لقد حطّم الشعب الثائر في سوريا، صنم "الدولة المتعالية"، إذ هو "العارف الأكبر"، بأن دولة "الصمود والتصدِّي، والمقاومة والممانعة"، لم تكن يوماً إلا دولة أصفاد كبَّلته طويلاً متصدِّيةً له ومقاوِمةً ضدّه وضدّ حريته وكرامته الإنسانية.
06 / حزيران / يونيو / 2021
*مع العدالة | علا شيب الدين
نشرت فصول هذا الكتاب بموافقة الكاتبة
(12) والأخير
المبحث الرابع:
في بعض ما تجلّى عن الثورة السورية
1– قتل الأب السوري
تفتّحت القوة المفكِّرة لدى شعوب “الربيع العربي”، لتعلن ضرورة “قتل الأب” في بلدانها، بالمعنى الذي ذهب إليه مؤسس التحليل النفسي سيغموند فرويد، كعملية رمزية من شأنها إحداث قطيعة مع الماضي، وقطع العلاقة النسليّة مع الأصل وإعلان الهوية، والخروج على نظام أبويّ تسلُّطيّ. وقد تجلّى هذا المعنى في شعارات عديدة من مثل: “الشعب يريد إعدام الرئيس”، ليدلِّل على أن “قتل الأب” هنا ربما يعني الانتقال إلى نظام ديموقراطي، أسّه ومنتهاه حرية الإنسان الفرد وكرامته، وقد ثارت ثائرة السوريين مثلاً، على كل ما من شأنه “حَيْوَنَة سورية”، من أجل “أنسنة سوريا”. ليست كتابة اسم البلاد بهذين الشكلين، عفواً. بل هو تعمّد يُظهر الفارق الكبير بينهما. فذات التاء المربوطة إنْ هي إلا حيوانة رُبطت طويلاً بحبل العائلة المالكة الحاكمة، حتى أمست “أسدية” صرفة. فيما ذات الألف الممدودة، الممشوقة، والمشدودة صوب السماء، هي نفسها الثورة الطامحة إلى الأنسنة والإنسان الحقيقي توقاً وشوقاً.
لما كان “الأب”، حافظ الأسد، قد حكم سوريا ردحاً طويلاً من الزمن، وظلَّ بعدما وافته المنية، “حيّاً” يحكم البلاد والعباد من قبره، إن جاز التعبير، فإن العقل في تفتُّحه الثوري اتجه أول ما اتجه إلى استئصال جذر الآن، أي إلى “قتل الأب” المؤسِّس لنظام لا تزال روحه (روح الأب) حيّة نابضة فيه. قد نجد في هذا التحليل تفسيراً للعنة الثائرين والثائرات التي انصبَّت على روح الأب كما في شعار: “يلعن روحك يا حافظ“، وتحطيمهم تماثيله في المدن والبلدات المختلفة، لعل أبرزها، إسقاط تمثاله الضخم وتهاويه على جبينه في وسط مدينة الرقة. وقد ترافقت عملية “قتل الأب” مع “الابن”، وفي هذه المرة سيكون الأب، أباً وابناً في آن واحد. إنه ابن حافظ، وأبو حافظ، بشار الأسد الذي ما انفكَّ المحتجّون يلعنون روحه أيضاً في إشارة رمزية إلى فنائه من حياتهم([1]). وما حَرْق صوره وتشويهها والسخرية المستمرة منه إلا تأكيد للرغبة الدفينة في “قتله”، ما يعني، في نهاية المطاف، نزع صفة “الخلود” عن “القائد الخالد”، ونزع “الألوهة” عن العائلة الحاكمة وردِّها لله، لله الأكبر، العالي، والمجرَّد، كما في شعار: “الله أكبر/ عالظالم”. نلحظ المفارقة عينها في ضعضعة الثورة مفهوم “الرئيس السيِّد”، وعلى سبيل المثال، ما كان ليتحدَّث “السيد” إلى الناس في ساحة الأمويين بتاريخ 11 كانون الثاني 2012، للمرة الأولى مذ تبوّأ الحكم بالوراثة مع مطلع هذا القرن، ومن دون ربطة عنق، مثلاً، لو لم تقوِّض الثورة ثنائية “السيد والعبد”([2]) التي جعلت من الإنسان “قرباناً” يفدي “بالروح والدم” الإله أو سيِّد البلاد الأعظم. بهذا تكون الثائرات والثائرين قد مهّدوا السبيل أمام نهوض كل أشكال الحرية، والمدنية. مدنية تعني فصل الله عن الأشخاص، كما فصل الدين والعسكر والحب والكره عن الدولة.
