سُمِّيَ الموالون لبشار الأسد، "منحبكجية". اشتُقّ المصطلح من مفردة "مِنْحبَّك" التي طُبخت بمهارة في مطابخ الاستخبارات بعدما أُخرِج جيش الطاغية من لبنان عام 2005.
13 / أيار / مايو / 2021
*مع العدالة | علا شيب الدين
نشرت فصول هذا الكتاب بموافقة الكاتبة
(7)
الثورة والوطنيّة
ألوف التماثيل لحافظ الأسد، حُطِّمت أو أُسقِطت. كان أولها تمثاله في مدينة القامشلي 2004، وأضخمها ذاك الذي أُسقط بتاريخ 4آذار2013بمحافظة الرقة. مشهد هذا الأخير في أثناء تهاويه، ربما يذكّر بمشهد تهاوي تمثال الطاغية صدام حسين في بغداد، مع فارق جوهري يكمن في أن الأول أسقطته أياد سوريّة، بينما الثاني أُسقط بأياد أميركية إبان غزو العراق عام 2003. كل التماثيل في المدن والبلدات السورية المختلفة، شأنها شأن تمثال الرقة، حُطِّمت أو أُسقِطت بأياد وطنية، في الوضح، وتحت قرص الشمس الناري. لم يوثّق لحظة تحطّم أي تمثال أو سقوطه سيّاحٌ في أعناقهم كاميرات مدلاة، بل ناشطون سوريون حملوا أرواحهم على الأكفّ، وآثروا توثيق أحداث الثورة لحظة بلحظة، بواسطة كاميرات هواتف جوالة، وكان الدم المراق كياقوتة لا تقدَّر بثمن، ثمناً لإسقاط كل تمثال، وفداء لوطنية هي الحلم والثراء وفانوس خلاص وحرية.
التظاهرات الشعبية الحاشدة، المدنية السلمية، حتماً لم تكن في بلاد السند والهند، ولا كان أهلوها كائنات فضائية، بل هم أبناء درعا وبناتها مثلاً (مهد ثورة الحرية والكرامة)، وحمص (عاصمة الثورة)، وكفرنبل (ضمير الثورة). ليسوا عصابات مسلحة، ولا إرهابيين وتكفيريين، ولم يثوروا على المبايعة الأبدية لآل الأسد، من أجل مبايعة “القاعدة”، وقد لاقت –على سبيل المثال- مبايعة “جبهة النصرة”، زعيم التنظيم المذكور أيمن الظواهري بتاريخ 10 نيسان 2013، رفضاً قاطعاً، ورُفعت في التظاهرات لافتات تؤكد أن “الشعب السوري لا يبايع إلا الشعب السوري”، ثمة لافتة زرقاء اللون، رفعها أحرار بستان القصر والكلاسة في حلب في إحدى التظاهرات، تقول بوضوح:”الشعب السوري هو الذي يحدد شكل دولته ومستقبلها”، كما وقّع السوريون – وكنت أنا كاتبة هذه السطور، من بينهم- على بيانات ترفض كل التصريحات والبيانات الصادرة عن بعض الجهات الخارجية، التي من شأنها فرض أطروحات على الشعب السوري وتحديد شكل دولته ونظامها السياسي، منها إعلان تنظيم “القاعدة” على لسان أبي بكر البغدادي، تشكيل “الدولة الإسلامية في العراق والشام”(داعش([1]).
منذ اندلاع الثورة ما انفكّ السوريون الثائرون يهتفون: “خاين، خاين، خاين/ الجيش العربي السوري خاين”. لماذا يا ترى؟ لأنه جيش وطني، حماهم وحمى ديارهم وأرضهم وعرضهم، فكافأوه بهذا الهتاف؟! أم لأن هجمة النار الآتية من عراق المالكي وإيران و”حزب الله” لتشارك في حرق السوريين وقتلهم في مدينة القصير بمحافظة حمص وغيرها من المناطق السورية، ليست ارتزاقاً، بل “وطنية” مضاعَفة مضافة إلى “وطنية” القوات “الباسلة”؟!
استراتيجيا الغزاة، التسلل. يطنبون في الحديث عن الأخلاق والوطنية، لكن غالباً ما تثبت صحة استنتاج مؤسس التحليل النفسي، فرويد: “أكثر الناس حديثاً عن الأخلاق، هم أبعد الناس عنها”. فمَن يفرط في إلقاء الضوء على موضوع أخلاقي، جيِّد ومقبول لدى الناس، ويسخِّر الطاقات لتثبيته في الوعي، معناه أن ثمة أمراً مناقِضاً للمعلَن، يُراد إخفاؤه والتستُّر عليه. هكذا، كان النظام الأسدي دوماً يسلّط كل “أضوائه” على “فكرة” المقاومة. طويلاً جُنِّد السوريون، وزُجَّ بهم في سجن الطوارئ تحت ذريعة الحرب مع العدو الإسرائيلي الذي “احتُفِظ دوماً بحق الرد على اعتداءاته!”، وطويلاً حُرِموا حتى من أبسط الحقوق تحت اسم “الممانعة” التي منعت كل جميل ونبيل. بيد أن الممانعة “العظيمة” في الضوء، لم تكن في العتمة سوى خيانة “عظمى”. استناداً إلى استنتاج فرويد نفسه، فإن قول بشار الأسد في خطابه الأول في بدايات الثورة: “وإننا نؤكد في سوريا أن السلام الشامل، لن يتحقق إلا بعودة الجولان كاملاً”، إنْ هو إلا رسالة غزَل للإسرائيليين، مفادها: “وإننا نؤكد في سوريا إخلاصنا لكم. الجولان لا نريد استرجاعه كما تعلمون، لكن قفوا إلى جانبنا ضد احتجاج شعبنا علينا، وساندونا من أجل البقاء في السلطة”. في المقابل، ما رفْض الزعماء في أميركا وإسرائيل للأسد ونظامه في العلن، إلا قبول مطلق به في الباطن، وقد أثبتت التجربة أنه كان كلما علت أصوات تدعو الأسد إلى “التنحّي”، وتزعم أن “أيامه باتت معدودة”، ازداد التمسك في بقائه، على الأقل حتى ينتهي من تدمير البلد. يتخاصمون على المنابر، لكنهم خلف الستائر يتفاوضون ويخططون ويتفقون وينسّقون. وعليه، لم يكن مصادفة، ارتفاع منسوب التخوين للسوريين الثائرين، كلما ادعى زعماء غربيون دعم ثورتهم – مع أنهم لم يدعموا-، إذ كانوا بذلك يساندون النظام في تأكيد نفسه عبر تصنّع طهارة الوطنية في الضوء، في مقابل ضمان بقائه حارس إسرائيل في العتمة.
كان هتاف الثائرين السوريين: “إبن الحرام باع الجولان([2])”، من أشد الهتافات تعريةً للطهارة المصطنعة، والوطنية الباذخة في ماخور عهر، هكذا يمكن فهم قلق رئيس أركان الجيش الإسرائيلي في تصريحه: “انتهى الهدوء الذي ساد الجولان لمدة أربعين عاماً”. أما بالنسبة إلى الثوار في سوريا، فقد قرعوا طبول الحرية والكرامة، بعدما انتهى السكوت عن “وطنية” مختصة بعقد المجاملات، وإبرام العقود والاتفاقات على حساب الوطن والشعب.
