتى أنهم باتوا لا يكتفون بالوجود في الأسواق والساحات، بل يدخلون المنشآت الصناعية ومشاغل الخياطة ومكاتب المنظمات، وتابع “أكثر من عشرة متسولين يقصدون معملي يوميا”.
ظهرت هذه الزيادة مع بداية هذا العام، بسبب انخفاض سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار الأميركي، فارتفعت الأسعار نتيجة ذلك، بنسبة فاقت حتى فرق سعر الصرف عدة مرات، مما جعل أجور العمال عاجزةً عن سداد ثمن ما تحتاجه أسرهم.

وأضاف عماد:” ليس الخطر بازدياد أعداد المتسولين فقط، بل هناك أمر أكثر خطورة، يتمثل بظهور شبان متسولين، لا يشتكون من أي مرض يمنعهم من العمل، وبسبب استهجان مجتمعنا لنموذج الشاب المتسول، ابتكر هؤلاء الشباب أنماطا في استجداء الناس، ومن تلك الأنماط حالةٌ انتشرت في مدينة إدلب مؤخراً، شابٌّ يدفع دراجة نارية نفد وقودها، متجولاً على المحال التجارية والمعامل، وكلهم يزعمون حضورهم من أمكنة بعيدة، و يريدون ثمن وقودٍ الدراجة فقط، ليتمكنوا من العودة لأسرهم!!.

وختم عماد حديثه:” ومن الحالات المنتشرة أيضاً، شبانٌ يحرصون على ارتداء ثياب أنيقة، يطلبون المال من الناس، وفي كل مرة يؤكد أحدهم أنه ابن نعمة ومقتدر مالياً، لكنه أضاع ماله، أو تعرض للسرقة، بالإضافة للأساليب القديمة المعهودة كادعاء أحدهم إصابته أو إصابة أحد أفراد أسرته بمرض خطر يتطلب علاجه مبالغ ضخمة”.

شمالي سوريا.. التسول كمهنة ثانية

علي دريزي 35 عام مهجّرٌ من ريف حلب الجنوبي، يقيم حالياً في مخيم عشوائي شمال مدينة إدلب، لكنه يقصد أسواق مدينة إدلب بشكل دائم، حاملاً بيده وصفة طبية قديمة، تتضمن أسماء أدوية “دائمة” لوالدته المريضة، طالباً من المارة مساعدته في إكمال ثمن الدواء.

يقول علي لموقع تلفزيون سوريا: “ثمن الدواء ثلاثمئة ليرة وعليّ تأمين الدواء مرتين في كل شهر، أسرتي مكونة من ثمانية أفراد، احتاجُ عشرين ليرة يومياً لشراء خبز يكفيهم، بينما يبلغ الأجر اليومي للعامل في مجال البناء أو الزراعة ثلاثين ليرة تركية فقط، وهو مبلغٌ لا يلبي متطلبات أسرتي، حتى لو عملتُ طوال الشهر، وهذا غير متاح، فبالإضافة لأيام الجمع هناك أيام لا عمل فيها”.  

واستطرد:”لا يراعي أبناء الفقراء أهلهم، فهم لا يستغنون خلال أيام العطلة عن الطعام والدفء والدواء، وأحياناً يتجرأ أطفالي على طلبات غريبة كالفاكهة والحلويات والأقلام والدفاتر، لذلك فضّلتُ التسوّل على رؤيتهم جائعين، بل إنّ من حقهم تذوق الفاكهة والحلويات أحياناً، ككل الاطفال في هذا العالم”.

“أنا أتسول كي أحفظ كرامتي”

في الموعد ذاته كل يوم، بعد أذان الظهر، تصل حسنة وأطفالها الثلاثة إلى منطقة السوق في مدينة إدلب، لينتشروا فور وصولهم، فكلٌّ منهم يعرف قطاعه الذي يتسول فيه، اختارت حسنة لها ولابنتها ذات السنوات العشر، أبواب محلات الصرافة في سوق الصاغة، بينما يغطي الولد ذي الأعوام الأحد عشر، قطاع الساعة-شارع الخمارة.

