#########

العدالة والمساءلة

ثورةُ الحرية السورية.. أفكار وتأملات في المعنى والمغزى (5)


إن انعتاق السوري، قد يعني أولاً هدم بنيان قمعيّ زَجْرِيّ، وبنية "تفكير" أمنيّة/ استخباراتية، تمييزيّة، متعجرفة، متعالية، وإقصائيّة أفسدت المجتمع وخرّبت الإنسان السوري.

10 / أيار / مايو / 2021


ثورةُ الحرية السورية.. أفكار وتأملات في المعنى والمغزى (5)

 

*مع العدالة | علا شيب الدين


نشرت فصول هذا الكتاب بموافقة الكاتبة

(5)


المبحث الثاني:

 في علاقة الثورة السورية ببعض الثيمات


الثورة والعبودية

كانت ثورات”ربيع الشعوب” في أوروبا عام 1848، قد تأجَّجت لإلغاء الرّق نهائياً؛ وما اشتعال”الربيع العربي” عام2011، إلا طموح وجموح من أجل إطفاء جذوة الاستبداد نهائياً، فمثل دفقِ الحياة في ربيع ثائر، أعلنت شعوب هذه المنطقة من العالم مواصلتها النضال الإنساني ضد العبودية في أشكالها كافة. اندلعت الثورة السورية كأي واحدة من ثورات الربيع نفسه، إذ لم يعش السوريون على مرّ عقود طويلة حياة شعب حقيقيّ، بل جُعِلوا دوماً كتلة سديميَّة مهمَّشة، بل مغيَّبة ومستعبَدة. ويمكن القول إن السوري عاش عقوداً تقارب حال “العبودية التعايشية” وتحاكيها. وهذه تأسّست قبل الفكر الحضاري والتشريعات والقوانين بملايين السنين، تقوم على قاعدة طبيعيّة وحاجاتيّة وغريزيّة تضع السيد والعبد أمام علاقة تبادليّة. في “كتاب في الواجبات” كتب شيشرون يقول: “نطلب منهم الخدمة لنؤمّن لهم الضروري”. ما يعني أن الجوع هو الذي يدفع العبد إلى خدمة سيده، وبما أن الجوع يزوّد بالخدم، انتقلت البشرية من “قانون” قتل الإنسان والتهامه إلى أَسْرِه واستعباده. يقف العقل في هذا العصر حائراً مندهشاً أمام استمرار حال العبودية تلك!. استمرار متوارٍ خلف قوانين وتشريعات زائفة؛ فسوريا حُكِمَت عقوداً طويلة بذاك النزوع الغريزي إلى السيطرة. نزوع ممعن في سياسة التجويع والتركيع. ولم تكن حياة المرء فيها إلا حياة عبد يحكمه سيد مطلق ومالك أوحد ونهائي للدولة والشعب. من هنا ربما يمكن استيعاب لماذا عُوقِبَ الشعب السوري الثائر بأشد وأقسى أنواع العقاب، إذ لماذا، وكيف لعبدٍ أن يتمرّد على سيده؟!

فلمّا كان الرقيق في الهند قديماً يُعاقب بأقصى أنواع العقاب إذا أخطأ أقل خطأ بحق سيده، ومن هذه العقوبات انتزاع الألسن وصبّ الزيت المغلي في الأفواه أو دسّ الخناجر المحمية فيها؛ فإن السيد الأسدي في سوريا الثورة، ثورة الحرية والكرامة، عاقب المحتجِّين ضده وضد نظامه الجائر، بالرقص وبالغناء والكلمة الثائرة، عاقبهم بانتزاع الحناجر. لعل المثال الأبرز على ذلك، كان المغنِّي الثائر (ابراهيم القاشوش([1]) الذي هزَّ أركان الطاغية بأغنية شكَّلت علامة فارقة. إنها أغنية “يلاّ إرحل يا بشار” التي كان ثمنها استئصال حنجرته، ثم رميه في نهر العاصي جثة هامدة. عقاب السيِّد طال أجساد الأطفال أيضاً، ليس قتلاً فقط، وليس اعتداء جنسيّاً فقط، بل بتراً للأعضاء التناسليَّة أيضاً، الطفل(حمزة الخطيب([2]) مثال على ذلك. ناهيك بانتزاع الأظافر، كالذي تعرَّضت له مجموعة من الأطفال في درعا(مهد الثورة السورية)، كتبوا على جدران مدرستهم عبارات الحرية، فاعتُقِلوا وعُذِّبوا، وانتُزعَت أظفارهم، وكانوا بذلك شرارة ساهمت في إشعال الثورة([3]).

