#########

العدالة والمساءلة

ثورةُ الحرية السورية.. أفكار وتأملات في المعنى والمغزى (11)


في الخامس والعشرين من آذار 2014، لجأت امرأةٌ سوريّة، إلى الفعل الذي لجأ إليه ملهِم ثورات "الربيع العربي"، التونسيّ محمد البوعزيزي، بإضرام النار في الجسد إضراماً احتجاجياً. الفعل الذي هو في الآن عينه، ردّ فعلٍ على قهر متعاظم مُرافِق لإحساس متعاظم بالمهانة.

28 / أيار / مايو / 2021


ثورةُ الحرية السورية.. أفكار وتأملات في المعنى والمغزى (11)

 

*مع العدالة | علا شيب الدين

 

نشرت فصول هذا الكتاب بموافقة الكاتبة

(11)


صمتان قاتلان ونخبوية متهافتة

1

بعد يوم واحد من وقوع مجزرة الحولة في ريف حمص، التي ارتكبتها قوات النظام و”شبّيحته”، وقضى فيها البعض ذبحاً بالسكاكين وحراب البنادق في 25 أيار 2012؛ وزّعنا أنا كاتبة السطور وزميلاتي، على بعض الناس في أحد الشوارع بمدينة السويداء، صوراً لبعض ضحايا تلك المجزرة من الأطفال، مقرونةً بسنابل قمح طبيعية. سبعُ صبايا كنّا، وكانت الصور، التي وزّعناها بقلق العارف وهو يشقّ عصا الطاعة أنه بلا سندٍ اجتماعيّ، مرفَقةً بعبارة “بأيّ ذنب تُذبَح براعم المستقبل؟! سوريا تنزف… وصمتكم يقتلنا”.

”     الصمت القاتل” إذاً، كان المقصود من خاتمة العبارة التي تلمّح ولا تصرّح بضرورة الثورة عليه، وبأهمية التحاق جارة درعا، مهد ثورة الحرية والكرامة، بركب الثورة، إضافة طبعاً إلى الاحتجاج الصريح على المجزرة المذكورة. الصمت اللاأخلاقي، المهادن، المتواطئ، القاتل، هو نفسه الذي طالما دعا الثائرون والثائرات في المدائن والبلدات السورية المختلفة، إلى الخروج عليه.
لم تكن الدعوة موجَّهة إلى بعض الداخل الصامت صمتاً قاتلاً فحسب، بل أيضاً إلى العالم القاتل بصمته، الشاهد على مذبحة العصر السورية دونما اكتراث، وقد سُمِّيت إحدى الجُمعات “صمتكم يقتلنا” 29 تموز2011. غير أن ما يثير الاستغراب خلال مسيرة الثورة، نتوءُ اصطلاحات من طراز “الشرفاء الصامتون” يرددها من دون تمحيص، بعض الثائرين أو المعارضين من غير الراغبين في أن يتكلّم نظراؤهم عن تجاربهم الخاصة وسِيَرهم الثورية، أو ممن يعتقدون أن كلام المرء عن تجربته الثورية هو بالضرورة، تبجّح لا يليق بالثائر “المتواضع”. لكن إذا كانت معاداة “التبجّح” مشروعة، فهل معاداة الكلام مشروعة؟ ألم يكن منع الكلام واحداً من الأسباب المهمة التي أفضت إلى الثورة؟ أليس من شأن منع المرء من الكلام عن تجربته الثورية الخاصة، أن يطمر تجربة قد تكون ثرية وفيها ما قد يفيد وينمّي ويطوّر؟ ثم، مَن ذا الأجدر في التعبير عن التجربة الشخصية إن لم يكن صاحب التجربة نفسه، وخصوصاً أن ما من أحد يمثّل أحداً أو يتكلم باسم أحد إلا على سبيل التضليل والوهم والخداع؟ ترى كيف ستتعرّف الأجيال المقبلة إلى تجارب الأسلاف الثائرين في ثورة لا نجانب الصواب إن قلنا إنها واحدة من أهم الثورات التي مرّت على التاريخ الإنساني، بكل ما يعتورها من غرابة وفرادة وصبر واستبسال وغير ذلك؛ ما لم يتكلم الثائرون عن يومياتهم في الثورة وتجاربهم الخاصة شفاهةً أو كتابةً وبأيّ طريقة يرونها ملائمة، على الأقل من باب التوثيق؟