– وطنية أطفال الحرية:
تجمع الأطفال والفلاسفة صفة الدهشة؟ طبعاً. فأطفال درعا هم أولئك اللذين التمعَ في عقولهم بريق سؤال الوطنية المتمخّض عن نظرة جديدة للوطن، قبل أن يغدو السؤال نفسه هاجس الملايين وإشكاليتهم. أطفال الحرية، كانوا مناضلين، كالثائرين البالغين، مثلهم اضطهِدوا، بعضهم قُتِل، بعضهم اعتُقِل، بعضهم اغتُصِب، بعضهم أمسى يتيم الأب والأم، بعضهم تشرّد، وبعضهم حُرِم اللعب والعلم. إلا أن سؤال الوطنية ظلّ هاجساً على ما يبدو، يعتور النفوس والعقول، يتنقّل بين طفلة ضاجة نعومةً وأنوثة في مخيمات اللجوء، ما انفكت إحدى القنوات الفضائية تعيد كلامها وكلام غيرها: “هون ما في شي حلو، هونيك عنّا أحلى”، وأخرى في أحد الأحياء المدمَّرة تقول: “بشار عبيبعتلنا طيارات لتقصف مدارسنا، بس نحنا جَكَر ببشار رح نتعلم بالشوارع، ورح نكبَر ونبني هالوطن”، ومراهق بعدما أصبح عاجزاً بدنيّاً يقول: “أنا صرت مُقعد، بَس مُقعد بحريتي وكرامتي، الحرية والكرامة عندي ياها هلّق أغلى شي، وما رَح إندم على الشي إللي ساويتيو لأن سوريا بتستحق إدفع ثمن أغلى”. “بَس أفهم، ليش عبيضربنا؟ يعني حكم القوي عالضعيف؟”، سؤال وإجابة دفعة واحدة، يختم بهما سرده عما جرى له ولعائلته في حلب بعد قصف بيته بصاروخ سكود، (نايف الحلبي)، الصبي الصغير الذي أجرت معه قناة “أورينت” مقابلة بتاريخ 27 شباط 2013. ما قصّه الصبي، برباطة جأش مذهلة، كان مرعباً، فقد قال مثلاً: “طْلِعتْ لقيتْ ميمتي أربع شقف”. الصبي، هو أحد نماذج “الإرهابيين” الذين استعرض “الممانعون” “قوتهم” عليهم!
لقد سحب سؤال الوطنية أولئك الأطفال من حياتهم الخاوية المعنى، ليضعهم أمام أحاجي الأنا والآخر والوطن الكبرى، ربما كاستجابة إلى صوت في عمق أعماقهم يقول “إن في الوطن لغزاً كبيراً.”
” الطفل أقوى، أوسع، أضمن قاسم مشترك بين كل الأغلبيات”، هكذا يعرّف ميلان كونديرا بالطفل في روايته “الهوية”. أطفال سوريا أقوى، أوسع، أضمن قاسم مشترك بين كل أغلبيات السوريين إذا ما أرادوا الإبحار بحثاً عن وطنية مفقودة.
إن قتلة الأطفال الذين يعادون ضروب اللعب واللهو، ويوجّهون جلّ مخزوناتهم من الحقد في اتجاه نسف الطفولة، هم الفارّون من كل أشكال الإنسانية والوطنية والكفاح، أولئك ينبغي سحقهم دوماً، كيف؟ بملاحقتهم ومحاسبتهم حتى لو لم يتبقّ في العمر سوى لحظة، بالثورة المستمرة…؛ فـ”من تحت الركام سيولد طفل ينشد حلماً.. يبني وطناً.. ليزهر ربيع الثائرين”، هذا ما قاله مَن ظلَّ حياً من أطفال بلدة حاس بريف محافظة إدلب، في لافتة تاريخها 22آذار 2013. رفعوها عالياً بعد تسلّقهم ركام بيوتٍ قصفها بشار الأسد قاتل الأطفال.
– التمثُّل الأسطوريّ للوطنية:
ذات يوم، بثّ التلفزيون السوري (تلفزيون النظام)، خبر خروج الناس في حي الميدان بالعاصمة دمشق إلى الشوارع بهدف “الاستسقاء”. بدا العقل المؤطَّر بالسلطة حينها، عاجزاً عن إيجاد تفسير علمي، واقعي لظاهرة التظاهر التي عمّت سوريا، فعمد إلى تفسيرها على أنها صلوات استسقاء، واستجداء إله المطر (حاكم البلاد)، لكي يبعث الأمطار (الإصلاحات).
سُمِّيَ الموالون لبشار الأسد، “منحبكجية”. اشتُقّ المصطلح من مفردة “مِنْحبَّك” التي طُبخت بمهارة في مطابخ الاستخبارات بعدما أُخرِج جيش الطاغية من لبنان عام 2005. اللافت، أن عقل “المنحبكجي” المستسلم لـ”الحب” المذكور، أثبت أنه غير قادر على فهم الوطن عبر فصله عن الرئيس “إله المطر”. كل ما يحبه رئيس الوطن هو الخصب والوطنية في ذاتها، وكل ما يمقته هو العقم والخيانة، وكل خارج على نص “الرئيس الوطن، والوطن الرئيس” عميل وخائن!
في إحدى أساطير شمال النروج، يُحكى أن إلهاً يُدعى تور كان يعبر السماء في عربة يجرّها تيْسان، وكان كلما طرق بمطرقته، أثار العاصفة والصاعقة، وأرسل المطر. وكان سكان الشمال “الفايكنز” يعتقدون أن العالم المأهول أشبه بجزيرة تهددها باستمرار أخطار خارجية، ويسمّون الجزء المأهول “ميدغارد”، أي أمبراطورية الوسط. تضم ميدغارد “اسغارد”، أي مقر الآلهة، على أطراف ميدغارد تأتي أمبراطورية “أوتغارد” التي تقع في الخارج، ويسكنها “الجبابرة” الخرافيون الذين يحاولون تدمير العالم. يُطلَق على هذه الشياطين اسم “قوى الفوضى”، وهي التي يتولى الإله تور مهمة القضاء عليها.
بلغة سورية معاصِرة، مستمَدة من واقع الثورة الشعبية، يمكن القول إن “الشبيحة” الذين طالما اعتبروا الرئيس بمثابة “إله المطر”، جنّدهم “الرئيس الإله” نفسه ليكونوا “مطرقته”. المطرقة هنا حتماً ليست لاستدعاء المطر، بل تشكّل سلاحاً ممتازاً في الصراع ضد الثوار الذين يسمّونهم “عصابات مسلحة، وإرهابيين”، أو “قوى الفوضى والجبابرة” بلغة الأسطورة.