 وحيث إن الرقيق كان عند الرومان متعة مملوكة، يحقّ لسيده معاقبته بالسّحل تحت حجر الرّحى؛ فإن السوري الثائر، قد سُحِل تحت دبابة السيد الأسدي، وما جرى حين اقتحم جيشه مدينة حماة في شهر رمضان/آب لعام 2011 مثال على ذلك. وما السياسة التي اعتمدها الرومان في قمع ثورة العبيد بقيادة سبارتاكوس التي وصفها التاريخ بـ”أم الثورات الإنسانية” حيث صُلب العبيد المقبوض عليهم، وتُركت أجسادهم متعفّنة أشهر عدة، تطميناً لأشراف روما وإرهاباً لجميع العبيد؛ ما تلك السياسية إلا واحدة من سياسات السيد الأسدي في قمع الثورة السورية ضد استبداده واستعباده “المتطوِّر والحديث”، حيث الترويع الممنهج لإرهاب كل من يفكِّر مجرد التفكير في أن يطالب بالحد الأدنى من الحقوق. والتمثيل بجثث المحتجِّين من مثل: قطع الرؤوس وبتر الأطراف وغيره مثال واحد على ذلك.

بيد أن وضع المؤيِّد للسيِّد، لم يكن أفضل حالاً من وضع الثائر عليه، فكلاهما في نظره مجرَّد عبدَيْن عليهما الموالاة والطاعة المطلقة. فلمّا كان صحيحاً أن السيِّد الأسدي لم يحترم حرية مَن خرج متظاهراً ضده، فالصحيح أيضاً أنه لا يحترم مَن خرج، أو أُجبِر على الخروج في مسيرات مؤيِّدة له. فالمؤيِّد ليس إلا أداة من أدوات الزينة تُستخدّم في تعظيمه كسيِّد أعظم، ووارث البلاد والعباد عن أبيه. من المعلوم أن الرقيق عند الفراعنة كان أيضاً علامة من علامات العظَمة أو الزينة لقصور الملوك وبيوت الكهّان والأسياد.