     الصمت الذي يعتقده البعض شرفاً، قاتل إذاً، من حيث هو دفن للحظة تاريخية، لتجربة حيّة ليس عدلاً أن تُدفَن حية وتموت ولا يدري بها أحد. من غير المفهوم وغير المنطقي أن تنتشر مقولة “الشرفاء الصامتين” حتى تصير بمثابة مثلٍ دارج، فالصمت أحياناً يكون شكلاً من أشكال الاضطهاد المعنوي. مثلما هو أحياناً أخرى شكل من أشكال البلاغة. يُلاحَظ هنا، أن الصمت يجري تسييسه وفقاً للمصالح والأهواء والأمزجة، فهو “قاتل” لمَن لا يفيد منه، و”شريف” لمَن يرى فيه منافسةً مثلاً، فيُنتقَص أو يُنقَض أو “يُجتهَد” فيه. على ضوء التسييس هذا، يمكن مثلاً استيعاب ما طالبَ به، أحد “المحللين” ذات إطلالة على إحدى الشاشات، في شأن “منعِ” الناشطين الميدانيين الإعلاميين من الكلام في السياسة، أو تقديم تحليلات سياسية، كون هذا “مِش شَغْلِتْهم”، ضارباً عرض الحائط بما اندلعت من أجله الثورة أصلاً، لعل أهمّه ربما، تحرّر الناس جميعاً من الأميّة السياسية، واستحالتهم جميعاً مواطنين أحراراً، لديهم آراء في شأن بلدهم، لا يهابون التصريح بها أو المشاركة السياسية الفعّالة استناداً إليها، بعد عقود خلت من مستمعٍ لرأيٍ يبديه راءٍ أو نقضٍ يسوقه ناقض. “ليس مُهمّاً أن تكون أفكارنا صحيحة. المهم أن ننتج أفكاراً. ألاّ نتوقف عن الإنتاج”. على ما جاء في كتاب “حوارات” لـجيل دولوز وكلير بارنيت.
إن شئنا أن نستطرد، فمن شأن ثقافة منع الكلام، السائدة، المتجذِّرة، التي طالما نكّلت بـ”المتكلمين”، بشكل يعكس تخوّفاً شديداً من الكلام، وخصوصاً أن الكلام يختلف عن اللغة، كون هذه الأخيرة، عامة، مضبوطة، وتخضع لقواعد صارمة وحاسمة. من شأن ثقافة كهذه، إنتاج أشخاص يهابون التعبير عن أنفسهم وتجاربهم الشخصية بحرية، بصيغة المتكلِّم، ربما خوفاً وهرباً من رقابة الآخرين وأحكامهم ومعاييرهم، فيسيطرون على كلامهم، متجاهلين ربما بذلك نداءاتهم الداخلية، مضيفين إلى رقابة الآخرين رقابةً مضاعَفة، الرقابة على الذات، وهي الأخطر. هكذا، يصير التعبير عن الأنا، وعن أخصّ الخصوصيات وأقربها إلى الذات، بصيغة الغائب، فيكتب أحدهم مثلاً، معبِّراً عن نفسه لكي يُظهر للآخرين ربما أنه موضوعي “كاتب هذه السطور شعرَ بكذا أو فعلَ كذا أو قالَ كذا. بدلاً من أنا شعرتُ، أنا فعلتُ، أنا قلتُ”. أو يصير أحد آخر، مغترباً هارباً إلى “الشيء في ذاته”، إلى التجريد، ظانّاً نفسه بذلك “مترفِّعاً” عن “الصغائر”، أو قد يتخذ من الإغماض الدائم نهجاً، خوفاً من تبعات الكلام أو الكتابة الصريحة عن الواقع وتسمية القتلة والأشياء القاتلة بمسمياتها، ظانّاً روحه أغلى من أرواحٍ بُذلت ثمناً لكلمة واضحة جلية لا لبس فيها.