يتضح أكثر التمثل الأسطوري لـ”سوريا الأسد” (ميدغارد التي تضم اسغارد) في نعت الثوار بـ”المندسّين والمتآمرين” أي “شياطين الخارج (أوتغارد)”، واتهامهم بأنهم يريدون تدمير أمبراطورية الوسط (سورية الأسد)، ولكي يتمكن “الرئيس الإله” من الانتصار على الثوار “قوى الفوضى أو الجبابرة”، يجب أن يُضحَّى بكبش يُقدَّم إليه، بحيث يصبح الإله أقوى. هكذا، عمد “الشبّيحة” إلى تقديم الأضحية تلو الأخرى من الأطفال والنساء والشباب والمسنّين إلى “الرئيس الإله”، حتى أن الأضحيات باتت ألوفاً مؤلفة. كان تقديم الأضحيات يتخذ أحياناً شكل المجزرة، وقد تعددت المجازر التي تعتمد طريقة الذبح بالسكاكين، ممهورة بطابع طائفي، مثل مجزرة قرية البيضا بريف بانياس التابعة لمحافظة طرطوس بتاريخ 2أيار 2013، حيث اقتُحمت هذه القرية المسالمة، وتمت تصفية المئات من أهلها. مجزرة مروعة، جاءت ضمن حملة “تطهير عرقي أو مذهبي” من شأنها إفراغ المنطقة من سكانها السنّة.
إن التصور المركزي لمقر الآلهة في الأسطورة، هو التصور ذاته المهيمن على رؤية الشبّيحة لـ”سورية الأسد”، كمركز يصارع “هامشاً- خرافة”، أي الشعب الثائر.
****
تصوُّر “الشبّيحة” نفسه، هو جزء من تصوّر أعمّ يطبع النظام العالمي “الحديث”، ويقسِّم العالم بين مركز وهامش، حقيقة وخرافة، آلهة وشياطين. هكذا، فإن مركزية النظام العالمي، لم تعترف بـ”الهامش، الخرافة، الشيطان” في سوريا، ولم تتعاطف معه، أي الشعب الثائر من أجل الحرية، الذي عاش ويلات المذابح والمجازر، لا بل كان في قمة المركزية تلك، مجلس أمن يطرق مراراً بـ”مطرقة” “فيتو” ذي وجهين، أحدهما معلَن (روسيا والصين)، والآخر مضمَر (إسرائيل، الغرب والولايات المتحدة على رأسه)، يتعاضد مع مَقر الآلهة (اسغارد) في سوريا، أي النظام ورئيسه.
****
– التمثل الحميمي للوطنية:
“في سوريا المستقبل: لن يكون هناك حكم أشخاص أو عائلات، سيكون حكم القانون فقط”. تلك كانت لافتة أهالي بلدة داعل بمحافظة درعا خلال إحدى التظاهرات. في اللافتة، إشارة إلى جوهر الثورة السورية وغايتها في آن واحد، أي القطع مع التمثل الأسطوري للوطن والرئيس، وبناء دولة الحق والقانون.
لقد ساهمت الثورة في تبديد الحتمية، وفتّت الثوابت، وأفرزت مفاهيم وطنية غزيرة تمهرها الحركة، وتطرح من الأسئلة أكثر مما تجيب. كل مفهوم ارتبط بثائر، بعدما أثبتت التجربة أن شراع الوطنية الذي يعالَج بجسد الثائر الحقيقي وروحه ودمه وكلمته، وحده الذي يؤمّن حسن اتجاه البلد، فالوطن يحتاج لإدارة ملاّح وطني.
أسئلة ليست عارضة، أثارتها الثورة، من مثل: من نحن؟ لماذا نعيش؟ فالسوري الثائر ما عاد ذاك الذي يعاني تلف “الوطنية” التي كانت تجعل كل الموضوعات الأخرى تافهة، وكانت تعتورها البلادة والكذب، وتبعث على السأم والاكتئاب من حيث هي تقريظ للحياة. فكأن السوري الثائر انتقل من “الوطن ليس لي، لا أبالي”، إلى “أشعر” بالوطن، و”كل ما فيه يمثل بالنسبة إليَّ قيمة كبرى”. إن أحداً لا يستطيع إخضاع المشاعر للتجربة أو منعها، فالشعور لا سلطة عليه، وهو بلا ترجمة واقعية خارج الشعور يمكن تلمسها والإحساس فيها كـ”شيء”. شعور السوري الثائر في وطنيته جعلها تنتقل من كونها خارجية، لتصبح داخلية، حميمة، وكما الإغواء الماكر تلتصق بالجسد والروح، بالعقل والعاطفة، وتساهم في تشكيل هوية خصبة خاصة بكل “شاعر” فيها.
****
الثورة والقيمة الجماليّة
في 6 نيسان 2012 رفع ثائرون في عامودا بمحافظة الحسكة شمال شرق سوريا، لافتة تضمّنت مقولة لوركا “ما الإنسان دون الحرية يا ماريانا؟ كيف سأحبّكِ إذا لم أكن حرّاً؟ كيف أهبكِ قلبي إذا لم يكن مُلكي؟”. كانت لافتة من بين ألوف اللافتات التي رُفعَت منذ اندلاع الثورة السورية، تكشف، في العمق، علاقة جماليّة عبَّرت عن تواصل روحي وجسدي بين الثائر والثورة؛ طالما أنها علاقة تعقد الصلة بين الواقع بكل قباحاته وبين الجمال، عبر معايشة جمالية بين الذات الثائرة وموضوع هذه الذات، أي الثورة.
بدت الثورة كأنها سعي من أجل انتصار الجمال والروعة على الشرّ والابتذال والقبح. ولعل انضواء التنوّع في الثقافة، والعلم، والدين، والطائفة، والقومية، والمنطقة، والعمر، والجنس، والعمل، والطبقة الاجتماعية داخل وحدة كلية هي ثورة شعبية، كان مصدر جمال الثورة من حيث هو انسجام. فجمالية الانسجام هنا تبدّت في وحدة المتنوِّع والمتناقِض (تيمّناً برؤية هيغل للانسجام). يُضاف إلى ذلك، التناغم بين حركة الفرد/الثائر كجزء كان على مرّ عقود ساكناً راكداً، وحركة الثورة ككلّ. مع انسجام الحركة بين الجزء والكل، غدت العلاقة بين الثائر والثورة حافزاً لإقامة علاقة جمالية بين الفرد وذاته، وبين الفرد ومجتمعه، وبينه وبين مثله الأعلى. إن الجمال هنا، وقد أصبح مع الثورة “حياة”، يكاد يقترب من الجمال في “الفن”، من حيث التوافق والانسجام. إذ الجمال وليد التوافق بين ما ينبغي أن تكون عليه الأشياء ووجودها الواقعي؛ فالثورة السورية جميلة بمقدار ما أفصحت عن انسجام أحاط بالزخم الشعبي الشائك والمتنوِّع. انسجام تبدّى في وحدة الشعارات والهتافات، ووحدة الأغنيات والألحان والرقص والتصفيق في التظاهرات، ووحدة إيقاع الجسد والروح. وهذا ما وجد تعبيراً عنه بين الشكل والمحتوى في الثورة.
