#########

العدالة والمساءلة

ثورةُ الحرية السورية.. أفكار وتأملات في المعنى والمغزى (4)


إن ظاهرة تقبيل البوط العسكري، لدى بعض مؤيدي الأسد ونظامه، داخل سوريا وخارجها، في الميدان وعلى الشاشات، فضلاً عن وضعه على الرأس، وإقامة نُصُبٍ تذكاريّة له، على إثر اندلاع ثورة ضد العسكر والحكم العسكري في المقام الأول، وتحطيم أصنام الديكتاتور العسكري حافظ الأسد.

08 / أيار / مايو / 2021


ثورةُ الحرية السورية.. أفكار وتأملات في المعنى والمغزى (4)

 *مع العدالة | علا شيب الدين


 

نشرت فصول هذا الكتاب بموافقة الكاتبة 

(4)


الحرب واللغة

رُشِقت الثورة السورية، منذ اندلاعها، بالمصطلحات والتسميات، وتغيرت وجهات النظر الخارجية فيها، والطابع التوزيعي للخصائص والصفات والنعوت بحسب الظروف والأهداف المرحلية. تارة هي “حرب أهلية”، طوراً “حرب طائفية” أو “مؤامرة كونية”، وحين يُعترف بها كثورة سرعان ما تصير “ثورة إسلامية”، ومراراً هي “صراع ونزاع”، ومراراً أخرى هي “أزمة”، وربما هي كل شيء، إلا أن تكون “ثورة شعبية” بالنسبة إلى مَن يمقتها ويخشاها.

– لوثة لغوية:


1

في معمعة التصنيفات يشعر المرء كأنه بات يعيش وسط لوثة لغوية لا تنتهي، ما قد يدفعه إلى تحليل لغوي، الأصل فيه أن يرى الذهنية المضمرة خلف اللغة البادية، لتحريرها من التكييفات السياسية أولاً، ثم الإصغاء جيداً حتى إلى همس الثائر السوري الذي غطّاه ضجيج الثرثرة، فيكتشف الحقيقة التي تحجبها تلفيقات العقل الوهمية، التي ليست سوى أقنعة تختفي وراءها أهداف ومصالح تبدو اللغة معها أنها الحقيقة، في حين أنها تستر الحقيقة.
الثورة في سوريا تشبه الحياة، ربما يمثِّل الاستمرار قانونها الأسمى. وما دام الاستمرار قانونها، فاللغة، من حيث هي شكل، تدخل مع الثورة في علاقة تجعل منها أساساً (أرضيّة). الفارق بين الشكل والأساس يتمثل في كون استمرار الأساس يُكسبه صفة البساطة، بينما بروز الشكل وعدم استمراره يكسبه نوعاً من التعقيد. هكذا نفهم سر الضجيج اللغوي الإعلامي والمنبري المستمر منذ اندلاع الثورة. ضجيج مقصود يرمي إلى اللعب باللغة والعبث بالمصطلحات، وتعقيد البساطة من خلال الشكل، نظراً لما لهذا الأمر من فاعلية مهمة في التشويش. أعني التشويش على الأساس. فالأساس، أي الثورة، بسيطة، فيما التعقيد كل التعقيد يأتي من الشكل، أي اللغة المسيَّسة العابثة في توصيف ذاك الأساس وتفنيده، خصوصاً أن الأساس لا حدود له، فيما الكلمات محدودة، وكل تعديل على الكلمات المحدودة يغيّر من طبيعتها ويجعلها أكثر تشويشاً على الأساس. المفارقة، أن لا محدودية الأساس من شأنها إنهاك اللغة، ما يتطلب إنشاء لغة جديدة تكون قادرة على اللحاق باللامحدودية تلك، وهنا تكمن الصعوبة وربما الاستحالة. إن ظهور الشكل من شأنه اختفاء الأساس (الثورة)، ويبدو أنه هنا بيت القصيد، أن تكون اللغة والكلمات، كشكل، مشوِّشة بحيث تعمل على إخفاء الأساس، أي الثورة، وتركيز الانتباه على الشكل، أي اللغة، لكي تختفي الثورة من المجال الإدراكي. وهذا هو أحد أشكال التآمر على ثورة الشعب السوري.