2


هناك تصوّر مغلوط، ليس عاماً بكل تأكيد، يتوهّم أن الحراك النسبيّ المحدود الثائر في مناطق الأقليات، “أرقى” من نظيره في بقية المناطق السورية الثائرة بالمعنى الحقيقي والأصيل والعميق للمفردة. وقد ذهب “الغلوّ” بالبعض إلى حدّ وصف الحراك في بعض المناطق التي تسكنها أقليات دينية كالسويداء، بـ”النخبوي”. أما السبب المباشر لهذا الوصف غير اللائق من وجهة نظرنا، أن غالبية المعارضين أو الثائرين – وهم أقلية وسط أغلبية مؤيِّدة أو محايدة- من حمَلة الشهادات الجامعية أو من ممتهني وظائف ذات مكانة اجتماعية “مرموقة” كالهندسة والطب والصيدلة والمحاماة والتدريس.
يدفع هذا التعاطي “النخبوي”، الاصطفائي الانتقائي، والفوقي مع الواقع والناس، إلى سؤال كالآتي: هل حصول المرء على شهادة جامعية يجعله كائناً نخبوياً لا ينتمي إلى الناس، إلى الشعب؟! حدّثني مرّة سائق تاكسي، عن أشياء تجرح شعوره، منها “الاعتقاد الواهم بأن “جميع” السائقين “زعران”، وقال إنه لم يشارك في التظاهرات، لكنه كان يفرح كلّما التقى بتظاهرة تهتف للحرية، متكلماً في دخيلة نفسه “شو أَنِي (أنا) ما بدّي حرية يعني؟ أَني كمان بدّي حرية”، وأفاض في الحديث عن انتهازية الشبّيحة، حتى أنه لم يستبعد أن يكون هؤلاء أوّل مَن سيحمل علم الثورة ذا الخط الأخضر والنجمات الثلاث إذا سقط النظام”.

يبدو أن من الواجب الأخلاقي والإنساني هنا، تذكير القائلين بـ”النخبوية” المتهافتة تلك، بأن مَن فجّر ثورة الحرية في سوريا، هم أطفال كانوا لم ينتهوا بعد من مرحلة التعليم الابتدائي أو الأساسيّ، وبأن بعض حمَلة الدكتوراه في السلطة الأسدية وغيرها ليسوا سوى مجرمين وقتلة.
يشي الاصطلاح، أعني “الحراك النخبوي”، ببنيةٍ كامنة في نمطِ تفكير، جاهزة دوماً للعمل على المنوال نفسه، إذ الاصطلاحات تعود إلى مهدٍ وموئل، فهي لا يمكن أن تطفر فجأة من الفراغ. فإذا نظرنا من زاوية سوسيو/ثقافية، لربما تكشّف لنا إلى أي حد يتقاطع الحديث عن نخبوية الحراك الثائر في منطقة ما وأفضليته على غيره في مناطق أخرى من البلد نفسه، مع الحديث ذي الطابع “الباطني الجوّاني”، عن أفضلية هذا الدين أو تلك الطائفة على غيرهما. لا تفوتنا هنا الإشارة إلى تعبيرات لغوية خطيرة من مثل “ديننا أشرف دين”، أو “مجتمعنا أحسن مجتمع” ومن وراء ذلك الكثير من الحوادث والوقائع التي تعكس تمحوراً حول الذات.
يلجأ البعض ممّن يريدون حصر “الرقي” في حراك ثوري بعينه، أو في أشخاص بعينهم، أو في منطقة بعينها، إلى استحضار أمثلة غاية في الرومنطيقية، كسلسلة الاعتصامات التي حُملت فيها الشموع بالسويداء ترحّماً على أرواح الشهداء، في بواكير الحراك الأولى. بيدَ أن ما يغيب ربما عن البال هنا، أن تلك الاعتصامات كانت في معنى ما بمثابة ردّ فعل ثوري جميل ومهم، يتفاعل مع فعل ثوريّ أصيل ملازِم للورد والماء والزيتون والحمام أيضاً، حصل في مناطق سوريّة أخرى تسكنها “أكثرية”، وكان وقوده من أرواح الثائرين ودمائهم

     مَن الأجدر إذاً بنعته بـ”الرقي” في هذا المثال البسيط – إن كان لا بدّ من النعوت ولا مفرّ من ذلك- ردّ الفعل أم الفعل؟ خصوصاً عندما لا نُسقط من الاعتبار، أن نظام الأسد عمد إلى التنكيل بالناس في المناطق التي ثارت بكليتها ثورة حقيقية، أبشع تنكيل، بينما ظلّ حريصاً أشدّ الحرص على أن يكون التنكيل مخفَّفاً في شأن أي حراك ثائر في مناطق الأقليات التي لم تثر بشكل حقيقي، مواظِباً بذلك على تنفيذ مخططٍ طائفيّ، إثنيّ، مَناطقيّ، وعنصريّ، يسعى إلى تمزيق النسيج السوري الوطني، الذي بُدِئ الاشتغال عليه منذ اندلاع الثورة، بل قبل ذلك بكثير، طوال عقود حكم آل الأسد ومُلكهم.