****
تبدّى الجلال في الثورة في ما ولّدته الظاهرات غير العادية، والشجاعة غير المألوفة التي أظهرها الثوّار، من شعورٍ دفع إلى فرح غير عادي ممزوج بعاطفة التقدير العالي والاحترام، وولّد لذّة مركّبة من ألم ومتعة محفوفة بدهشة العقل الروحية. إلى ذلك، فإن جلال الثورة قد فاجأ العالم وهزَّه، كونه ارتبط بشعور الشعب السوري الثائر بقدرة الثورة على خلق واقع جديد يكون وليداً لقواه المبدِعة، ولمحاولته الارتقاء على ذاته، وتأكيد التصميم على الإمساك بمصيره وشروط وجوده في العالم. وقد بدا جلال الثورة أوضح من خلال تقابله مع دناءة نظام يسيطر عليه الجانب الغريزي والفظاعة والتشوّه والعقم وشهوة السلطة والمال. هذا من جهة.
****
من جهة أخرى، ارتبط الجلال في الثورة السورية ارتباطاً وثيقاً بالمأساة وبالموت. إنه الموت المأسويّ الجليل الذي لزم عن ثورة حرية وكرامة؛ فاقترن بـ”الشهادة” التي جعلته مبجَّلاً من حيث هو موت من أجل حياة، ومن أجل قضية عادلة. ما دفع بالثائرين إلى مقارعة السلطة التي ظنّت أنها بالقتل ستنهي طموح التغيير الجموح؛ ففضّلوا الموت الحر على عيش العبودية، وأنعشوا المخيال الديني الذي ألهب حماستهم الثورية كما بدا ذلك في شعار “عالجنّة رايحين/ شهداء بالملايين” . قد يحقّ لنا تشبيه موت ثائر سوريّ خرج محتجّاً ضد الظلم والطغيان، بتراجيديا جدّية جداً انتهت نهاية محزِنة تجسّدت في الموت الجليل؛ لكنها تراجيديا لم تولِّد لدى الباقين من الثائرين شعوراً بالألم والحزن الحقيقيين فحسب؛ بل كانت دافعاً هزّهم وعمَّق وعيهم ونقَّى عاطفتهم من أجل الاستمرار في الثورة؛ لأن موت الثائر هنا لم يكن موتاً للمثل الأعلى للثورة المتمثل في إسقاط النظام العسكري/ الأمنيّ، وتشييد دولة من شانها احترام الإنسان. وعلى هذا، تظلّ القضية التي مات من أجلها الثائر جديرة بأن يواصل الآخرون من بعده النضال؛ ما دامت قضية وجوديّة مصيريّة تمسّ جميع الثائرين. ومتى غدا المصير المأسويّ ثمناً مبرِّراً للانتصار الأخلاقي الذي أحرزه الثائر بموته؛ فإن شعار “الموت ولا المذلة” يُفصِح حينها عن ضرورة تاريخية تساهم في صنع المثل الأعلى للثورة. فالصراع المأسويّ بين النظام الجائر والشعب الثائر، حوّلت الفرد الثائر الذي يواجه الضرورة التاريخية إلى قوة تاريخية مقابِلة. المُلاحَظ أن المأساة التي تحدّث عنها أرسطو قديماً، والتي تجعل الناس أعلى مما هم عليه، قد نجحت فعلاً في جعل ثوار الكرامة أعلى مما هم عليه؛ وولّدت لديهم شعوراً أخلاقياً عميقاً، وموقفاً نقدياً ثورياً دفع إلى التفكير في مستقبل الدولة والفرد والمجتمع. وهذا ما يمكن أن نفسِّر به الإصرار على إسقاط “نظام” بذل قصارى بطشه من أجل تدمير سوريا، وتمزيق نسيجها الاجتماعيّ.
****
من الصراع المأسوي بين القديم (النظام) والجديد (الثورة)؛ نبعَ الهزل، كقيمة جمالية تصل بين الثائر والثورة، عبر العلاقة والمعايَشة الجمالية ذاتها. تجلّت الهزلية في الثورة السورية من خلال إبراز التناقض بين بَلى النظام القديم، ومطالبته مع ذلك بأن يُعامَل معامَلة الجديد الحيّ الذي يواصل مسيرة “الإصلاح”. ولأن الثائر اكتشف ذلك التناقض في الواقع؛ ولأنه تخطّى النظام القديم ولم يعد أسيره؛ آثر الضحك والسخرية. وقد يكون استبدال الثوار لنسبة الرئيس من بشار “الأسد” إلى بشار “البطة([3])“، أحد التعبيرات الحقيقيّة عن الهزليّة، كونها تضمَّنت تقويماً نقديَّاً أبعَدَ الثائر السوري عمَّا لم يعد يتمسَّك به، وما أصبح غريباً عنه بتحويله إياه إلى أمرٍ مُضحِك. وبما أن الضحك بحد ذاته ظاهرة فيزيولوجيّة نفسيَّة يلجأ إليها الإنسان أحياناً في أوقات المحن العصيبة للتكيّف إيجابياً مع مآسي الراهن بحفزٍ لقواه؛ فقد عمد الثوار إلى امتهان النكتة الذكيّة التي قد تساعد في تبديد مزاعم النظام بأنهم “عصابات مسلحة”. لعل الفيديوات التي صوّر فيها ناشطون في محافظة حمص (عاصمة الثورة السورية([4])، في جوّ كوميديّ ساخِر، أسلحة وقنابلَ ومدافعَ تم تصميمها من خضر وعلب عصير فارغة واسطوانات (في بدايات الثورة)، أمثلة قد تدلّل على علاقة جماليّة اتخذت من الهزليّة رابطة تربط بين الثائر وثورته. هزليّة طالت المجتمع الدولي أيضاً، ساخرةً من مواقف لا ترقى إلى مصاف ثورة بهذا الرقي؛ مثلما لا ترقى إلى مستوى شعب يتعرّض إلى حرب إبادة وجرائم ضد الإنسانية. لافتات كفرنبل بريف محافظة إدلب التي تضمّنت رسوماً كاريكاتورية، وعبارات سياسيّة فضحت تواطؤ زعماء العالم، تدخل في إطار الأمثلة المهمة على ذلك. إذ كفرنبل (ضمير الثورة السورية([5]) قدّمت لغة سياسية متطوّرة ولمّاحة، ما يؤكّد قوة الثورة في تحدّيها لشرور العالم بأسره.
إن انطواء الثورة على الضحك والنكتة، يحضّ المرء على التفكّر في صفات من مثل: التصلّب والتعصّب المشحون بإيديولوجيا الحزب الواحد، والعنت والعبوس والتجهّم، والقمع والاستبداد وغيرها من الصفات “الجدّية” التي تأصّلت في نظام “الصمود” و”الممانعة” السوريّ؛ مُفضيةً إلى كره هذا النظام للمرح والفرح والحياة. ما قد يدفع تالياً إلى عقد مقارَنة بينه وبين نظام الكنيسة في القرون الوسطى، الذي انصبّ كل تفكيره على العذاب الأبديّ وحياة ما بعد القبر وإقصاء كل ما من شأنه الفرح والحيوية. عبر هذه المقارنة البسيطة قد يتاح إمكان استشفاف عمق الثورة السورية، كثورة حياة تنتصر للإنسان الفرد “العادي”، وتُظهِر شقاء الإنسان المتجهِّم، العبوس، المثقَل المهموم بقضايا منافقة وإيديولوجيات عملاقة ضخمة، ووهم الإنسان الجامد الصامد إلى الأبد.