2– تفتُّح الفردية
مع تفتّح القوة المفكِّرة بانصرافها إلى “قتل الأب”، تفتّحت فرديّة تحرِّض على رصد الذات، وتأمّلها، فهي الآن تشعر وتفكر وتتبصّر وترفض وتقبل و… تريد. يبدو أن الصراع مع الأنا العليا الأبويّة، المتسلِّطة، كان أعمق من مجرد صراع ذي طابع مطلبيّ أو حاجاتيّ. فجوهريَّة الصراع هنا اتصلت بمكانة الإنسان وماهيَّة وجوده. إنه صراع غايته تفتيت نظام يساوي بين الناس مساواة سكونيّة، سديميّة، تحوِّل الأفراد إلى قطيع. الجدير ذكره، في هذا المقام، أن الفردية تفتّحت داخل الجماعة، واتفقت مع غاياتها، فانتقلت من الاهتمام بمصيرها الخاص إلى العناية بالمصير العام. فقد كان المرء صامتاً لعقود، وهو بنفسه جاهل، وفي السياسة لا يبالي، بيد أن هذا الانطواء الصامت الطويل الأمد مهّد لنشوب ثورة نيرانها ثنائيَّة الفعل، الحرق والإنارة، فبما أن الحرق فعلُ ترميد لصفحة الماضي، ماضي الاستبداد والفساد والاستعباد، فإن الإنارة فعلُ إشراق يشيع ثقافة التمرّد والاحتجاج التي قد تفضي إلى الديموقراطية، وتؤسِّس حياة حرة كريمة؛ لأن كل تعقّل وكل حياة عقلية ومعقولة تبدو مستحيلة ما لم يتم التسليم أولاً بحق الإنسان في أن يحيا حياة حرة كريمة. ألم يبدأ “الربيع العربي” باحتراق الجسد؟ ألم يكن لجوء محمد البوعزيزي إلى إضرام النار في جسده، حرقاً وإنارة في آنٍ واحد؟
3–عَود إلى الملموس
مع الإنارة، هبطت الشعارات الطوباوية المتعالية حول الصمود والتصدي، والمقاومة والممانعة، وحول الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة، وحول الحب المقدّس للوطن والأرض والحرية؛ لتتبدّل ماهيّاتها، فتصبح أرضيَّة، واقعيَّة، تلامس حياة المواطن وتعنيه في الصميم. وباتت الشعارات مع الثورة لغة تغيير. تغيير في طرائق التفكير، وأداة لصنع مفاهيم جديدة، وواقع جديد يتخذ من الجدل لا الخطابة وسيلة للتثقيف والتأديب. فالتربية الشكليَّة التي تعلّم أفكاراً اغترابيَّة تشرّد الإنسان عن موطنه، وعن تفاصيل عيشه واهتماماته السياسية، لا بد أن تضمحلَّ لتحلّ محلّها التربية العلميَّة التي تنفذ إلى لبّ الأشياء، وتحاكي الهمّ اليومي، وتشحذ العقل بالتأمّل المنعتق من التفسيرات الوهميّة للقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. التنسيقيَّات الميدانية التي تمخّضت عن الثورة، أو المجموعات والتنظيمات غير الحكومية التي شكَّلت نفسها بنفسها ونظَّمت عملها من أجل إغاثة الفارين من بطش النظام الأسدي بعدما قُصِفّت بيوتهم ودُمِّرت، أي النازحين مثلاً من محافظة أو محافظة إلى أخرى، ربما تكون نواة “مجتمع مدني” في طور التشكّل، مجتمع قد يكون له الدور الأكبر في الدولة الديموقراطية المأمولة مستقبلاً. للمرة الأولى وجد السوريّ نفسه متكلماً بنفسه عن نفسه ولنفسه، خصوصاً بعد اكتظاظ الشوارع بجماعات ثوريَّة من الأطفال والنساء والشباب والشيوخ الهاتفين للحرية والعدالة والمساواة، وتحوّل بعض الشابات والشبان إلى نشطاء سياسيين و”صحافيين ميدانيين” ينقلون للعالم ما يجري على الأرض السوريَّة بواسطة هواتف محمولة توثّق الأحداث وتحمِّلها على شبكة الإنترنت في ظل غياب الإعلام الحرّ المستقلّ.