     في العودة إلى بعض التفاصيل في المثال المطروح عن اعتصامات الشموع، فقد جُبهَ مثلاً أحد هذه الاعتصامات في ساحة سلطان الأطرش، الذي لم يكد ينهي خمس دقائق من الوقت، بمجموعة من “أمناء” الفِرَق الحزبية (حزب البعث) وموجِّهين “تربويين” وعناصر “أمن” احتلّوا مكان المعتصمين، وانبرى هؤلاء يردّدون شعار “يا بشار لا تهتم/ عندك شعب بيشرب دم”، في الوقت الذي كان المعتصمون آنذاك، وكنتُ أنا كاتبة السطور، معهم، نردد جميعاً نشيد “حماة الديار” وبعضهم الآخر، وأنا منهم أيضاً، يردد “حرية حرية”، حاملين الشموع وأغصان الزيتون. إلا أن الشعار المذكور لم يتخطَّ في المحافظة المذكورة حدود اللفظ، بالمعنى الصريح العلنيّ المستفز، فقد قُتل مثلاً، العديد من الشباب المعارضين المدنيين السلميين، لكن قتلهم كان مستتراً، انطوى عن الأنظار وانزوى عن الأفهام، كالتصفية تحت التعذيب في ظلمات أقبية المخابرات.

      هذا من جهة النظام، أما من جهة المجتمع، فكان هناك ربما ما يشبه اتفاق تهدئة ضمنيّاً لا واعياً، غير متفق عليه صراحة بين الموالين في المحافظة والمعارضين. فبدا المشهد في عمومه، درامياً وتراجيدياً في آن واحد، لم يُرد فيه المعارِض المعارَض حتى من أقرب الناس إليه، العارف أنه الثائر بلا ثورة، التصعيد في الثورة في معنى ما. كما لم يُرد الموالي في المقابل، التصعيد في الموقف المؤيد. وعليه، ظلّت الأمور هادئة نسبياً حتى اللحظة. بطبيعة الحال، تبقى هناك تفرّعات وتفصيلات واستثناءات وجزئيات لهذا المشهد العام الذي يمور برؤى ووجهات نظر مختلفة وشائكة ومعقدة.
لكن الشعار نفسه، جرى تطبيقه تطبيقاً حرفياً واقعياً مستفزاً ومهيناً في المناطق السورية الثائرة ذات الغالبية السنيّة، وحصل بالفعل “شرب الدم”! فالمجزرة التي وقعت يوم 10نيسان 2013 في مدينة الصنمين بدرعا، على سبيل المثال لا الحصر، وراح ضحيتها العشرات بينهم نساء وأطفال قضوا ذبحاً بسكاكين “الشبّيحة” وفق ناشطين ميدانيين هناك، حتماً لم يقع مثيلها في المحافظة الجنوبية المجاوِرة، أي السويداء. على “ضوء” وقائع كهذه، تغدو قراءة اصطلاحات من مثل “الرقي” و”الحراك النخبوي” أكثر واقعية، وربما يتبيّن أن التقييمات ذات الشأن والمعنى، هي تلك التي تأتي بعد التجربة لا قبلها.

     إن الانتباه الدائم إلى كون الماهية الإنسانية واحدة، ومداومة النظر في اللغة المستعمَلة والسلوك الممارَس، والمكاشفة، ذلك كله وما يشابهه، قد يكون بديلاً آمناً من الاستتار المنذِر بعواقب وخيمة. لذا وجب نقد اصطلاحات من مثل “شرفاء صامتين”، “حراك نخبوي” وغيرهما من تعبيرات لغوية لا يصحّ أن تكون بمثابة هوية ثابتة، ناجزة، ودامغة لمجتمع ما أو فرد ما أو جماعة ما.


15 آذار..18 آذار

 

1

في الخامس والعشرين من آذار 2014، لجأت امرأةٌ سوريّة، إلى الفعل الذي لجأ إليه ملهِم ثورات “الربيع العربي”، التونسيّ محمد البوعزيزي، بإضرام النار في الجسد إضراماً احتجاجياً. الفعل الذي هو في الآن عينه، ردّ فعلٍ على قهر متعاظم مُرافِق لإحساس متعاظم بالمهانة.