****

      يُرجَّحُ أن إنسان نياندرتال، قد انقرض منذ خمسين ألف سنة. كان يسكن الكهوف، ويستعمل النار بعد أن هاجم البرد والصقيع الأرض، وكانت أدواته من الأخشاب والحجارة. لكن العمل أدخل الإنسان البدائي في علاقة تأثير متبادل مع الطبيعة، فيه امتلك قوة الهدم والبناء في الطبيعة وفي ذاته معاً، وبذلك، حوّل الطبيعة من حالتها الوحشية إلى حالتها المؤنسَنة، وانتقل هو من الطور الحيواني إلى الطور الإنساني، من مستوى الانفعال بقوى الطبيعة العمياء إلى مستوى الفعل فيها، فخلق الحضارة. المفارَقة هنا، أن التاريخ مع الأسد الابن “قائد مسيرة التطوير والتحديث”، قد تقدَّم إلى الوراء! فلما كان البدائي قد انتقل بفعل التطور والعمل من طور العيش في الكهف والترحال، إلى الاستقرار والزراعة والعيش في الكوخ (البيت)، ما أدى إلى تحوُّل عام في نمط الحياة، تحولت معه الرهوط الاجتماعية المتنقلة المفكَّكة التي تحيا حياة مضطربة، إلى جماعات مستقرة هجرت البحث الفردي عن الغذاء واعتمدت على الاقتصاد التعاوني؛ فإن السوريين بعد عقد من انطلاقة القرن الحادي والعشرين الميلادي، قد اتخذوا من الكهوف في سفوح الجبال ملجأ. حصل ذلك في ريف محافظة إدلب – مثلاً- بشمال البلاد، هرباً من قصف “الدكتور” الديكتاتور لبيوتهم، فصار هاجسهم الأساس الحصول على الغذاء اليومي أولاً، والمحافظة على الحياة والاستمرار فيها تالياً، عبر أدوات بدائية مثل: الحطب والخشب والحجارة، فصارت حياتهم تشبه طبيعة الحياة الوحشية التي فرضت على البدائي أن ينشط من أجل الحياة. الفارق بين البدائي والسوري “المعاصِر” في سكنى الكهوف، ربما يكمن في أن الأول كان يصوِّر على جدران كهفه رسوماً لحيوانات مفترِسة، كانت ربما بنت المصادفة والتسلية العابثة اللاواعية. فيما الثاني، قد يصوِّر على جدران كهفه رسوما لسكاكين ذبح، وطائرات ودبابات ومدافع “مفترِسة”، مع معرفته حق المعرفة أن رسومه ليست بنت المصادفة أو التسلية، وأنه في داخل الكهف نفسه، ثمة تحوُّل جذري في كيانه الروحي يتأمل المستقبل والحياة المُقبِلة. إذ العودة إلى البدائية هنا، ربما من شأنها أن تساهم في جعل السوري خالقاً نفسه ومحيطه من جديد، بعد أن كان مخلوقاً مدجَّناً.

****

   بما أن التضايف يحكم منطقيّاً العلاقة بين السيد والعبد، إذ لا يُفهم وجود أحدهما إلا من خلال وجود الآخر؛ فإن ما يطبع هذه العلاقة هو غياب الإنسان في حدّيها؛ فلا الكمال المطلق (السيد)، ولا النقص المطلق (العبد) ينطويان على الإنسان من حيث هو كائن ناقص مفتوح على ارتقاء لا متناه، ومن حيث هو وجود معنوي وحر مختار في هذا العالم. هكذا يسقط الوهم الذي يصوّر السيّد على أنه وجود حر؛ لأن الحر هو من يقيم علاقة ندِّيّة مع آخر هو حر أيضاً، أما السيد فهو من يستمد وجوده من العبد، وإذا ما غاب العبد غاب السيّد تلقائيّاً. وبما أن خلوّ العلاقة بين السيد والعبد من الإنسان قد يشكل المحرِّض الأهم للانعتاق منها؛ فإن انتفاض السوري توقاً وشوقاً إلى الإنسان، يعني اندثار سيده تلقائيّاً.

إن انعتاق السوري، قد يعني أولاً هدم بنيان قمعيّ زَجْرِيّ، وبنية “تفكير” أمنيّة/ استخباراتية، تمييزيّة، متعجرفة، متعالية، وإقصائيّة أفسدت المجتمع وخرّبت الإنسان السوري، والبدء تالياً في بناء دولة، يحكمها القانون لا غريزة السيطرة، وتنتعش فيها مؤسسات تُعلي من شأن الإنسان، من حيث اعتراف الجميع بالجميع على قاعدة المواطَنة.