4-إضاءة المهمَّش
استطاعت الثورة السورية أن تنقل تأثيرها على الرغم من المسافات، إذ هي، على ما يبدو، علّة وحيدة تحتوي في وحدتها جميع الأصول البذريَّة التي منها ينمو ويتطوَّر كل موجود جزئي. فلمّا كان صحيحاً أن سلطة آل الأسد ورجالها، لم تكن سلطة سياسيَّة، بل كانت دوماً سلطة تعتاش وتعيش من الأزمات، وعليها، وسدِّ الطريق أمام كلّ انفتاح للجزء على الكل، فالصحيح أيضاً أن ثورة الحرية في سوريا قد أحيت مشاعر المحبة، والتعاضد بين أبناء الشعب الواحد بكل مكوِّناته وأجزائه. تجلّى ذلك مثلاً في شعارات من مثل: “واحد واحد واحد/ الشعب السوري واحد”، أو “يا حماة حمص معاكي للموت”، أو “يا درعا إدلب معاكي للموت”. هكذا تأتلف الحياة والمجتمع دائريّاً لا هرميّاً، أفقياً لا شاقوليَّاً. وفي الحركات الدائرية والمتنوِّعة تتوافر جميع الأسباب التي تحيي الروح الفرديّ وتعتقه، وعند تخوم الروح الفردي يتحطَّم صنم الخوف. وما من شك في أن تلاشي الخوف يعني ولوج عصر أفول الدولة الأمنيَّة، وحلول سيادة الشعب (الشعب يريد…). من الحركات الدائرية والمتنوِّعة نفسها تتولّد حركة الذهاب والإياب من المركز إلى الهامش، ومن الهامش إلى المركز. إن حركة الذهاب والإياب تلك من شأنها تحرير الهامش من تسلّط المركز واحتكاريته. هكذا خلقت الثورة في سوريا مناخاً سمح بأن تكون العلاقة بين الهامش والمركز جدليَّة. فقد قطعت مع السلطة الأسدية البعثية/ الأمنيَّة التي كرّست الأعلى والأدنى طوال عقود، وبنت عليهما تمايزات ظالمة وباطلة جعلت من المركز مقرّاً لحكم “أبديّ” بإذلال الهامش ونهبه وقمعه، لا بل توسيعه وتكريسه. من هنا كان لا بد من إسقاط “الأبد والأبدية” من الأذهان، بتظاهرات محتجَّة أضاءت المهمّش المغيَّب، وأكِّدت أنه: “ما في للأبد/عاشت سوريا ويسقط الأسد”.
5–قهرِ الموت التنسيبي والانبعاث البعثي
“ما مِنْحِبَّكْ ما منحبّك؛ حِلْ عنّا إنت وحِزبَكْ”. كان هذا الهتاف واحداً من الهتافات المهمة التي أطلقها الشعب السوري في تظاهراته المدنية السلمية. أشار من خلاله إلى الجوهر الديني التكفيري لنظام يدّعي “العَلمانية”، وإلى عزم الشعب الثائر على الـ”كُفر” بدين أُكرِه على اعتناقه، اسمه: “حزب البعث العربي الاشتراكي”. الحزب الذي تحوّل إلى “دين” بعدما وصل الأسد الأب إلى السلطة قادماً إليها على ظهر دبّابة، واستمر الحزب كدين بعدما ورث الأسد الابن “الجمهورية”.
درجت العادة، أن يترك جنود النظام على الجدران في المناطق الثائرة بعد كل مذبحة يقترفونها، عبارات من قبيل: “الأسد أو لا أحد”. العادة نفسها، مارسها جنود النظام نفسه في بدايات ثمانينات القرن المنصرم، تاركين عباراتهم العدائية على الجدران في محافظة حماة بعد المذبحة الشهيرة التي كانت أحد أهم إنجازات “القائد الخالد”. عبارات من مثل: “لا إله إلا الوطن، ولا رسول إلا البعث”، بحسب روايات ناجين من المذبحة تلك. إنه “البعث الرسول” الذي فُرِض اعتناقه على السوريين، عبر نهج “التنسيب”، وهذا له دلالات دينية عميقة الجذور. فهو جملة إجراءات وتعليمات تبتغي إدخال تعديل كلّي وجذريّ على الوضع الحيوي للمراهقين في المدارس مثلاً. فعندما يصل التلميذ إلى الصف الثالث من المرحلة الإعدادية، تُقدَّم إليه أوراق يتم من خلالها “تنسيبه” إلى حزب البعث، ثم يصير فيه عضواً من دون أن يعرف حتى على ماذا وقّع وبصمَ، وما الذي يرتّبه ذلك من وجهة نظر قانونية، ولِمَ عليه “الانتساب” إلى حزب غير مطّلع على شيء من تفاصيله وفحواه، في ما عدا بضعة منطلقات “نظرية” تحنّ على الفقراء والمساكين وصغار الكسبة والعمّال والفلاحين (وهؤلاء هم أنفسهم اللذين طالما قُتلوا واعتُقلوا وهُجّروا من ديارهم بعدما ثاروا مطالبين بحقوقهم المسلوبة منذ عقود!)، وشعارات طوباوية مريضة، تنزع إلى الهلوسة في الأمة العربية الواحدة، ذات الرسالة الخالدة، وأهداف كالوحدة والحرية والاشتراكية، يردّدها المراهق الذي لم يتلمّس منها شيئاً في الواقع، ترديداً ببغائياً. ليست معرفة “المريد” المراهق القاصر المغرَّر به عن الحزب، مهمة. بل “تنسيبه” إلى الحزب هو المهم؛ لأن “تنسيب” “المريدين” المراهقين وتعليمهم يتم من قبَل “الأولياء”، “حمَلة المعرفة الأسدية”، أولئك يتولون مهمة تزويد “المريد” المراهق المعرفة الواجب عليه معرفتها. “الأولياء”، قد يكونون مدرِّسين أو موجِّهين إداريين في المدرسة مثلاً، يمارسون مهامهم “التنسيبية” بتوجيهات من الأجهزة الأمنية وبالتنسيق معها.