2

لو أردنا أن نطرق باب التحليل النفسي مستعينين بفرويد، فربما خلصنا إلى أن “الأنا” الثورية السورية وليدة التاريخ القريب، والقلقة باستمرار كونها غير مستقرة بعد، تتحكم فيها “الأنا العليا”، أي العائلة الأسدية المالكة/ الحاكمة ونظامها، التي تمثل التاريخ البعيد، تاريخ الحياة القطيعية التي عاشها السوريون في ظل الأنا العليا تلك. واستناداً إلى هذا التحليل ربما يمكن تفسير تعاطي زعماء المال والسياسة والغلبة حول العالم مع هذه الأنا الحديثة العهد كـ”قاصر”، إذ من غير الوارد الإقرار بثورتها ونضجها ومعرفتها بماذا تريد. وعليه، فهي إما في حال “حرب أهلية” أو “حرب طائفية” أو “صراع”، أو هي فعلاً “عصابة مسلّحة إرهابية وتكفيرية” تماهياً مع نعت النظام الأسدي وحلفائه لها، أما أن تكون ثائرة؟ ومن أجل الحرية والكرامة والديموقراطية والعدالة؟ فهذا ما لا يمكن تصديقه أو فهمه واستيعابه، كونها أصلاً، بالنسبة إلى كل مَن لا يؤمن بالشعوب وبحقها في تقرير مصائرها، لا تستحق ذلك كله وهو غير لائق بها. وليس أدل على ذلك من كلام الموفَد العربي والدولي إلى سوريا، الأخضر الإبراهيمي، حين قال: “إما حل سياسي وإما الجحيم”. كان كلامه عبارة عن خيارين لا ثالث لهما، يبدوان أقرب ما يكون إلى منطق إما وجود وإما لا وجود والثالث مرفوع. أي، إما وجود مع النظام ورأسه والقبول باستمرار العيش في ظل الاستبداد والديكتاتورية، وإما لا وجود يتبدى في دولة فاشلة، ضرب الإبراهيمي الصومال كمثال عليها “الصوملة”. إنه “تفكير” سياسي مؤسَّس على ثنائية تتحكم في العالم، تفكير مشطور إلى حدّين مسبوقين بـ”إمّا” التي تأخذ طابع الأمر والنهي والجزم، والتهديد والوعيد، وتتعاطى مع الواقع كثابت، متجاهلة تحولاته وصيروراته . وما استعارة لغة دينية بحتة من مثل مفردة “الجحيم” واستعمالها في موضوع سياسي بحت، إلا دلالة دامغة على بؤس اللغة السياسية وقذارة ما يُطرح على أنه سياسة وسِلم.

3

هكذا، سُمح للرئيس ونظامه، كعصابة، باستخدام كل الوسائل لتدمير الأنا الثائرة المذكورة آنفاً بكل أنواع الأسلحة. في السياق ذاته يندرج نفاق الكلام المكرور المبتذل عن “العنف”، وعن ضرورة وقفه في سوريا. النفاق ليس مقصوراً على لاجدّية وقف العنف فحسب، بل يطال الوصف نفسه أيضاً. فما جرى على الأرض السورية ولايزال، ليس عنفاً، إنما حرب تدمير وإبادة شاملة وممنهجة لسوريا أرضاً وشعباً، تاريخاً وحضارة، على يد العصابة الأسدية الحاكمة وحلفائها الإقليميين والدوليين. بيد أن ما لم يفهمه نظام العصابة ومتزعِّمو المجتمع الدولي، أن الثورة ذاتها تفسِّر الأنا الثائرة وتتضمّنها، تحتوي عليها وتبسطها. فالتضمن والتفسير، الاحتواء والبسط، نابعان من الثورة وفي الثورة، وهما تعبير عنها، والتعبير هنا ليس موضوع تعريف ولا برهنة، ولا يمكنه أن يكون كذلك. إن صفات الثورة تعبِّر عن الذات، ذات الثورة، وجوهر الثورة يعبِّر عن نفسه في تلك الصفات في وحدة كلية شاملة. فالثورة، من حيث هي ثورة شعبية، من صفاتها مشاركة طوائف وأديان وإثنيات متعددة، وأعمار وأجناس وطبقات وشرائح اجتماعية مختلفة فيها، كان هدفها واحداً، هو إسقاط النظام القائم، وبناء دولة ديموقراطية مدنية، وفي هذا تتسق الثورة السورية مع الثورات في بلدان “الربيع العربي” الذي وصفه بشار الأسد بـ”فقاعات صابون”!