     كانت المرأة محترقة معنوياً على ما يظهر، بلجوء قسري إلى لبنان، قبل لجوئها إلى النار في ذاتها، لتحترق جسدياً وكلياً. أضرمت المرأة النار في جسدها أمام أعين أطفالها الأربعة بطرابلس شمال لبنان، قرب مركز تابع للأمم المتحدة، احتجاجاً على شطب اسمها، وعدم تمكنها تالياً من الحصول على مساعدات إنسانية، وفق مداولات إعلامية. قبل عامين من الواقعة الأخيرة هذه، أيضاً أضرم حسن علي عقلة، النار في جسده، في مدينة الحسكة شمال شرق سوريا، يوم 26 كانون الثاني 2011، أمام الناس، احتجاجاً على قهر النظام الأسدي، حسبما رُويَ.

    في أول دعوة علنية للتظاهر في موقع “فايسبوك”، اعتُبر الخامس من شباط 2011 “يوم غضب الشعب السوري”. حال الخوف الشديد، على الأرجح، دون استجابة الدعوة وقتذاك. لكن بتاريخ 17 شباط 2011، اشتعلت تظاهرة قُدِّر عدد المشاركين فيها نحو 1500 شخص راحوا يهتفون: “الشعب السوري ما بينذل”، بُعيدَ ضرب شرطي أحد أصحاب المحال التجارية في منطقة الحريقة في دمشق، ما يُذكّر أيضاً باحتجاج البوعزيزي على صفع الشرطية له. جاء وزير داخلية النظام الأسدي آنذاك، إلى موقع التظاهرة وأخذ يخاطب الناس بعبارات من قبيل: “عيب هاي اسمها مزاهرة (مظاهرة)”. مرّت عشرة أيام على تلك التظاهرة، قبل أن تعتقل الأجهزة الأمنية في محافظة درعا جنوب سوريا، يوم 27 شباط 2011 الأطفال الآتية أسماؤهم: أحمد شكري الكراد، محمد أيمن منور الكراد، معاوية فيصل صياصنة، سامر علي صياصنة، أحمد جهاد أبازيد، مصطفى أنور أبازيد، نضال أنور أبازيد، أكرم أنور أبازيد، بشير فاروق أبازيد، نايف موفق أبازيد، أحمد ثاني رشيدات أبازيد، أحمد نايف الرشيدات أبازيد، نبيل عماد الرشيدات أبازيد، محمد أمين ياسين الرشيدات أبازيد، عبد الرحمن نايف موفق أبازيد، عيسى حسن أبو القباص، علاء منصور أرشيدات، ويوسف عدنان سويدان. هؤلاء جميعاً، اعتقِلوا وعُذِّبوا بشتى صنوف التعذيب، منها سحب الأظفار، بعدما كتبوا على جدران مدرستهم بلغة الربيع العربي: “الشعب يريد إسقاط النظام”، وبروح اللعب الطفولي السوري الخالص: “يسقط بشار الأسد”، “إجه عليك الدور يا دكتور”. العبارات التي أكّدها بعد مرور عامين، لصحيفة “ميل أون صنداي” البريطانية التي نشرت صورته، بشير أبازيد، صاحب فكرة الكتابة على الجدران بالغرافيتي، وكان عمره آنذاك 15 سنة.

    بدأ بعض المعتقلين السياسيين في سجن دمشق المركزي، بتنفيذ إضراب مفتوح عن الطعام يوم 8 آذار 2011، إلى حين غلق ملف الاعتقال السياسي، بعدما أصدر بشار الأسد عفواً رئاسياً عاماً عن كل الجرائم المرتكبة قبل 7 آذار 2011، خلا من أي إشارة إلى معتقلي الرأي والسياسيين. في 15 آذار2011 شارك العشرات في تظاهرة في سوق الحميدية الشهير بالعاصمة دمشق، وجبهت بعنف. كان الشعار الجديد الأبرز حينذاك “الله سوريا حرية وبس” آخذاً في الصعود والرواج.

     في اليوم التالي، أي في 16 آذار2011 نفّذ نحو 150 شخصاً اعتصاماً أمام مبنى وزارة الداخلية بدمشق، كان بينهم أستاذ الفلسفة والمفكر طيب تزييني. طالبوا بإطلاق المعتقلين السياسيين، فواجههم عناصر أمن النظام الأسدي بعنف شديد، واعتقل البعض منهم، وسُحبت بعض النساء المشاركات في الاعتصام من شعورهن في الشارع. إحداهنّ محامية وناشطة في مجال حقوق الإنسان، حدّثتني أنا كاتبة السطور، ذات لقاء عفويّ، عن إضرابهنّ عن الطعام قرابة أسبوع، بعد اعتقالهنّ يومذاك، وقالت إن بعض العناصر الأمنيين الذين قابلَتْهم، كانوا يعتقدون الـ”فايسبوك” جهازاً كالهاتف النقّال أو الكومبيوتر، فكانوا يطلبون من المعتقلين إخراج الـ”فايسبوك”، باعتباره أسّ “المؤامرة”.