اختيرت سِنّ المراهقة لـ”التنسيب” إلى حزب البعث، بغية نقش العقل مبكراً بـ”المقدَّس الأسدي” وبالإيحاءات العاملة على إعداد “إنسان” جديد. ففي “التنسيب” ينفصل “المريد” المراهق عن حياته الطبيعية، ليدخل في نطاق “الثقافة البعثية”، كون “التنسيب”، بمثابة تحوّل أنطولوجي في النظام الوجودي للفرد المراهق، وخاتمة للشرط الدنيويّ الحيويّ من أجل الدخول في عالم “الآلهة الأسدية المقدسة”.
قبل “التنسيب”، يجرى نقل التصوّر “البعثي الأسدي” تدرّجياً إلى “المريد” المراهق خلال مراحل التأهيل والإعداد انطلاقاً من “طلائع البعث” التي تكمن مهمتها الأساسية في تكريس الـ”نَعَم” وحفرها في قلوب الأطفال الطازجة وعقولهم الغضّة، كالذي تفعله مثلاً، أغنية معروفة، ضاجّة بـ”نَعَمات” تعظّم أبا الطلائع: “يا حبّنا نعم، يا رمزنا نعم… ويا أبا الطلائع يا حافظ الأسد/ نعم نعم نعم نعم نعم، نعم إلى الأبد… يا حافظ الأسد”. بعد دخول “المريد” المراهق في سلك “الكهنوت البعثي الأسدي”، يكون قد وُلد ولادة جديدة، يصير فيها كائناً آخر، يسير في طريق الاطلاع على “حقائق الكائن الأعظم الأبدي الخالد البطل القومي المقاوِم، وإنجازاته العظيمة الخالدة، وقواه السحرية”.
تستلزم تجربة “التنسيب”، كتجربة إلزامية لأبناء المجتمع السوري وبناته، “موتاً” متبوعاً بـ”انبعاث بعثي”، يتم من طريق تعاليم وطقوس بعثية أسدية تعمل على إدخال الفرد إلى مجتمع باطنيّ معزول عن العالم الخارجي، يعزّز رؤية دينية للعالم، محورها “الكائن الأعظم”، “خالق سوريا وبانيها وحاميها، الذي سَنَّ نواميسها ووضع شرائعها قبل أن يقدّمها إلى الأجيال”. في “التنسيب” “يموت” المرء بالنسبة إلى وجود معيّن حيوي دنيوي، لـ”ينبعث” مجدداً في “عالم بعثي أسدي أبدي”. كلّ ما يتلقاه “المريد” من عِلم، يرجع إلى لفتة ومكرمة صادرتين عن “الكائن الأعظم” وإلى فعله وتأثيره. لذا، لا ضرورة لعقل “المريد” وتفكيره. بل ينبغي قتل “المريد” أثناء “التنسيب”، وهذا يُرمَز إليه بـ”ختان” العقل والتفكير والإرادة الحرة. تلك هي “إيديولوجيا التنسيب”، باختصار.
كان “طبيعياً” إذاً، أن يجنَّ “البعثيون”، بعدما تمرّد “المريدون” على القداسة، و”كفَروا” بـ”الآلهة الأسدية وبدينها البعثي”، وغادروا عالمها عائدين إلى الحياة، أحراراً قاهرين “الموت التنسيبي والانبعاث البعثي”. جنون تحدثت عنه بطرافة وظرافة في التظاهرات، إحدى الأهازيج الساخرة للثائرين والثائرات: “نحنا مطالبنا حأ(حق).. إنْ قلتْ إي وإن قلتْ لأ/ زِتّ وراقك خلص الدَّأ(الدق).. ويلا لمّو البرتيّة/ جَنّو جَنّو البعثيّة.. لمّا طلبنا الحرية/ يلعن روحك يا حافظ.. يا إبن الحراميّة”.