     إن كان في الإمكان البرهان على أن مجموع زوايا المثلث = قائمتين، فمن الواضح أن هذه القاعدة ليست كنبتة تنمو من تلقاء ذاتها، وحال الثورة أقرب ما تكون إلى حال النبتة. تالياً، فإن وجهات النظر المأخوذة من الخارج، أي خارج الثورة، لا يُعتدّ بها ولا تُعتبر كذلك موضوعية وحيادية. إذ ليس كل ما هو خارج الشيء موضوعياً بالنسبة إليه بالضرورة. ففي الثورة، الشيء هو الذي يعبِّر عن نفسه، ويفسِّر نفسه. الثورة إذاً ليست موضوع برهان، بل هي تصنع البرهان وتجعل منه التجلّي المباشر للأنا الثائرة. هكذا يُستبعد كل ما ينتمي إلى التصوّر المغلوط عفواً أو قصداً لكل من هو خارج الثورة. ويبدو أنه كلما زادت الأنا الثائرة واقعية، زادت ضرورة الاعتراف لها بصفات، وكلما زاد الاعتراف للأنا الثائرة بصفات زادت ضرورة منحها الوجود. وعلى هذا استمرت الثورة السورية، عبر استمرار إرادة الأنا الثائرة وصمودها وتحدّيها حتى تثبت نفسها وتؤكدها أكثر فأكثر. ما من كلام معبِّر عما نذهب إليه هنا، أوضح من كلام ذلك المحارب الذي ما انفكت إحدى القنوات الفضائية تعيد عرض مشهد يحمل فيه قنبلة فارغة ألقتها قوات النظام الأسدي، بعدما أنهت مهمتها التفجيرية في البيوت والناس، قائلاً: “إننا صامدون، إذا بترمينا بنووي مو بهدول، بدنا نسقطك.. بدنا نسقطك”.

-الدال إذ ينصهر في مدلوله:

1ملح على جرح

تتذكر كاتبة هذه السطور جيداً، منذ سنين مضت، أنها مراراً سمعت الجدة تحذِّر من وضع “الملح على الجرح”، وتشكو ضيق العيش معبِّرة عن ذلك بعبارة “لقمة مغمَّسة بالدم”. لم تكن تلك التعبيرات خاصة بالجدة وحدها، إذ هي لغة شعبية عكست ثقافة وروحاً ضاقت ذرعاً بواقع الفقر والعوز والحرمان، والظلم والقهر. في أحد الفيديوات المسرَّبة لـ”شبّيحة” صوَّروها لأنفسهم وهم يمارسون ساديتهم المنفلتة من كل عقال، يظهر “شبيح” وهو يعذِّب أحد المدنيين عبر وضع كمية من الملح على جرح في ظهره. كان الشاب ممدَّداً على بطنه، مقيَّد اليدين، معصوب العينين، وحوله مخلوقات خاوية المعنى مسمّاة “شبيحة”، تقاسمت أدوار التعذيب بعناية، تولّى أحدها مهمة وضع الملح على الجرح. جرح عميق كان ينزف دماً، وينزّ قيحاً وأشياء أخرى في وسط الظهر، وراح “الشبّيح” يفرك الملح ذهاباً وإياباً على جرح الشاب. كلاهما كان صامتاً، ووحدها لغة الملح والجرح كانت حاضرة تملأ المكان بضجيج الأنين والألم.