     في 18 آذار 2011، انطلقت تظاهرات حاشدة، مدنيّة سلمية، في درعا جنوب سوريا، تحت اسم “جمعة الكرامة”، احتجاجاً على الاعتقال والقمع والفساد، وتنديداً بفساد رجال النظام وإجرامهم، من مثل قريبَي الأسد، رامي مخلوف، وعاطف نجيب رئيس فرع الأمن السياسي بدرعا، الذي اعتقلَ التلاميذ الأطفال المذكورين، ثم رفضَ تنفيذ مطلب ذويهم في إطلاقهم، مجيباً: “إنسوهن وجيبو غيرهن”. قابلَ عناصر الأمن الأسدي تلك التظاهرات بالرصاص الحيّ مباشرة، ما أدّى إلى سقوط شهداء وجرحى، كان حسام عياش ومحمود جوابرة، أول شهداء الحرية والكرامة في ثورة السوريين.

     قبل أن تمتد التظاهرات المحتجّة الحاشدة، لتعمّ غالبية المناطق السورية، التي بقيَت صامدة بسلميتها ومدينيتها في مواجهة عنف النظام الأسدي وبطشه شهوراً طويلة، كانت قد امتدت من قبلُ إلى بلدات من مثل جاسم ونوى والشيخ مسكين والصنمين وإنخل المجاورة لمدينة درعا، وانطلقت أيضاً تظاهرات حاشدة من أمام “الجامع العمري” الكائن في حي الروضة بـ”درعا البلد”. الجامع نفسه، الذي نفّذ فيه الأهالي اعتصاماً سلمياً، طالبوا من خلاله بالإفراج عن المعتقلين السياسيين، وبمكافحة الفساد وإلغاء حال الطوارئ المعمول بها منذ عام1963. استمرّ الاعتصام في الجامع، إلى أن اقتحمه عناصر الأمن الأسدي فجر الأربعاء 23 آذار 2011، وأطلقوا النار على مئات المعتصمين في داخله، ما أدى إلى سقوط شهداء وجرحى. خلال اليوم نفسه، خرج الألوف من شمال درعا في تظاهرة اتجهت نحو الجامع العمري احتجاجاً على إطلاق النار فيه، فواجههم عناصر الأمن الأسدي بالرصاص الحيّ. طبعاً، بحسب صور وفيديوات ومعلومات، واصلَ ثائرون وناشطون ميدانيون توثيقها منذ البداية.

     يجدر هنا التعريج على شخصية ثائرة، مؤثرة، قريبة من الناس في درعا، ولها مكانتها واحترامها لدى غالبيتهم، أي الشيخ الضرير البصير، أحمد صياصنة، وهو من مواليد درعا البلد 1945. كان خطيباً في الجامع العمري منذ عام 1978. مُنع من الخطابة في الجامع نفسه أكثر من مرّة، آخرها في عام 2008. ظلّ ممنوعاً من الخطابة حتى 18 آذار 2011، حيث أعيد بناءً على طلب أهالي درعا المحتجّين. استُدعيَ الصياصنة إلى الفروع الأمنية المختلفة، وهو شيخ حرّ لا ينتمي إلى أي حزب أو حركة أو جماعة أو هيئة. تعود معارضته للنظام الأسدي إلى سنوات طويلة قبل اندلاع الثورة. يُحكى أنه كان دائم السخط على الفساد والخطيئة والجريمة، من على منبر الجامع العمري وغيره.

     في 13 نيسان 2013 صوّر ناشطون ميدانيون، فيديوات تُظهر قصف قوات النظام مئذنة الجامع العمري، وهذه كانت أول مئذنة في بلاد الشام قاطبةً. الجامع الذي بناه الخليفة عمر بن الخطاب، المتمتّع، أي الجامع، بقيمة دينية وروحية وحضارية وتاريخية وأثرية، والذي أصبح بعد اندلاع الثورة، يتمتع إضافة إلى القيمة المذكورة، برمزية سياسية وثورية خاصة ومميَّزة بالنسبة إلى السوريين.