الثورة والسِّيادة
ما السيادة؟ مَن هي سيدة سوريا؟. لا تزعم هذه السطور بأنها تقدّم إجابة “شافية” عن هذين السؤالين، بقدر ما تحاول التعاطي معهما كمفتاحَين للتفكر الحرّ، والتأمّل دونما تحديد وتأطير، واختزال وقولبة وتنميط، فبالسؤال نتمرّد، ونفكّ من ثم، الحصارَ عن عقولنا. التأمل في السؤالين، من شأنه ربما أن يدفع العقلَ إلى إجراء مراجعةٍ نقدية تمعنُ في السلبيّ والإيجابيّ لما حدثَ على “أرضه”، أي العقل، خلال سنوات “الربيع العربي” المستمرّة، ذلك أن مفاهيم وتصورات كثيرة “انهارت” في الواقع داخل الذهن المكدود في الجسد المكدود، ونبتت تصورات أخرى جديدة، أو فلنقل، انفتحت آفاق للتأمّل في ما ينطوي عليه الذهن. أتاح هذا الانفتاح فرصةَ مجادلة ما في الذهن، مقارعته، ومناقشته، إلى آخر ما هنالك من سُبل التمرد على القديم والسائد والمهيمن.
كالفارق بين الموت والحياة، صار الفارق بين اصطلاح “السيدة الأولى” مثلاً، والسيدة الحرة. هذه الأخيرة في وجهها المشرق الأهم على الإطلاق، هي ثائرة، مهاجرة إلى ذاتها، ساكبةُ ضوءٍ في سهول ممتدة، نهاياتُها مفتوحة على سلاسل جبلية، مغسولة الروح من الشوائب، مانحة حياة، يصعب أن تفعل شيئاً “جميلاً وحقيقياً” ما لم يكن قلبُها قد خفق له، عظيمة بأعمالها “العليا”، حكيمة رحيمة يستصرخها المكروبون المعذَّبون، منصتة، تقود إلى النور المفضي بدوره إلى عالمٍ كلَّ الناس فيه دمهم، أو سائل الحياة في أجسامهم لونه أحمر، وقفتها سامقة، حضورها أنثويّ مرادف للوجود العميق للعالم. بينما الأولى، أعني “السيدة الأولى”، وهو اصطلاح درجت عادة إطلاقه على زوجات الحكام والملوك والرؤساء والزعماء، فهو شديد الارتباط بالسلطة في معناها الذكوري المتسلّط. شديد الارتباط أيضاً بالبذخ وبالقصور والمناصب والجشع الأعمى وتسطيح الحياة وتسخيفها والاستهانة بها وبالناس والعقول، وهو، على غرار العنصرية في تمجيد العرق الآري، ينطوي على تمجيد نسوة الحكام والزعماء والرؤساء باعتبار هؤلاء جميعاً، أصحاب دمٍ أزرق!
إن الإمعان في فحوى اصطلاح “السيدة الأولى” ومغزاه، يبيّن خطلَ الحكم على البشر بناءً على ترتيبهم وتبويبهم “أول. ثانٍ. ثالث…”، وقد تعمدتُ الحديث عن السيدة الحرة آنفاً، بادئةً بـ”هذه الأخيرة”، فقط لأساهمَ في الكشفِ أكثر عن هذا الخطل، إذ ليس عدلاً أن تكون هناك قواعد ناجزة ومسبقة الصنع يُحكَم على البشر من خلالها، فقد تكون “الأخيرة” أهم بما لا يقاس من “الأولى”. في ما يخصّ هذه الأخيرة، أعني الأولى، فقد برهنت ثورات “الربيع العربي”، أكثر فأكثر أن اصطلاح “السيدة الأولى” مترعٌ بالذكورية، أو هو في الأساس، من صنعِ ذهنيّة ذكورية، وحسبنا ربما أن نتأمّل ونفكر في الكيفية التي تصرّفت بها هذه “السيدة الأولى” أو تلك، حيال ثورات شعوبٍ مسالمة أرادت بعد طول ذلّ ومهانة، نزعَ حريتها من سجّانيها، والتمردَ على الواقع الظالم المفروض عليها كواقعٍ أبديّ. ثم نفكر ونتأمل تالياً، في الكيفية التي تصرفت بها هذه “السيدة الأولى” أو تلك، حيال مواجهة الأزواج(خصوصاً في سوريا)، أي حكّام هذه الشعوب الثائرة المسالمة، لهذه الثورات، بالقتل وبالتعذيب والتنكيل، بقتل الأطفال خصوصاً وتشريدهم، وتدمير البيت/الوطن، أو البلد الذي “يتسيّده” زوج هذه “السيدة الأولى” أو تلك، باعتباره رأس السلطة و”تتسيّده” هي باعتبارها “عقيلة” رأس السلطة؛ حسبنا أن نفكر ونتأمّل في ذلك كلّه، حتى نكتشف كم أن اصطلاح “السيدة الأولى”، نُحِتَ ليوائم تماماً السلطة في معناها الذكوريّ الحربيّ الاستعلائيّ البحت. فبدلاً من أن تكون “السيدة الأولى”، أولى فعلاً كامرأة، كأنثى حقيقية، كرمز للسلام والوئام، وراعية المتعبين فعلاً، نراها قد انحازت إلى الحرب، إلى الجيوش النظامية، إلى مناصرة المجرمين والقتلة الذكوريين ضد المقهورين والمحرومين والمظلومين. إن “السيدة الأولى” هي جزء من منظومة سلطوية متسلطة وذكورية، داخلة في تكوينها وتركيبها و”طبيعتها” و”جوهرها”، ما يعني صعوبة انفكاكها عنها.
****
بما أن للغة مهمات شتى، منها ما يرسم العالم في أذهان المتحدثين بها، فقد يحصل أن تتلاعب هذه اللغة بالوعي الذي يقع فريسة شبكة المتلاعبين بالعقول، خصوصاً تلك الوسنانة التي غلبها النعاس. وعليه، فإن اصطلاحاً من قبيل “السيدة الأولى” منحوت في الأصل لكي يوحي بالعظَمة والحشمة والوقار والجلال، وهذه المعاني كلّها توحي بها مفردة أخرى منحوتة على غرار الاصطلاح المذكور “السيدة الأولى”، أي مفردة “عقيلة” التي وردت معانيها التي تدلّ على العظَمة والحشمة والوقار والجلال في “لسان العرب”. لكن في هذا المصدر نفسه، ورد معنى آخر لمفردة “عقيلة”، ألا وهو “السيدة المخدَّرة”. قد يكون المعنى الأخير هذا، أقرب ما يكون لحال “السيدة الأولى”، و”خير” ما يوصّفها. إذ هي “سيدة مخدَّرة” بالفعل، تحرّكها خيوط السلطة الذكورية، بعدما انعكس “التخدير” الذكوريّ على روحها تشويشاً وإفراغاً من الأنوثة الحقة، فباتت مشاركة في الشقاق وإحداث العماء، ومنصرفة عن التفكير الجدير، عن كل تفكير. يرغمني هذا الانصراف عن التفكير هنا، على الذهاب إلى إحدى فيلسوفات المدرسة الفيثاغورية المبكرة، أعني ثيانو([6]) في قولها:” لَأَنْ تكوني فوق ظهر حصانٍ جامح، خيرٌ لكِ من أن تكوني امرأة لا تفكر..!. بالمناسبة، كل مبكّر، كل مبادر هو أنثوي، إذ المتأخر، ما يتأخر دوماً، مَن يقطع الصلة والوصل والتواصل، ذكوريّ طبعاً.