      ما كنّا نعطي بالنا لحكمة الجدّات يوم كنَّ يحذّرننا من وضع الملح على الجرح، ظناً منا أنها لعبة لغة ليس إلا. اليوم، ما علينا إلا أن ننتبه جيداً إلى ذلك المصير اللغوي المحتوم. فنحن في عمق حرب منحلَّة في لغة، مثلما نحن في عمق لغة منحلَّة في حرب. إننا أمام “انصهار لغوي” كان مجرد كتلة ذهنية صهرتها نيران العصابة الأسدية الحاكمة. فالعلاقة بين الدال والمدلول هنا اختفت لينصهر كلٌّ منهما في الآخر، فيصير الدال والمدلول واحداً. فنكتشف أن ما اعتقدناه كلاماً نظرياً غير قابل للتحقق واقعاً كان وهماً. وأن أسرار الملح وألغازه لا تُكتشف عبر اللسان وحده، إذ للجرح أيضاً، على ما يبدو، شأن مهم في الكشف ذاته.

2– لقمة مغمّسة بالدم:
مرة أخرى، تصدمنا اللغة كدال وقد انصهر في مدلوله. واستحال حدثاً واقعياً صرفاً، مغادراً عالم اللغة الصرفة. إذ “اللقمة المغمَّسة بالدم” التي طالما اعتبرناها مجرد مبالغة لغوية توصِّف حال الشقاء وضيق العيش والإنهاك اليومي، استحالت واقعاً صرفاً في بستان القصر بحلب، وفي حلفايا بحماة، وفي تلبيسة بحمص، وفي الحجر الأسود بدمشق، وفي البصيرة بدير الزور، وفي الزبداني بريف دمشق. ففي كل تلك المناطق وغيرها، كان هناك فرن ارتسم أمامه طابور من أطفال ونساء وشباب ومسنّين تم قصفه. في غمرة انتظار الخبز، رمى الطاغية حقده قنابل وبراميل ومتفجرات، فتناثروا قطعاً وأشلاء، أما أرغفة الخبز، فقد تغمَّست بالدم! مَنْ مات من أولئك، مات، ولكن مَنْ ظلّ منهم حيّاً يتضوّر جوعاً، لم يعد أمامه ربما سوى التقاط رغيف الخبز المضمَّخ بدم مَن كان للتو حياً يحمل في يده أرغفته. كخيار أخير موجِع، قد يلتقط الحي رغيف الميت المغمّس بدمه، ويلتهمه إسكاتاً لصيحات المعدة الخاوية، وأملاً في استمرار الحياة والثورة، وإعلاء لصيحات الحرية.

3– “ما حدا بموت من الجوع”؟!

 لكن الطفلة رنا عبيد ماتت جوعاً يوم 23 أيلول 2013 في مدينة معضمية الشام بدمشق، شأنها شأن آخرين لقوا المصير ذاته في المستشفيات الميدانية بحسب مصادر طبية من داخل المدينة. تحدثت المصادر نفسها عن أطفال يعانون الوهن والهزال، وعن ناس يأكلون أوراق الشجر، وعن عمليات جراحية تُجرى بطرائق بدائية جداً بسبب انعدام اللوازم الطبية والأدوية نتيجة الحصار المفروض على المدينة منذ أشهر طويلة جداً، حيث يمنع نظام الممانعة دخول المواد الغذائية والدوائية وكل ما من شأنه استمرار الحياة. معضمية الشام شأنها في الحصار، شأن الغوطة الغربية كلها، مثل داريا، وشأن الغوطة الشرقية، وشأن الأحياء الجنوبية للعاصمة وبلداتها، مثل مخيم اليرموك، القدم، العسالي، الحجر الأسود، عقربا، السيدة زينب، البويضة، يلدا، ببيلا، بيت سحم، الذيابية، الحسينية، حجيرة البلد، وسبينة وغيرها.