6–إسقاط “سورية الأسد” وتحطيم صنم الدولة المتعالية
أن يكون هدف الثورة السورية الأول، إسقاط الأسد و”أبديّة” حكمه، يعني إسقاط “سورية الأسد”، و”دولة الأسد”، تلك الدولة المتعالية، ذات “الهيبة” و”الرهبة” التي قد يعني”النيل” منها الموت، إذ “النيل من هيبة الدولة”، تهمة كان ضحيَّتها كل مَن عارض وانتقد، أو قدَّم رأياً خارجاً على نص الاستبداد والقهر، وعلى مَر عقود طويلة من حكم الحزب الواحد. حزب البعث المشلول في حضرة الديكتاتور، ثمَّة مَن سُجِن وعُذِّب، وثمة من قُتِل، وثمة مَن هُجِّر وشُرِّد أو نُفي، والتهمة الجاهزة كانت دوماً “إضعاف الشعور القومي، والنيل من هيبة الدولة”. فما دولة البعث إلا هيكل رسمي لعقيدة شموليّة غطَّت كل مظاهر الحياة البشرية، عبر جهاز رقابة بوليسي/ استخباراتي، وعبر حصر كل وسائل الدعاية، وكل الوسائل العسكرية، إضافة إلى الرقابة المركزية وتوجيه الاقتصاد بأكمله.
كامتداد للفاشية، كمذهب سياسي خاص في الحكم، يمجّد الدولة، ويدعو إلى حكم أوتوقراطي يرأسه زعيم ديكتاتوري يسيطر على أشكال النشاط القومي كافة، مُجِّدَت دولة البعث في سوريا كـ”وسيلة للأقوياء، وضمانة للضعفاء”، فباتت الدولة كل شيء، والأفراد مجرَّد تابعين، خادمين لها، كعبيد، وطويلاً مورِس العنف والاضطهاد تحت مسمَّى “مصلحة الدولة”. الدولة الكتلة التي كانت دوماً عصيّة على الفصل بين السلطات، والتي ازدرت الشعب، أو لم تعترف بوجوده أصلاً إلا بوصفه أداة كانت حاضرة دوماً في خدمتها. لعل الطابع الرسمي الجاد لـ”المؤسسات” الحكومية، من حيث تسمياتها مثلاً التي اعتنقت ثقافة الموت والحرب، من خلال أسماء الشهداء والمعارك و”البطولات” الوهمية، أو من حيث الشعارات التي أُثقِلَت بلغة بلاغيَّة عظِّمت وقدِّست ومجِّدت. لعل اقتحام الفضاء العام، جملةً وتفصيلاً، بصور الديكتاتور وعائلته، الصور التي كانت دوماً تأخذ شكل المواجهة والمباشرة كما هي عادة “الفن” في كل الأنظمة الديكتاتورية، حيث تكون “المواجهة” وتصوير البُعد الواحد والجانب الواحد أهم خصائصه. ولعل الاشتغال الحقيقي على تصنيع موظَّفين حكوميّين جمعهم الولاء المطلق لسيِّد البلاد، كما جمعهم الفساد والنفعيّة والمصالح الشخصيّة الخاصة والعبوس والتجهّم والجدّية المدروسة في التعاطي مع “المواطنين”، الجدِّية التي عكست موتاً للروح، ولكل ملمح إنسانيّ جمالي وأخلاقي. ناهيكّ بالتمييز ذي الطابع الطبقي، العنصري الازدرائي، والاستعلائي المتعجرف، بين الموظف الحكومي وغير الموظف، وبين البعثي واللابعثي، حتى أن أصغر موظف حكومي في دولة البعث كان دوماً أهم بما لا يُقاس من غير الموظف أو غير البعثي من ذوي الكفاءة والمقدرة والفكر والخلق. لعل ذلك كله، كان الجزء الأعمق في “السياسة” التي رمت إلى تقزيم الإنسان واقعاً ومفهوماً. الإنسان الذي تضاءلت قيمته وصغرت عند البوّابات السوداء الضخمة لأبنية الدولة.