 ****

 

الثورة والحرية

 هل الحريّة مطلبُ الثورة أم روحُها؟. يبدو أن هذا السؤال ليس إلا واحداً من جملة أسئلة وعِرة وشائِكة تنبثق عن ثورة كالثورة التونسية أو المصرية أو اليمنيّة أو الليبيّة أو السورية..؛ ويبدو أننا نحتاج، للإجابة عنه، إلى استيعاب كل واحدة من هذه الثورات بصفتها ثورة اندلعت في مُناخ “ربيع عربي”، تجلّت فيه الحرية لدى الشعوب الثائرة ممارسة أو فعلاً خلاقاً. فعلٌ انعتق، إلى حدٍّ كبير، من ربقة الأحكام المسبقة، وربما خلا من شوائب الأيديولوجيا وبراثن التفكير المغلق، كونه فعلاً لم تقده قوى أو أحزاب وجِهات منظَّمة؛ ما جعل الثورات تتميّز بعفوية صادقة، وقد تكون هذه العفوية هي نفسها الحرية، بعدما غادرت عالم المفارَقة اللامنظور ثم انبثقت فعلاً منظوراً له كثافة الواقع. إذ الحرية، في أصلها خفّة؛ وهي حين تصير “فعلاً” يمنحها الفعل نوعاً من الثقل، يمكّنها من التحريك والتأثير، على الأرض، من خلال الفاعلية الإنسانية، الفرديّة والجَمعيّة.

على الأرض السورية، التي شكّلتنا، وما فتئت تفعل ذلك، ما كان ليقوم للثورة قوام لو لم تكن الحرية قوامها ومبدأها، فهي داخلية، مباطِنة للثورة ومحايثة لها، مثلما هي استعداد دائم، ثابت، متوافق مع ذاته، ويُعلي من امتياز الإنسان. الحرية هنا ليست مشتقّة من نزوع يطلقه تصوُّر، وليست موضوعاً خارجيّاً تشرئبّ إليه الثورة؛ بل هي ذلك الجوهر الذي منه تستمدُّ الثورة وجودها وقيمتها، من حيث هي، أي الحرية، الدَّافع الدّفين لتعلّق السوريّ بذاته الثائرة، ومن حيث هي منبع شجاعته، واستعداد داخليّ يحضّ على فعل خارجيّ هو غاية لن تتجسّد إلا في موقف داخليّ للإرادة؛ مادامت الحرية لا تبارح، حتى في مبدئها، مجال الإنسان الفاعل، ولا تنشدُ أيّ خير خارج نطاق الاستعداد الإراديّ، ومادام الثائر السوريّ قد أسلس قياده لجموحها الذي لا كابح له. ما يعني أخيراً ردم الهوّة بين الحياة التأمّلية والحياة العمليّة، ليُستنتَج أن الحرية لا يمكن أن تكون ترَفاً.

****

إضافة إلى ذلك، الحرية في الثورة السورية ليست استدلالاً مجرّداً وجافاً، ولا شأن لها بالمصطلحات والشعارات الزائفة، وهي لا تتّسم حتى بذلك الاطِّراد، والتدرّج أو المرحليّة، بل تبدو كأنها انبثاق. انبثاق يندفع كسيل جارف، وتبدو قوّتها الحقيقيّة في انسيابيّتها غير الطّامحة لا للإقناع ولا للإفحام، كونها تندفع اندفاعاً يلجم كلّ تعثّر أو توقّف أو تمهّل، ويجرف عنوة كل ما من شأنه إعاقة المضيّ قدُماً، كما يردع الفكر عن الشّرود خارج الثورة. هكذا؛ تنجلي حقيقة “الحرية في الثورة”، لا من حيث كونها جزءاً من كل؛ بل من حيث هي كلّ يتوزّع على الكلِّ وفي الكل، وتدخل في بنية الثورة ومنظومتها وتتحكّم في العلاقات بين عناصر هذه المنظومة وتنظّم ذاتها بذاتها. مثلما تنجلي أيضاً حقيقة “الثورة في الحرية” من حيث هي وحدة مُثلى، مستكفية بذاتها وكليّة القدرة. وعلى هذا؛ فإنّ الاعتقاد بأنّ الحرية مطلب للثورة، اعتقاد واهِم وباطل.