****
كنت “أتمشّى” في “الفضاء الأزرق الفيسبوكيّ” ذات يوم، حين مررتُ بأحدهم ينده على أمه في أبهى صورها. أمّه التي بزيّها التقليدي الحوراني البهيّ، الجالسة على كرسيّ خشبيّ، صافنة واضعةً يد على خدّها وأخرى آثرت مدّها برفق على طاولة أمامها، استوت عليها بضعُ صحون تحوي القليلَ من الأطعمة والحلويات. كان يناديها كتابةً قائلاً:” يا سيدة الصالونات، أيتها الحورانية، منتهى الرقي، أين أنتن يا نساء الزمن الجميل في حوران؟. خُيِّل إليّ أن من خلال “نداءٍ” من هذا الطراز، ومن خلال كل النداءات المشابهة، يكون بعضاً من السائد قد كُسِر مرة أخرى، إذ ليس ضرورياً أن تكون “سيدة الصالونات”، فقط من طراز مي زيادة مثلاً، أو ولاّدة بنت المستكفي، وغير هاتين الأديبتَين الجميلتَين المبدعتَين. إذ “أدب الحياة” من شأنه أن ينتج أيضاً سيدة مترعة بالحب، تكون في الآن عينه، “سيدة النواميس الثورية”، مزدانة بالحُلى العظيمة، ومدمِّرة بأجنحة العاصفة كمَن تنزل من علياء سمائها لتفرِّق بين الأخيار والأشرار وتفصل بين الحق والباطل، مشرقة، بزينتها وابتسامتها وألوانها وجمالها وسحرها تظهرُ قباحةَ بعض الذكور وحضورهم الثقيل في هذا العالم. هكذا تتبدَّد ربما الأوهام حول مفهوم “السيدة” الناجز، وإذ تتبدَّد الأوهام؛ تبدأ الحكمة، وتبدأ النشوة واللذة في مراقبة المفاهيم المضرَمة وهي تحترق بترنيمةٍ سحريّة أنثوية كإشراقةٍ في كهف. كنجوم مضيئة في ليالٍ رائقة.
– “إنما جئتُ لأدمرَ أعمالَ الأنثى!” كليمان السكندري([7]):
ترتسم في الذهنية العامة الذكورية في مجتمعاتنا على سبيل التخصيص، صورةٌ بشعة للمرأة، هي صورة المرأة الشيطانة الخائنة. حسناً، بما أن البلاد، هذه البلاد بالذات لها سيادة، وهي أوطان بمثابة بيوت لها كرامة و”حُرمة مقدَّسة”؛ لنا الحق في أن نسأل: مَن خان هذه البلاد منتهكاً سيادتها؟! مَن خان سوريا مثلاً؟ مَن انتهك سيادتها وجعلها في المهب الرهيب هذا؟! النساء؟ أم الرجال-الذكور؟ مَن يمسك بزمام السلطة والسلطان في هذا البلد، أوليس الذكور؟ أوليس النظام الحاكم في سوريا ذكوريّاً؟ لو أنّ النظام عندنا أنثوي الطابع والطبيعة، لو أنّ المرأة هي التي تحكم، لما انتُهكت سيادة سوريا، لأن المرأة تدرك جيداً بإحساسها الأموميّ الخارق أهمية “البيت” وحمايته وصون كرامته، كيف لا وهي في الأصل والأساس مصدر القيمة وروح الجماعة وعماد الأسرة. إن عنف المرأة عنف حكيمٌ للدفاع عن النفس فحسب، لكن حرب الذكور توسّعية من شأنها أن تمتد وتتمدَّد، لكي تتأكّد معها انتهازيات الحيازة وهرمية السلطة وتتجذّر!.
حين “عُسكِرت” الثورة السورية السلمية الشعبية، عنوةً بعد طول صبر على بطش قوبلت به قلّ نظيره، بدت الحياة كأنها قد انتقلت من طور الولادة إلى طور الإبادة، ومثلما حُرف مسار الإنسانية من عصر الأمومة والربوبية ومفهوم الأنثى الخالقة من غير ذكر، إلى عصر الذكورية والحرب والهيمنة، ثم راحت البشرية تحاول تصحيح المسار، كذلك الثورة السورية، حُرفت عن مسارها المدني الديموقراطي المسالم، ما يعني ضرورة تصحيح المسار أيضاً، وإعادة المحاولة كلّما فشلت أو أُفشِلَت. مثلما تهدد بقوة، روحُ الأنوثة سيادةَ الرجل – الذكر، كذلك تشكّل الثورة المدنية السلمية خطراً داهماً على النظام الذكوري العسكريّ أو الدينيّ.
****
أحد منتهكي سيادة سوريا، هو حزب طائفيّ إيراني- لبناني، اسمه “حزب الله”. بقدر ما يثير هذا الانتهاك السخطَ وكل أنواع الغضب أولاً، وضرورة المقاومة الحقيقية تالياً، لدى الأحرار أينما كانوا وانوجدوا؛ أيضاً يثير السخطَ أولاً وضرورة النقد الحازم تالياً، لدى الأحرار، استبدالُ اسم “حزب الله” بـ”حزب اللات”، من جهة خصومٍ لا يعرفون ما يقولون ربما، أو يعرفون ويستمرئون ويستمرّون في القول انتقاماً من الحزب المذكور ومن الأنثى دفعة واحدة. فـ”اللات” كانت واحدة من الآلهة الأنثى التي عبدها العرب قبل الإسلام هي والعُزَّى ومناة. الإلهات اللواتي وردَ ذكرهنّ في القرآن الكريم، في سورة “النجم”. يبدو أن استبدالَ “الله” بـ”اللات” هنا، له دلالات يكشف بعضها عن ذهنية تسعى إلى تبرئة “الله” باعتباره ذكراً، من هذا الحزب المجرم، وإضفاء سمة أنثوية على إجرامه من خلال نعته بآلهة أنثوية، أي “اللات”!. من ناحية أخرى، يدخل استبدال “حزب الله” بـ”حزب اللات” ضمن المعمعة السخيفة المعروفة، حيث كلّما شاء لهذا أو ذاك أن يهين رجلاً أو حزباً ذكورياً كـ”حزب الله”، لجأ إلى نزعِ القوة عنه المتمثلة بالرجولة، واتهامه بالضعف المتجسّد بالأنوثة. طبعاً وفق فهم أولئك للقوة والضعف، لا كما هما في “الحقيقة” وفي الطبيعة.