إن العمل الممنهج على جعل الدولة “مطلقة”، وتقدسيها، كمربية فاضلة للأفراد “القاصرين”، نزع عن السوري إنسانيته، وجعله عبداً لكائن متعالٍ، هو الدولة. مع أن الدولة لا تقوم لها قائمة من دون شعب، قوامه أفراد يعقلون ويفكِّرون ويشعرون ويريدون، بينما الدولة شخص اعتباري لا معنى له من دون الشخص الحّي الحقيقي النابض. هكذا قطعت الثورة السوريّة مع واقع “الدولة أولاً”، بغية التأسيس لواقع جديد ينطلق من “الإنسان أولاً”، فما ثورات “الربيع العربي” إلا ثورات “ولادة الإنسان”([3]) بعدما شهدت هذه المنطقة من العالم موت الإنسان كقيمة عليا
لقد حطّم الشعب الثائر في سوريا، صنم “الدولة المتعالية”، إذ هو “العارف الأكبر”، بأن دولة “الصمود والتصدِّي، والمقاومة والممانعة”، لم تكن يوماً إلا دولة أصفاد كبَّلته طويلاً متصدِّيةً له ومقاوِمةً ضدّه وضدّ حريته وكرامته الإنسانية، وأن دولة الحق والقانون التي تحترم الإنسان وحقوقه، وتقوم على مبدأ الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وفصل العسكر ذهنيَّاً وسلوكيَّاً عن السياسة، كشأن عام، وفصل الحب والكره عن رئاسة الدولة، بعد حذف الثورة مفردة “مِنْحِبَّكْ” الأمنيَّة من قاموس الرئاسة، تلك الدولة، هي اللائقة بشعب بدأت إرهاصات ثورته بشعار: “الشعب السوري ما بينذل”، الذي أفصح الناس من خلاله عن شعورهم الذي طالما أخفوه عقوداً. شعور يتصل بخاطر مكسور، ونزف في الروح، وجرح عميق في الكرامة.
7–الحرق، الفضح، والإنارة
للثورة السورية ماهية جدلية، جعلت علاقتها بكل شيء علاقة جدلية، يعمِّدها التأثر والتأثير. تأثرت الثورة، مثلاً، بما بدا للثائرين عدم اكتراث من “المجتمع الدولي” بمِحَنِهم ومآسيهم، وإحجامه عن مدّ يد العون لهم. وترْكهم يكتوون بنيران حاكمهم وزمرته وحلفائه. وقد كان هذا التأثر بادياً دوماً – وإنْ بتفاوت- في شعاراتها ولافتاتها، حتى أن إحدى الجُمعات سُمِّيت:” المجتمع الدولي شريك الأسد في المجازر”. ربما كان هيغل مُحقّاً حين تكلم عن الرغبة في نيل الاعتراف والتقدير، كمحرِّك للتاريخ، تدفع البشر إلى الدخول في عراك حتى الموت، يسعى فيه كل فرد لنيْل اعتراف الآخر بقيمته وجدارته. إذ شعور الثائرين السوريين بمرارة كبرى سببها عدم الاعتراف بثورتهم، وبهم كثائرين، كان له الأثر البالغ، ولّد لديهم إصراراً مضاعَفاً على الاستمرار بالثورة، على الرغم من التكلفة الباهظة لهذا الاستمرار بشرياً ومادياً.
إلا أن تأثير الثورة كان، على ما يبدو، أعمق من تأثّرها. حتى أنه قد يهجس المرء حيالها، فيتصوَّر أن استمرارها ربما يؤجِّج نيرانها أكثر فأكثر فتشعِل حرباً عالمية ثالثة. لكن الهاجس نفسه قد لا يكون مقلِقاً لذاك الذي يدرك أن لنيران هذه الثورة، وظائف عدة، منها: الحرق، الفضح، والإنارة. فإذا كان من شأن الحرق ترميد ماضي الاستبداد والاستعباد والفساد، فالإنارة من شأنها الإشراق. لقد بلغ تأثير الثورة السورية السياسي والأخلاقي مبلغاً مهماً محلياً وإقليمياً وعالمياً، ومارست الثورة أدواراً تجلّى بعضها في “نشر الوعي”، حتى صارت كأنها قدوة، وما رفْع علم الاستقلال الخاص بها في تظاهرات معارِضة لأنظمة الطغيان في دول أخرى، وما ترديد بعض هتافاتها، وتداول أغنياتها وأهزوجاتها وألحانها في أنحاء شتى من العالم إلا أمثلة على ذلك. فهي برهنت، عبر التجربة، أن في مقدور كل شعب أن يهزم العالم إذا ما وقف في وجه إرادته الحرة، وأن يفرض سياسة بديلة من التي ثار عليها ويفرض انتهاجها، وخصوصاً أن ما يناضل السوريون من أجله هو الديموقراطية، وهذه ظاهرة عالمية. هي ليست مُلكاً شخصياً للغرب، مثلاً، بل للإنسان، لأنها طريقه وتجربته أينما حلّ وكان. كما أن الكرامة والحرية والعدالة والمساواة هذه كلها حقوق إنسانية لا شأن لها بمكان وزمان، أو دين وعرق ومذهب وقومية وفكرة وعقيدة.