    يتحدث الناشطون في المناطق المحاصرة تلك، عن تفاصيل كثيرة موجعة، منها: قيام عناصر النظام بضرب النساء على الحواجز ونزع المواد الغذائية منهن وإلقائها على الأرض ودعس أرغفة الخبز بأرجلهم. يحصل أحياناً أن يُعتقل مَن يُكتشف في حوزته خبز أو يُعدم ميدانياً على الحاجز! لكن ما هو أشد توحشاً من ذلك، كان في اليوم الحادي عشر من الشهر الجاري، عندما اقتحمت الذيابية، ميليشيات “حزب الله” ولواء “أبو الفضل العباس” الطائفية الإرهابية، بمساعدة النظام الطائفي الإرهابي الذي استمر في القصف، وارتكبوا فيها مجزرة راح ضحيتها العشرات، قضوا إما رمياً بالرصاص وإما ذبحاً بالسكاكين، إضافة إلى اعتقال الكثيرين بينهم نساء وأطفال، وإحراق البيوت ونهب الممتلكات. حصل الاقتحام بعد أشهر طويلة جداً فتك خلالها الجوع بأهالي المنطقة المحاصرة. ثمة كلام صادم، تم تداوله لأحد الناجين من المجزرة، يقول: “كنّا ندوس على جثث أبنائنا وأقاربنا وجيراننا بينما كنا نحاول الهرب من الذيابية”. يُذكر أن الذيابية كانت من أولى المناطق التي انتفضت ضد النظام وشاركت في التظاهرات وحطمت صنم حافظ الأسد.

    إذاً: “ما حدا بموت من الجوع”، مقولة تنتمي إلى المقولات التي طالما ظنناها لعبة لغة ليس إلا، أو دالاً لا يمكن أن يستحيل إلى مدلوله، بدَّدتها الحرب التي صهرت فيها العصابة الحاكمة اللغة الصلبة المتكتلة، في المعنى، فتلاشت العلاقة بين الدال والمدلول، وانصهر أحدهما في الآخر، ليظهر بوضوح أننا في عمق حرب منحلَّة في لغة، مثلما نحن أمام لغة منحلّة في حرب. إننا في مواجهة ذاك المصير اللغوي المحتوم!

4– تقبيل البوط العسكريّ:

إن ظاهرة تقبيل البوط العسكري، لدى بعض مؤيدي الأسد ونظامه، داخل سوريا وخارجها، في الميدان وعلى الشاشات، فضلاً عن وضعه على الرأس، وإقامة نُصُبٍ تذكاريّة له، على إثر اندلاع ثورة ضد العسكر والحكم العسكري في المقام الأول، وتحطيم أصنام الديكتاتور العسكري حافظ الأسد، في مدن وبلدات سورية مختلفة؛ إن الظاهرة تلك، لُأمر مثير للذهول، مستفزّ ومحرّض على السؤال والدرس والبحث في شأنه. البحث السيكولوجيّ على سبيل التخصيص.
في القُبلة، بالنسبة إلى المشتغلين في التحليل النفسي، هناك حنينٌ إلى الماضي. عندما يكبر الشخص، بالنسبة إلى فرويد مثلاً، وهو مؤسس التحليل النفسي، يروحُ يحنّ إلى ماضٍ كان يمصّ فيه حلمة ثدي الأم حين كان وليداً، فيحوّل المصّ إلى تقبيل. يبدو هنا أن ثمة حنيناً ربما لدى المؤيد، إلى ماضٍ كان الحكم العسكري فيه مهيمناً بالمطلق، وكان الحكم هذا مرموزاً إليه بالبوط العسكري، بالنسبة إلى المؤيد، هو السبيل الأوحد لتأمين الغذاء والحياة على غرار ثدي الأم بالنسبة إلى الوليد. كم هي كثيرة القصص التي قرأناها أو سمعناها، تروي كيف أن هذا الشخص أو ذاك مات وهو يُرفَس ببوط عسكري في المعتقَل، بالتزامن وصياح مفاده: «تعادون الرئيس! وَلَكْ الرئيس هوّي اللّي شبّعْنا(كن) الخبز».(هناك مثال مرعب في هذا الخصوص، يرويه وتفاصيل أخرى، بلغة وأسلوب مؤلمَين مشلِّعَين، مصطفى خليفة في روايته «القوقعة»). يزعجني أن أعمدَ إلى المقاربة السيكولوجية هذه، لما فيها من «خلط» ربما، بين قمة الجمال وحضيض القبح، غير أنّ للضرورة السيكولوجية، أحكاماً قد يلوي «إزعاجَها» الآتي: يُحكى أن الشعراء الإغريق كانوا يسمّون القُبلة «مفتاح الجنّة». ترى ماذا يمكن أن تُسمّى قُبلة البوط العسكري؟ لا شكّ أنها كما اعتقدَ الصينيون، أن القُبلة عموماً، «عمل وحشيّ يذكّر بآكلي لحوم البشر». قد تكون المقاربة هذه، أكثر ملاءمة لفعل تقبيل البوط العسكريّ، على مستوى الشكل، فهي تنأى بالأم وثديها ووليدها عن قبحٍ من هذا الطراز. هنا أيضاً ثمة تقهقر، في فعل تقبيل البوط العسكري. ثمة رغبة في عَودٍ إلى ماضٍ غابر كان اللحم البشريّ فيه يؤكَل. ترى هل ما جرى ولايزال في «سوريا الأسد وداعش»، واشتقاقاتهما محلّياً وإقليمياً ودولياً، بعيداً من الإرث البشري الرهيب هذا؟!