…. وهكذا يستمرّ تدمير أعمال الأنثى! وتستمرّ في المقابل مقاومة روحها الشِّعرية لهذا التدمير، حيث كلّما سرت ظنونٌ مفادها موتها، تروح روحها تنثر عطراً فوّاحاً يثير غيظ الكارهين وغيرتهم.
– الاغتصاب بوصفه اضطهاداً للتعيُّن:
بصوت هادىء مرتجف، سألَت ألمى شحود، خلال مقابلة أجرتها معها إحدى الفضائيات: “طيّب، ضرب فهمنا. تعذيب فهمنا. بس اعتداء جنسي ليش؟!”. بدت هذه المرأة الثائرة التي صارت قصّتها معروفة ربما. المرأة التي عاشت الثورة إلى أقصاها، والتي كانت الوحيدة ربما التي تكلّمت عن اغتصابها في معتقَلٍ تابعٍ للنظام الأسدي، علانيّةً بوجه مكشوف؛ بدت، بجسمها المشلول الممدَّد على سرير العلاج، كأنها في حال تأمّل في ذاتها العميقة، توجّه سؤالها إياه لنفسها، لا لمَن يُجري المقابلة، ولا للكاميرا والناس. سألتْ، ومع سؤالها سقطت دمعة وحيدة عتيدة من طرف عينها. دمعة واحدة وحيدة، وشَت بجروح إنسانية أنثوية غائرة هائلة تمور في أعماقها وبواطنها. جروح تلك المرأة، يصعب على غير المرأة، المرأة الأنثى، فهمها والشعور بها. مَن يدري؟ ربما لهذا السبب بالذات، لم تخرج في جنازتها، حسبما قيل إعلامياً، إلا امرأتان! أما أنا، كاتبة هذه السطور، فحسبيَ أن أقول لروح السيدة ألمى ولكل “ألمى”: لقد آلمني جسدكِ. فلتعلمي أنكِ تزيدين على شرفِ ثورةٍ اندلعت من أجل الحرية والانعتاق، شرفاً مضاعَفاً”. كلّ امرأة منّا سرّ كونيّ لا يملك موهبة اكتناهه أحد.
****
أحد الأسباب التي دفعت الأنظمة في دول “الربيع العربي”، خصوصاً في سوريا، إلى قمعِ ثوراتها الشعبية بالحديد والنار، كان تجسّد الجسد واستحالته جسماً، أي انتقال الشعب من مقولة وشعار وأدلوجة وفكرة مجرَّدة ومثال، إلى تعيّن، إلى حيّزٍ واقعيّ، مكاني حسّيّ، فعليّ، حيويّ، أنطولوجيّ، مشخَّص وله دور وفعل وفاعلية. وحيث أن جسد المرأة؛ مسيَّس ومؤطَّر بشكل مضاعَف، فقد كان القمع الأعنف هو ذاك الواقع على جسدها اغتصاباً، حين حاول هذا الجسد أن يستحيل جسماً، أي أن ينتقل من السكون إلى الحركة، أو من طور المفعول به إلى طور الفاعل، هنا كان لابد للسلطة أو النظام الحاكم، من اضطهاد هذا الجسد كمحاولة فظيعة مريعة لمنعه من أن يتعيَّن، فجرى اغتصابه وانتهاك سيادته. إن الغاية من الاغتصاب هنا، هي سلب “سيادة” المرأة الحرة على جسمها. إذ ممنوع عليها أن تكون “سيدة”.
****
ما يعمّق الجرح الأنثوي والإنساني، في ما يخصّ الاغتصاب عموماً، واغتصاب المرأة خصوصاً، هو أنه غالباً ما تغيب محاسبة ومعاقبة المنتهكين سيادة النساء. كأن الاغتصاب محميّ بقانون ذكوري!. تحضرني هنا الأسطورة الآتية: “في يوم من الأيام كانت الربّة إنانا قد تنقّلت عدة مرات بين السماوات والأرض، فأدركها التعب وبلغ بها الإنهاك غايته، فتمدَّدت في بستان، لتستريحَ تحت ظلال شجرة السارباتو الوارفة، فغلبها النوم، وكان شوكاليتودا صاحب البستان، يرقبها من بعيد، من بين فروع شجر السارباتو. فلما رآها منهَكة، وقد لعب الهواء بثوبها، فتعرّى جسمها، تسلّل إليها بحرص، واقترب حتى تأكد من أنها راحت في سبات عميق، من شدة التعب. فانتهكها جنسياً، وهرب. ولما صحت إنانا من نومها، نظرت إلى نفسها في فزع، فأدركت ما حدث، وعزمت على الانتقام من هذا الرجل الذي اغتصبها بهذا الأسلوب المخزي، وقرَّرت أن تصطاده بأي ثمن. أرسلت الربة ثلاث كوارث على سومر، الأولى ملء كل الآبار بالدم، حتى فاضت مزارع النخيل والكروم، كلّها دماً. والثانية، ريح عاتية وزوابع مدمِّرة. والثالثة غير مؤكدة (لأن سطور اللوح المسماري مهشَّمة في هذا الموضع) ومع ذلك كلّه لم تظفر إنانا بمغتصبها شوكاليتودا لأنه كان يذهب بعد كل كارثة إلى أبيه، ليستشيره فينصحه الأب بالاختباء بين أخوته ذوي الرؤوس السوداء، أي أهل سومر، وأن يلازم مركز المدينة. وأطاع شوكاليتودا نصائح أبيه، فعجزت إنانا عن الانتقام منه، ومضت باكية إلى مدينة إريدو مقرّ أبيها إله الحكمة السومري إنكي لتشكو له ما جرى معها.([8]) “.
في ضوء الأسطورة المؤثرة تلك، ربما يصير في الإمكان معرفة لماذا تلجأ المرأة أحياناً، كحلّ أخير إلى الاحتماء أو طلب الحماية من الرجل في مواجهة الرجل(لجوء إنانا إلى أبيها أخيراً)، بعدما تكون قد”أُفشِلت”، بطريقة تآمرية وضيعة، كلُّ محاولاتها في حماية نفسها بنفسها. يبدو أن هناك مَن يريدها أن تظلّ قابعة “تحت حماية”. في إعادة قراءة الأسطورة نفسها، لنا أيضاً أن نتساءل حول أسباب طلب الأب من ابنه المغتصِب ملازمةَ “مركز المدينة”. قد يكون مردّ ذلك إلى أنّ المركز هو رمز للسلطة، وبالتالي فالاغتصاب محميّ مباشرة من السلطة المركزية. معلومُ أيضاً أن مَن نقلَ الإنسان من التوحش إلى التمدّن هي المرأة، وعليه، ففي الأسطورة هنا، ما يشي بالانتقام من المدينة والمدنيّة، ومن الحضارة التي هي أصلاً مكان المرأة ومكانتها؛ من خلال جعْلِ مركز المدينة، ذكوريّ يقيم فيه ذكرٌ مغتصِبٌ للمرأة، ولأعمالها ومكانتها.