قل الشيء نفسه، بالنسبة إلى أدوار أخرى مارستها الثورة وكان لها تأثير مهم، كـ”الفضح”. فالثورة بدت كأنها قد عرّت كل شيء، حتى باتت الكاشف الإنساني الأهم، والاختبار الحقيقي والجدّي لصدقية أو لا صدقية كل شيء، عبر انقشاع الضباب عن كل شيء. ساهمت الثورة السورية في فضح عالم حقوق الإنسان الزائف، و”الأسرة” الدولية الأكثر زيفاً. فما جرى في سوريا من مجازر وجرائم حرب ضد الإنسانية، نكاد نجزم أنه سيظل وصمة عار على جبين البشرية. وسيذكر التاريخ، في صفحاته الأولى، أن ثمة شعباً من شعوب القرن الحادي والعشرين ظلَّ أعواماً يُذبَح ويُباد ويُستباح، وظل العالم بزعاماته المتواطئة مع عميلها المتواطئ، متفرِّجاً على المذابح الكبرى. ثمة جمعة من جمعات الثورة السورية اسمها”الإرهابي بشار يقتل المدنيين بالكيماوي والعالم يتفرّج “23 آب 2013. هكذا، ستظل الثقة بالمنظمات الدولية، وبالأمم المتحدة، ومجلس الأمن على وجه الخصوص، في انحدار مستمر حتى الوصول ربما إلى نقطة اللاعودة، التي قد تنطلق منها المطالَبة العالمية بإسقاط النظام العالمي القائم على التسلط والسيطرة والاستغلال، سعياً لبناء نظام بديل يُعلي من قيمة المجتمعات المدنية الحقيقية حول العالم، مجتمعات يكون لها شأن مهم في الحد من السلطة المطلقة لأي نظام.
****
سنوات معمّدة بالدم مرّت على السوريين المنتمين إلى عصر لعل أبرز مظاهره هو اصطخاب الاحتجاج من كل اتجاه وعلى أي صعيد، الأسرة، المجتمع، السياسة، الاقتصاد.. إلخ، ما يعني لا يقين الأخلاق السائدة ومطلب إعادة النظر في القيم كلها. حين لا يكون لدى المجتمع الدولي، كمنظمات حقوقية وهيئات ومجالس، وكحكومات وأنظمة، سوى البلاغة اللفظية الجوفاء يساهم من خلالها في مساندة الشعب السوري الذي نُكِّل به أبشع تنكيل؛ حينها يمكن القول إن ذلك تواطؤ مع سفك الدم. والواقع أن وقوف العالم متفرِّجاً على شعب يُذبح، لا بد أن يفجِّر أزمة ضمير، ما يدفع العقل صوب سؤال كالآتي: ما الذي يحكم العالم؟ الأخلاق؟ أم السياسة والمصالح والمال؟! وإذ يُرجّح حكم السياسة والمال للعالم، فإنه يفضح عمق أزمة أخلاقية، وأزمة حق وخير وجمال وعدل، بالدرجة الأولى، يعيشها العالم. ولأن العالم، محكوم بالسياسة والمصالح، والسيطرة والغلبة اندلعت ثورات “الربيع العربي”، حتى أنه يمكن القول إن أثرها طال في عام اندلاع ثورات الربيع نفسه 2011، قلب نيويورك، في الولايات المتحدة الأميركية، حين ردد محتجُّون الشعار المركزي لدى الشعوب العربية الثائرة: “الشعب يريد إسقاط النظام”، كما طالت الاحتجاجات نفسها موسكو، للتعبير عن سخط شعبي إزاء نظام شمولي، أمني استخباراتي، يمثِّل فلاديمير بوتين، حليف الأسد الأبرز، أحد رموزه.
****
تشهد الحضارة الإنسانية المعاصرة تحوُّلات جذريَّة تجري في المجالات كافة، لعل المجال التقني أهمّها، وإن طرز المعيشة والبنيات الاجتماعية والعقلية لتتطور بحسب إيقاع يفصح عن تسارع التاريخ، ما يجعل من وجود قوة إنسانية عالمية إرادية حرة، تضع حداً للحروب والمآسي، وللظلم والعدوان والتعسّف، وتكون سلطة بإمكانها أن توقف تسلّط مجلس الأمن المهيمَن عليه من دول ذات عضوية دائمة فيه، تقوِّض، عبر حق النقض (فيتو)، أي قرار لا يتوافق مع مصالحها أو مصالح حلفائها، يجعل من وجود تلك القوة ضرورة ملحّة.