من منظور سياسيّ آنيّ، قد يشير تقبيل البوط العسكري، إلى الانحياز التام إلى حُكم العسكر، في قبالة حكم المتشددين دينياً. تالياً، محاولة كسب الرأي العام في هذا الخصوص، على الرغم من أن الرأي العام هنا يصعب كسبه، إذ تقبيل الأرجُل، على سبيل التبسيط، غير مقبول في الثقافة العامة، ومثير للاشمئزاز، فما بالك بتقبيل البوط؟!.
إن فعل تقبيل البوط العسكري، يقتل جلّ المعاني الإنسانية في ذاتها: الصداقة. العشق. الأمومة. الأبوة. البنوة. الأخوة. الجيرة. الحب. المصالحة بعد خصومة…إلى آخر ما هنالك من روابط إنسانية وعائلية حميمة، يرتبط كلٌّ منها بشكل معيّن من أشكال القُبلات. لماذا تقتل؟ لأن «الشفاه العاقلة. المُحِبة. العاشقة» لا تنحدر إلى مستوى تقبيل ما هو خاوٍ من الروح، من النبض، قد يوازي في ما ينطوي عليه من «عبودية مختارة» وغير مختارة، من تشوّه عميق في الذات المازوشية الممهورة بالتوتر والقلق والخوف، ممارسةَ الفرد الإنساني، الجنس مع حيوان!


يحتاج التقبيل لكي يحقق الغاية الأنطولوجية منه، إلى عوامل تمنحه خصوصية جمالية وأخلاقية، من مثل: النظافة. الارتياح. الثقة بالآخر. الشّمّ. الصحة والسلامة، وغيرها. فهل هذا كلّه متوفر في علاقة التقبيل مع البوط؟! كنّا في السابق، حين نسمع رجاءً من قبيل: «بوسلك صرمايتك، بس كذا أو كذا»، نظنّه مجرّد لعبة لُغوية ليس إلا، أو دالاً يستحيل أن يصير مدلولاً. أمّا وقد شاهدنا بأُمّ الأعين كيف أنّ الأحذيةَ تُقبَّل؛ فإننا نكون قد صرنا في زمن انصهار الدال في المدلول، بامتياز!.
على النقيض من مَشاهد الركوع للطاغية، وتقبيل البوط العسكري، تبدو مشاهد كثيرة، صُوِّر فيها الثائرون وهم راكعون يقبّلون الأرض بعد انتصار ما على هذه الأرض السوريّة أو تلك، مقبولة ومستحبّة، مادامت الشفاه هنا في حِلٍّ من ملامسة روح «الأرض الأم». التقبيل هنا، يصبح بمثابة صلاة، عناق روحي من شأنه تكريم الأرض، والإنسان بوصفه معمِّرها لا مدمِّرها.



  


أجزاء سابقة من الكتاب: 

الجزء الأول (1) – الجزء الثاني (2) – الجزء الثالث (3)