2

أمّا عن سبب العودة إلى ما قد يكون معلوماً، فهو جلبة الأحاديث التي تعيد إلى الأذهان سمّ الإيديولوجيا، والانشغال المحموم بما قد يتسبّب بالمزيد من التشقق والانفلاق، إذ ما انفكّ سجال يندلع كلّما ولجت الثورة عاماً جديداً. سجال دأب فيه البعض على ردّ الانطلاقة الفعلية للثورة إلى يوم 15 آذار 2011، بينما دأب البعض الآخر، وهم غالبية ساحقة، على رفض أن تكون الثورة قد “تفجّرت” قبل 18 آذار من العام نفسه. ففي حين يكون الطرف الأول قد انتهى من استقبال عام جديد للثورة، يبدأ الطرف الثاني باستقباله بعد ثلاثة أيام.

    المطروق آنفاً، الذي لم يتطرّق إلى تحرّكات سوريّة تضامنت مع الشعوب في بلدان عربية شهدت “ربيعاً ثائراً” قبل سوريا؛ منعاً من التشويش على ما هو احتجاج خالص ضد نظام الأسد؛ يوضّح أن واقعة أطفال درعا، قد بدأت في شباط قبل أن يهلّ شهر آذار، وأنها تسبّبت في سريان الغليان بين أهالي درعا، فجّر الموقف منها بعد أقلّ من شهر من وقوعها. تبيّن الواقعة نفسها، من جهة أخرى، أن التلاميذ الأطفال المذكورين، كانوا أول مَن أصابوا بسهام كلماتهم المحفورة على الجدران، الهدف الأخطر، رأس النظام، وبحدس طفولي مباشر، قرروا أن الإسقاط هو السبيل الأنجع للخلاص من نظام كهذا. لقد أشرقت أساريرهم أيّما إشراق، فأصابوا لبّ الكارثة مباشرة، بعذوبة فيّاضة، بلا تأتآت ولفّ ودوران، بلا تحليلات وحذلقات، فكانوا بذلك، روّاد الثورة في معنى ما. كانت كلماتهم المحفورة على الجدران، أشبه بحُلم تطاولَ فجاوزَ مداه، فالكلمات للفكر بمثابة الآلات للعمل. بينما سقف مطالب المعتصمين يوم 15 آذار، بعد مرور أكثر من أسبوعين على واقعة الأطفال تلك، كان الإفراج عن المعتقلين السياسيين. يوضّح المطروق آنفاً أيضاً، أن أهالي درعا، كانوا أوّل مَن خرجوا بالألوف إلى الشوارع محتجّين، واستمرّوا، حتى بعدما اجتاحت دبابات النظام ومدرّعاته مدينة درعا في 25 نيسان 2011، وقُطعت معظم الاتصالات عن المحافظة، وأوّل من قدّموا شهداء في سبيل الحرية والكرامة السورية.

****

لقد أقامت درعا البرهان، بنفسها، من نفسها، ولنفسها، على أنها مهد الثورة، لسنا مَن نقول ولا مَن نظن. لكن تبقى جينيالوجيا الثورة، أكثر من مجرّد متابعة “نشأة” و”تكوّن”، أو اقتصار على وصف أحداث ووقائع. إذ من المهم هنا، التساؤل عن الكيفية أو عن الصيرورة التي جعلت من لعب الأطفال الخالص مثلاً، لعبة إرادات متصارعة. من المهم رصد الانشطارات والتعارضات والاختلافات والانشقاقات والتباينات، والاستراتيجيات والتكتيكات. من المهم العودة إلى أصل الثورة باعتبارها بذرة نمت في عمق النقيض المستبِد المستعبِد نفسه الذي “زرعها” و”سقاها” من حيث لا يدري، لذا كان محقّاً عندما تصوّرها “مؤامرة خارجية”. إذ كيف يمكنه استيعاب نشأة الثورة ونموّها في داخله، وهو مَن لا يملك البصيرة المختصة بتبصّر الداخل/العمق/العتمة! الثورة باعتبارها تحرراً، تنشأ على ما يبدو، مع نشوء الديكتاتورية في الآن نفسه، ثم تظلّ “تصير” إلى أن يحين تفجّرها، فتصبح “الخارج” من “داخل” الديكتاتورية. في “قصة الحضارة”، يُحكى أن القهر انتهى إلى أن يكون ضميراً، والخوف تطوّر حتى أصبح حُبّاً.