****
ما الثورة السورية، إلا ثورة أتاحت للإنسان الفرد في هذا البلد اكتشاف نفسه في/وأمام العالم، عبر اتساع آفاق الزمان والمكان، وعبر شعوره بالاستقلال الذاتي بالرغم من كل شيء. أصبحت الحرية بالنسبة إليه الينبوع الوحيد للقيم الأخلاقية حتى لو لم يسانده أحد. فشعار: ” يا الله ما إلنا غيرك لا الله”، مثلاً، حملَ الكثير من الدلالات الرمزية، بعضها ربما يدلل على شعور السوريين الثائرين بوحدتهم في معاناتهم، وتخلّي العالم عنهم، وتركهم يواجهون مصيراً مرعباً. أما الترجمة السياسية للشعار نفسه، فهي أنه ليس إلا إرادة السوريين وحدها قادرة على نصرتهم في مواجهة شراسة الطغيان وفظاظته بعد قطع الشك باليقين بأن أحداً لن يبادر إلى مساندتهم فعلياً.
****
إن انقلاب الأيديولوجيات والأنظمة، وما ينجم عن الحضارة الحديثة من عُسرٍ وقلق، إنما يساهم في إيقاظ الاهتمام بأزمة الأخلاق، فإن ثمة مشكلات ملحّة تُطرح بالمقياس الكوني وهي ترمي إلى أن يتحلّى العالم بمزيد من مشاعر الإنسانية والإخاء، والتطلُّع إلى مجتمع يستطيع فيه الناس كافة أن يحققوا ذواتهم بحرية. وإن عودة سريعة إلى التاريخ قد تعزِّز وتدعم ما نذهب إليه هنا، فاحتجاجات طلاب العالم التي انتهت في فرنسا إلى انتفاضة أيار 1968، كانت إعلاناً عن رغبة في إدانة “مجتمع الإنتاج والاستهلاك”. إضافة إلى إدانة مجتمع الإنتاج والاستهلاك، يريد إنسان المنطقة العربية عموماً، والإنسان السوري خصوصاً من ثورته على الاستبداد، الاقتصاص من مجتمع غياب حقوق الإنسان في عصر حقوق الإنسان. يبدو أن الاهتمام الحقيقي بالكرامة الإنسانية، والحنين إلى القيم الأخلاقية، هو ما يُمكن تلمّسه من وراء القلق البادي في المناقشات المطّردة على شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، والصحف وشاشات التلفزة والإذاعة بصدد الحروب أو التعذيب أو حريّات الشعوب وحقها في تقرير مصائرها وقضاياها المختلفة. تنتهي هذه المشكلات الإنسانية وغيرها في آخر المطاف إلى التساؤل عن الواجب حيالها، والواجب ينطوي على (فعل) يجب القيام به، وما الفعل إلا إلزام يقتضيه القانون الأخلاقي. هكذا؛ فإن القانون الأخلاقي كان يفترض إلزام المجتمع الدولي بـ(فعل) شيء تجاه الشعب السوري الذي يتعرَّض إلى حرب إبادة حقيقية. لماذا يُلزم القانون الأخلاقي المجتمع الدولي؟ ربما لأن الذات الإنسانية واحدة وإن اختلفت تعيّنات وجودها. إن تجربة النشاط الإنساني تكشف عن نزعة طبيعيَّة لتجاوز المرء ذاته، وتطلّعه إلى السعادة الكاملة، وسوف لن تكون البشرية سعيدة مادام هناك بشر تعساء وبؤساء في هذا العالم.
8–إنعاش روح الوجود الأصيل
يعتقد الفيلسوف (مارتن هايدغر 1889-1976) أن الإنسان يمكن أن يحيا وجوده على صورتين مختلفتين، فهو إمّا أن يحيا وجوداً مبتذلاً، تافهاً، لا قلق فيه، وإمّا أن يحيا وجوداً أصيلاً مفعماً بالقلق، يستطيع فيه أن يؤكّد ذاته وأن يصبح نفسه. وقد لا نجانب الصواب في قولنا إن السوري الذي قرَّر الثورة على الوجود المبتذل، التافه، يحيا منذ أواسط آذار 2011، وجوداً أصيلاً مفعماً بالقلق، يثبت فيه قدرته على سقاط نظرية القمصان السود، وبؤس سكين الذبح والرشَّاش والمدفع والدبابة وطائرة الميغ والبرميل المتفجِّر والقنبلة الحارقة والعنقوديّة وصاروخ سكود و السلاح الكيميائي؛ أمام الإرادة الإنسانية الحرة، أي إرادة الحياة. فـ”الشعب السوري عارف طريقه”.
[1] –يمكن مراجعة المبحث الأول، “اللغة بين نظام جائر وشعب ثائر”، عن إخماد النار بالنار وزلزلة الأبد بالابد، الفقرة(4).
[2] –يمكن مراجعة المبحث الثاني، موضوعَي “الثورة والعبودية”، “الثورة والحرية”.
[3] -يمكن مراجعة ما جاء في مقدمة هذا الكتاب.