حسنة /اسم مستعار/ 32 عاما، مهجرة، حسب تعبيرها، من بلاد الله الواسعة، تجهل مصير زوجها، وترفض الخوض في تفاصيل اختفائه، أكدت حسنة لموقع تلفزيون سوريا أنها لجأت للتسول باعتباره أهون الشرور، فقد رفضت الزواج خوفاً على ولديها من زوج الأم، كما رفضت مبدأ العمل خوفاً على نفسها ثم على طفليها، اللذين ستضطر لتركهما وحيدين في المخيم إن التحقت بأي عمل، وهذا حال معظم النساء والأطفال الذين ينتشرون في الأسواق والطرقات.

ختمت حسنة حديثها لموقع تلفزيون سوريا: “قصدتُ في البداية الكثير من المنظمات والجمعيات الخيرية، فكان جوابهم جميعاً: `أنتِ تستلمين سلةً غذائية كل شهر`، فأي أسرة تكفيها السلة الغذائية؟ ثم دفعت بي الحاجة إلى هذا الأمر، طلب المال من الناس أمرٌ مهين ومؤلم، بكيتُ كثيراً في الأيام الأولى، وبكى أطفالي معي، لكننا اعتدنا الأمر فيما بعد، هناك طريقة تجلب لي الكثير من المال، حتى السرقة أسهل بكثير من الوقوف وتوسّل الخلق لساعات، لكني أرفض إطعام أطفالي من مال حرام وشرفي أغلى من روحي”.

آثار صحية ومجتمعية خطيرة

د.علي الجمعة أخصائي في طب الأسرة ورأب الفجوة النفسية والرعاية الصحية الأولية، أكّد في حديثه لموقع تلفزيون سوريا أنّ الآثار السلبية لظاهرة التسول لا يمكن حصرها في عدة أسطر، فهي تطال النواحي الصحية والأخلاقية والأمنية في المجتمع، ولا تقتصر على الشريحة التي تمتهن التسول.

يقول الدكتور علي: “تبدأ المخاطر بالأمراض الجلدية والتنفسية وأمراض المعدة التي تصيب المتسولين، نتيجة عدم اهتمامهم بالنظافة الشخصية، بعض هذه الأمراض معدٍ، ونتيجة احتكاك المتسولين ببعض الأفراد، تنتقل هذه الأمراض لشرائح واسعة من المجتمع، ثم إن الظروف الأسرية والتربوية لهذه الشريحة مناخٌ ملائم للمخدرات، تعاطياً وترويجاً، فهم يقتربون من الجميع دون أن يثيروا أي ريبة”.

وأضاف أيضاً “يلجأ بعض المتسولين لأسلوب الإلحاح الشديد، مما يدفع ببعض الناس لتعنيفهم في سبيل التخلص من إلحاحهم، تعنيف لفظيّ وجسديّ، يشمل حتى الأطفال والنساء، تكرارُ مثل هذا الأمر يولّدُ في قلب هؤلاء المتسولين، كراهيةً للمجتمع بأسره، بالإضافة لاحتمالية الوقوع في شر الرذيلة والدعارة، بسبب مناخ الفوضى وحرية التنقل وانعدام الرقابة الأسرية”.

ويحذر قائلا: “إذا قاطعنا هذه الكراهية المتراكمة، مع المخدرات والجهل والدعارة والشذوذ وانعدام التنشئة الأخلاقية السليمة، سندركُ أيّ خطرٍ يشكله هؤلاء على أنفسهم ثم على صعيد المجتمع بأسره، بالإضافة لأمور أخرى كثيرة، كاختطاف هؤلاء الأطفال من قبل عصابات بيع الأعضاء، أو من قبل العصابات المتطرفة التي تجدُ ضالّتها في أولاد الشوارع”.