****

أن تكون الحرية مبدأ داخلياً، لا غاية خارجية أو مطلباً موضوعياً؛ يعني أن هذا المبدأ يحرِّر المرء من التبعيّة للمواقف والظروف الخارجيّة المتقلّبة، التي قد تؤثِّر سلباً على معنويّاته وعزيمته. كان في مقدور الظّروف والمواقف المحلّية والإقليميّة والدوليّة العصيبة والمتواطِئة والرَّاغبة في إجهاض ثورة الديموقراطية في سوريا، أن تنال من عزيمة الثائرين والثائرات لو لم تكن الحرية مبدأ ثورتهم؛ لذا لم يكن في مكنة الرَّذيلة والضَّلال أن يشقّا لنفسيْهما منفذاً إليها طالما أنها داخليّة ومباطِنة للثورة. ولئن كانت الثورة والحرية متماهيتيْن؛ فقد توفّرت كلّ الأسباب التي تحرِّر المخيّلة وتمرّنها، وبهذا الضَّرب من مران المخيِّلة التي غُذِّيَت بهواجس النَّصر، اصطنع الثائر السوريّ لنفسه أفراحاً مستديمة جعلته يصبر على مآسي الرَّاهن. في المقابل، فإنَّ التوجّس من الآلام أو الخوف والرّعب أصبح المحرِّض الأساس لإشعال مخيّلة من شأنها تعميق الشّعور بالنَّصر. إنه الشعور بالوضوح وبالرّضى الرّوحي المصاحِب لحدس روحيّ متبصِّر حثّ الثوار في سوريا على مواصلة النِّضال والمقاوَمة ضدَّ آلة القتل الهمجيّة المتوحِّشة؛ وبذلك لا يعود الموت أعظم الشُّرور؛ بل يغدو، من حيث يدري الثائر أو لا يدري، جسراً يعبر من خلاله إلى الحياة الفذّة. فالحرية هنا مثل إيمان يقينيّ على أساسه نهضت الثورة السورية، بعد أن خلع الثوّار قيمة مطلقة على كلّ ما يربط وشائج الفرد بالحرية وجعلوا من هذه الرَّابطة شرطاً لا غنى عنه للثورة.

****

    عبر انحلالها في الحرية، أفسحت الثورة السورية المجال لتفجير الطّاقات الشعبيّة، وجعلت من السَّاحات والشوارع مسرحاً لحشود ثوّار يمارسون طقوس الحرية. فبعد كل مأساة تنقبض فيها الأنفس الحرّة في الحزن؛ يعود الغارقون في تعاسة تامّة لتنبسط أنفسهم فرحاً على قرع الطّبول وإنشاد الفرح في تحدٍّ صارخ لذوي الأنفس المتصدِّعة والعاجزة عن مكابدة الحرية. وفي حين نرى أن كل ما هو خارج الثورة قد اتّخذ طابع التشاؤم والوهن المتاخِم للامبالاة؛ بدا الثائر السوريّ كأن جسمه أصبح عصيّاً على أوصاب تهتصره، ونفسه لا يبلبلها تعاطف هشّ ورخو، والقدَر لا يمكن له أن يبدّد آماله أو يبيدها، فحتى نوائب القدَر تبدو كأنها متحدّاة من جانبه. وقد اتّشحت الثورة بغزير الصّور عن البطولات والشجاعة. يبدو أن “الانفعال” الثوريّ النَّاجم عن انقباض النّفس في الحزن وانبساطها في الفرح هو “عقل”، وحُكم، إن شئنا استعمال لغة الفيلسوف الرّواقي كريزيبوس، لكنه “عقل لا عقليّ”، متمرِّد على العقل. أي أنّ “الانفعال” الثوريّ هنا هو “عقل” جديد أساسه الحرية، يتمرِّد على”عقل” قديم، أمنيّ/سلطويّ، مُحَمَّل بمنطق الفساد والاستبداد والاستعباد.