3

كان في الإمكان آنفاً الحديث عن الأطفال كـ”مجموعة” كما درجت العادة، من دون ذكْر أسمائهم اسماً اسماً، غير أن لهذا التفنيد والتمييز غايةً من شأنها الحثّ على الكفّ عن التعاطي مع أولئك الأطفال وغيرهم ممن ثار من الشعب، باعتبارهم كتلة بشرية لا متمايزة. فـ”الحقيقة” الثورية هنا، وراءها “أفراد” أو “أشخاص”، “كثيرون”، متميزون لا تصحّ المبادلة بينهم، أعطوها قيمتها ومعناها، قبل أن يكونوا “مجموعة/مجموعات”. إلا أن البعض ينزع إلى محاباة لطراز معيّن من المعارضين أو الثائرين، أو لـشريحة و”طبقة” معينتين من الناشطين أو المشهورين باعتبارهم “أفراداً” أو “أشخاصاً”، في مقابل “حشود” أو “جموع” ثائرة غير ذات ملمح أو بال، ليست معروفة، وليس ضرورياً أن تُعرَف. هكذا، يصدر البعض إلى المسرح ويدخل البعض الآخر دائرة الظل والنسيان.

****

كثيرة هي الأقاويل التي نسمعها أو نقرأها هنا وهناك، تتحدث أن الثورة تشبه فلاناً، وأن فلانة هي الوجه الجميل لسوريا، وأن فلاناً يمثلنا، وغير ذلك من ترّهات الاختزال. عشرات ألوف الشهداء والمعتقلين والجرحى، وملايين اللاجئين والنازحين، وثمة مَن يقول، إن الثورة تشبه فلاناً أو فلانة!. إن الثورة في الواقع، تشبه كل مَن شارك فيها وانتمى إليها.

    تقف النظرة الديموقراطية للأشياء والوقائع والأحداث والأشخاص، موقفاً حذراً من الفرد أو الشخص، ذلك أن الأفراد قد يخطئون وقد يصيبون. لذا، ربما يكون لزاماً علينا أن نغلّب روح التعاون على منطق التنافس، وألا نعيد إنتاج “الزعامة” عبر تمييز “الفرد” والتقليل من شأن “المجموعة/المجموعات”، ولا نقول “حشداً/ حشوداً”. ينسحب هذا، على الخطاب التبجيلي الذي اعتادت الغالبية استعماله. فعلى مواقع التواصل الاجتماعي الافتراضي مثلاً، كثيراً ما نقرأ عبارات تفتقر إلى الحسّ النقديّ، من مثل: “تحية لـمفكر(نا) الكبير فلان، أو شيخ(نا) الجليل فلان”، تماماً كما يجري في واقعنا الاجتماعي. السؤال هنا: أيهما الأجدى، أن نتعلم من هذا المفكر أو ذاك، ننقد أفكاره سلباً وإيجاباً، نتفاعل معها بحيث نفكر نحن أيضاً، أم نبقى مسلّمين بأنه مفكر(نا)، يفكر عنّا، فنيسّر له أن يصبح “زعيماً” نسير خلفه كأتباع ومريدين؟ هناك “شخصيات” في الثورة تحوّلت “زعامات” ممنوعاً نقد ما يصدر عنها من أقوال أو أفعال تخصّ الشأن العام، فباتت مرتع استقطابات ونسجاً شللياً.

   ربما يكون السؤال الأمضى الذي يجب أن يظل قائماً: مَن يصنع التاريخ، الأفراد أم الشعوب والمجتمعات والحضارات، أم جدل العلاقة والتأثير بين الاثنين؟ وإذا كان في إمكان الفرد التأثير في ملامح جزئية من الأحداث العامة، فهل في استطاعته التأثير في الاتجاه العام للأحداث؟



   

__________

ملاحظة: نُشر هذا الموضوع في موقع “الحوار المتمدن” بتاريخ 12/11/2014، تحت عنوان “جينيالوجيا الثورة السورية”، باسم (ع.ش*)، وهو يمثل الحرفَين الأولين من اسمي الصريح أنا كاتبة السطور. كان ذلك لاعتبارات أمنيّة، بعد ما تم منعي بتاريخ 1 نيسان 2014 من مواصلة الكتابة عن الثورة ولها، من قبَل فرع الأمن العسكري بالسويداء التي كنت لا أزال مقيمة فيها.