****
ثمة مسألة وثيقة الصلة بالاغتصاب، لا بدّ من الالتفات إليها أيضاً، ألا وهي مسألة “تسييس العرض”. كلّما اشتعل حدثٌ يهدد مصالح نظام ما، أو سلطة ما، أو حزب ما أو جماعة ما..؛ يروح الذكوريون يرفعون شعارَ “حماية العرض” وإلصاقه طبعاً بـ”حماية الأرض”، باعتبار أن العرض والأرض متلازمان، وكلاهما في حاجةٍ إلى حرث وحراسة ذكورييَّن. لكن من أبشع التناقضات في هذا الصدد، هو تسييس العرض، بحيث تصير “امرأتهم”، أي المرأة التي تقع في موضع الخصم أو العدوّ، مباحة مستباحة، وتختلف هذه الاستباحة بحسب اختلاف المصلحة والمنفعة سلباً أو إيجاباً، وما من اختلاف في ذلك بين نظام مستبد ذكوري عسكري، ونظام مستبد ذكوري ديني. قد يحصل، على سبيل المثال، في واقعنا هذا، أن يتبنّى زعيم حركةٍ دينية ما شعارَ “حماية الأرض والعرض”، وحين يحصل أن تُعتقل من النظام الذي يزعم هذا الزعيم وحركته، معارضتَه، امرأةٌ معارضة للنظام نفسه أو ثائرة حرة “مدنيّة” تنتمي إلى منطقة الزعيم وحركته نفسها، لا يحرّك هذا الزعيم وحركته الدينية ساكناً، لكن حين يحصل أن تُخطَف مثلاً امرأة “متديّنة”، يقيم الزعيم نفسه وحركته الدينية، الدنيا ولا يُقعدها. هنا بالذات، تظهر صورة “تسييس العرض” واضحة جليّة لا لبس فيها، ويظهر كذلك، إلى أي مدى يكره الذكور المرأة الحقيقية الثائرة الواعية بذاتها وبحريتها، ويخشونها، ويحاولون طمرها وغمرها كونها، من وجهة نظرهم، في حاجة ماسة إلى “تمكين” دائم ومستمر لا ينتهي!.
****
عبثاً ربما نحاول في هذا الزمان، احتواءَ الأحزان كي لا تحتوينا. لا شيء أثقل على النفس الحرة الحرّى من الرضوخ للأمر الواقع، لعل هذا ما يصيب وجود المرأة الحرة الثائرة بمقتل في المنفى الداخلي وفي المنفى الخارجيّ على السواء. تُرى أي أوطان بخيلة وقاسية هذه، التي لا تعطينا لو فرصة واحدة فقط لكي “يتعيَّن” فكرنا، حبّنا، شعورنا، قلقنا، حُلمنا، هاجسنا، نيّتنا الصافية، إخلاصنا، شغفنا..؟! إن الطيبة الفائقة من شأنها أن تجلب خذلاناً فائقاً، يجعل المرأة أحياناً كمثلِ مصباحٍ وحيد خافت!
هوامش:
[1] –منحَ النظام البعثي الأسدي، باعتباره أحد أقطاب التطرف والإرهاب، والظلامية والتكفير، التنظيمات الظلامية التكفيرية الأخرى كل مقوّمات وجودها، وهيّأ المناخات التي تسمح بـ”ازدهارها”. لكنه حرص على قمعها إذا تجاوزت حدوداً معينة، وهي لا بد من أن تتجاوز كل الحدود، كون التطرف لا يمكن حصره. هكذا، دخل كلٌّ من النظام البعثي الأسدي، والتنظيمات التكفيرية الأخرى في علاقة شديدة التعقيد، إذ ينفع أحدهما الآخر ويضرّه في آن واحد، ينعشه ثم يخنقه في حركة جدليّة مأسويّة.
باسم الدين الإسلامي، ارتكب تنظيم “الدولة الإسلامية في الشام والعراق” (داعش) مثلاً، في المناطق السورية المحرَّرة من نظام الأسد، كالرقة وغيرها، ما يتناقض مع احترام الحريات، وسعى إلى فرض ما لا يتواءم مع التكوين النفسي والعقلي والثقافي والأخلاقي والحضاري لدى المجتمع السوري المعتدل دينياً. مسانداً بذلك النظام البعثي الأسدي الذي كفّر باسم “البعث” الذي فُرض على السوريين طوال عقود، كل معارض له أو ثائر عليه وخوِّنه ودمّره أو أفنى وجوده. ساند هذا بدوره ذاك التنظيم وأمثاله، من خلال استمراره في قصف المدنيين في المناطق نفسها بالكيميائي وبالبراميل المتفجّرة وصواريخ سكود وكل أنواع الأسلحة. كلاهما متفق على ضرورة إفشال تجربة الحرية والديموقراطية في المناطق المحرَّرة.
[2] – يمكن مراجعة المبحث الأول، موضوع “اللغة بين نظام جائر وشعب ثائر”، (اللغة الثائرة والتعرية).
[3] – استبدل الثائرون السوريّون نسبة الرئيس بشار، أي الأسد، بـ”البطة” بعد تسريب مراسلات إلكترونية مع زوجته البريطانيّة المولد أسماء الأخرس، تخاطبه فيها بعبارة “يا بطة”
[4] – تقع حمص على نهر العاصي في منطقة زراعية خصبة هي سهل الغاب، تتوسط البلاد، وتصل المحافظات الجنوبية بالمحافظات الساحلية والشمالية والشرقية، وفيها أكبر عقدة مواصلات في سوريا بحكم موقعها، ما أكسبها موقعاً تجارياً مهماً، إضافة إلى العديد من المرافق الحيوية. ربما لهذا السبب سُمّيت حمص “عاصمة الثورة”. إضافة إلى ما تميّزت به الثورة في حمص من خصوصية وفرادة وزخم ثوري.
[5] – كفرنبل: مدينة، وناحية إدارية تابعة لمنطقة معرة النعمان في محافظة إدلب. كانت المدينة من أوائل المدن التي انتفضت وشاركت في التظاهرات السِّلميَّة ضد النظام ورئيسه, واشتهرت بلافتاتها المميَّزة والمعبِّرة، وبروح الفكاهة والنكتة لدى أهلها، ما جعل السوريين الثائرين يسمُّونها ” ضمير الثورة السورية “. تحرَّرت المدينة بتاريخ 10آب2012. كانت لافتاتها في البداية تحمل توقيع “كفرنبل المحتلة“، ثم “كفرنبل قيد التحرير“، وبعدها “كفرنبل المحرَّرة“، وصولاً إلى“الثورة السورية – كفرنبل“.
[6] – ثيانوTheano (حوالي 500 ق.م)، هي، إضافة إلى أريجنوت Arignote ومييا Myia، فيلسوفة من فيلسوفات المدرسة الفيثاغورية المبكرة أو الأولى أو الأصلية التي ظهرت في القرن السادس قبل الميلاد. من كتاب “نساء فلاسفة”، إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي 1996.
[7] – أحد آباء الكنيسة توفي سنة 612 م.
[8] – من رواية “ظل الأفعى”، يوسف زيدان.
أجزاء سابقة من الكتاب:
الجزء الأول (1) – الجزء الثاني (2) – الجزء الثالث (3) الجزء الرابع (4) الجزء الخامس (5)
الجزء السادس (6)