****

ثمة نقطة حقيقة منّا بالإلحاح، فلما كانت الحرية تتأدّى، بحكم طابعها المرن والحيويّ، إلى نفي كل ما يناقضها من قمع وعنف وتصلّب وتشدّد؛ فإنك على خطأ عظيم من أمرك حين تقول: إن الحرية مطلب الثوّار، أو كما درج في وسائل الإعلام مثلاً، حين يُقال: “خرج المتظاهرون يطالبون بالحرية وبإسقاط النظام”. فإذا كان صحيحاً وصف إسقاط النظام بالمطلب، هل يصحّ الوصف نفسه في شأن الحرية؟ وكيف يمكن للحرية أن تُطلب ممَن اندلعت الثورة ضدّه، ومَن يختزن في داخله كلّ نقائض الحرية؟! هذا من جهة. ولمّا كانت سوريا – من جهة أخرى- قد حُكِمت بعلاقة “سيّد وعبد([4])” منذ زمن بعيد؛ فإنه لا يصحّ منطقيّاً، وتاريخيّاً، وواقعيّاً أن تُطلب الحرية من أسياد حكموا البلاد والعباد بالحديد والنار (عائلة الأسد). عدا ذلك، فالسيِّد والعبد كلاهما يستقي وجوده من وجود الآخر، وحين يختفي أحد طرفيّ هذه الثنائيّة، يختفي الطرف الآخر تلقائيّاً لأن العلاقة التي تجمعهما هي علاقة تضايُف، إذ لا يُفهم أحدهما إلا من خلال الآخر. لذا يجدر بالعبد (الشعب السوري) وقد وعى عبوديّته أن يثور على سيّده لا أن يطلب منه حرية غير موجودة لديه أصلاً. ثم إن الحرية لا تُعطى ولا توهَب منّةً من أحد لأنها نسغ الحياة الإنسانية، وبما أنها لا تُعطى؛ فإنه لا يمكن طلبها كموضوع خارجيّ يدلف على الإنسان/الفرد من خارج وجوده. الحرية إذاً: روح الثورة لا مطلبها.



  


هوامش:

[1]– ابراهيم القاشوش (19772011): شاب من مدينة حماة، نشط إبان التظاهرات الشعبيَّة السلميّة، في قيادة التظاهرات، وتأليف الشعارات المناوئة للنظام ورئيسه بشار الأسد وشقيقه ماهر وحزب البعث، وإنشادها أمام المتظاهرين في ساحة العاصي. لُقِّب بـ”بلبل الثورة”.
[2]– حمزة الخطيب (19972011): طفل من بلدة “الجيزة” في محافظة درعا بجنوب سوريا. تم اعتقاله عند حاجز للأمن، قرب مساكن صيدا في  29نيسان/أبريل 2011. عندما كان قادماً مع عدد كبير من المتظاهرين إلى درعا المدينة من أجل فكّ الحصار عنها. بعد مدة تم تسليم جثته إلى أهله، وبدت عليها آثار التعذيب الوحشيّ والرصاص الذي تعرّض إليه، حيث تلقّى رصاصة في ذراعه اليمنى وأخرى في ذراعه اليسرى وثالثة في صدره وكُسرت رقبته، ومُثل بجثته، وقُطع عضوه التناسلي.
[3]– سنتحدث بشيء من التفصيل عن هؤلاء الأطفال. أسماؤهم مثلاً وغير ذلك في المبحث الثالث، موضوع “15آذار18..آذار”.
[4]– يمكن في هذا الصدد مراجعة موضوع “الثورة والعبودية”.

أجزاء سابقة من الكتاب: 

الجزء الأول (1) – الجزء الثاني (2) – الجزء الثالث (3) الجزء الرابع (4