بين الحيوان الذي نكصت إليه الأنظمة، والإنسان المتفوِّق الذي اختارت الشعوب العبور إليه توقاً وشوقاً، ثمة من فضَّل البقاء (المطلق) في الوسط، جاهلاً أو متجاهلاً الهاوية. أولئك لم يوالوا ولم يعارِضوا، ووالوا وعارضوا، ربما طمعاً في الاستفادة من امتيازات الموالاة والمعارَضة، ففارقت النسبيّة معهم زمانها ومكانها، وغدت "نسبية مطلقة".
16 / أيار / مايو / 2021
*مع العدالة | علا شيب الدين
نشرت فصول هذا الكتاب بموافقة الكاتبة
(9)
المبحث الثالث:
إضاءة نقديّة على بعض المسائل الجدليّة والسجاليّة في الثورة السوريّة
الرأي والرأي الآخر
وبهَتَ زارا مجيلاً أنظاره في القوم ثم قال: ما الإنسان إلا حبل منصوب بين الحيوان والإنسان المتفوِّق، فهو الحبل المشدود فوق الهاوية. إن في العبور إلى الجهة المقابِلة مخاطَرة، وفي البقاء في الوسط خطراً، وفي الالتفات إلى الوراء، وفي كل تردُّد وفي كل توقُّف خطراً في خطر.
(نيتشه).
في أوقات الحسم، يدرك ذوو الحسّ السليم من البشر، أن التردُّد والحذر، محض غباء وهباء، فـ”المخاطَرة” التي تميِّز العبور إلى الجهة المقابِلة، غير مسموح بموازاتها و”الخطر” الذي يلفُّ البقاء في وسط الطريق، والالتفات إلى الوراء، لأن في المخاطرة شجاعة وتوقاً وتحريضاً، لكن الخطر نكوص إلى الحيوان، أو سقوط في الهاوية. ووحدها المخاطرة، تقي الحيوانيّة والهاوية في آن واحد.
أمام عواصف التغيير، نكصت أنظمة الحكم في العالم العربي، إلى بدائيّة حيوانيّة غريزية، فيما لم تحذر الشعوب الثائرة المخاطَرة، فعزمت على العبور إلى الجهة المقابلة، حيث الإنسانية العليا المتفوِّقة، وما عاد التردُّد في شأن البداية والوسط وارداً لديها، مادام الحُلُم المقموع المؤجَّل قد حانت لحظة حسمه.
****
بين الحيوان الذي نكصت إليه الأنظمة، والإنسان المتفوِّق الذي اختارت الشعوب العبور إليه توقاً وشوقاً، ثمة من فضَّل البقاء (المطلق) في الوسط، جاهلاً أو متجاهلاً الهاوية. أولئك لم يوالوا ولم يعارِضوا، ووالوا وعارضوا، ربما طمعاً في الاستفادة من امتيازات الموالاة والمعارَضة، ففارقت النسبيّة معهم زمانها ومكانها، وغدت “نسبية مطلقة”. احتمى هؤلاء بغطاء الاعتدال، عبر ادعاء سعة الصدر والقدرة على استقطاب الأضداد دونما إدراك لانصهارهم فيها جميعها، من خلال مساوَمات تغيب فيها ملامح الذات لصالح المنافع الوضعيّة الوضيعة. لم يدرك هؤلاء أن حياديَّتهم تلك لا تمتُّ إلى الموضوعية بصلة، لأن نسبيَّتهم كانت مطلقة. والخطورة كل الخطورة تكمن في النسبية وقد استحالت مطلقة. النسبية التي يجدر بها أن تكون نسبية فحسب.
وإذ تغدو النسبيّة مطلقة تستحيل مباشرة “حقيقة مطلقة” تُغيِّب الحقائق، وإذ تُغيَّب الحقائق يبدأ فرض الأنا عبر تقويض الآخر. وفي “الأنا” مثلاً، يلفت أحمد برقاوي إلى خطورة النسبية المطلقة، مبيِّناً تناقضها مع الموضوعيّة أولاً وأخيراً. فهي القول: “إن جميع أحكامنا نسبيّة، وبالتالي فجميع الأحكام لها حظ متساوٍ من الحقيقة، وعلى هذا، فالنسبية المطلقة ليست تعبيراً عن الحرية كما يُظن”. ولما كان لا اختلاف في أن “زوايا المثلث تساوي قائمتين” لأن هذا التعريف يمتُّ إلى العلم الذي يضيق حقل الاختلاف فيه؛ فإن الاختلاف في شأن شخصيّة الديكتاتور مثلاً يُدخلنا في معمعة النسبية المطلقة. يقول برقاوي: “هب أن أحداً قال إن ستالين هو المنافح الأكبر عن الحرية، وآخر أكد أن ستالين أكبر ديكتاتور شهده القرن العشرين، وطاعن للحرية، وقائل يقول: إن كلا الحكمين يعبِّران عن الموقف من ستالين، فالأحكام حول من هو الديكتاتور بهذا المعنى نسبيّة، ولكن إذا كان الأمر كذلك، فإن الحرية هنا قد غيَّبت مفهوم الديكتاتور ولم يعد لدينا أي معيار نقيس فيه درجة الحاكم الديكتاتوري ولنميِّز على أساسه الديكتاتور من الديمقراطي.([1])“
إن لَغَط النسبيَّة المطلقة اللازم عن غياب المعيار، عبر خلط الأوراق، ومَزْج الحقائق، وادعاء كل فريق لحرية امتلاكه الحقيقة، يجعل من الحقيقة ملكيّة خاصة، وبالتالي حقيقة مطلقة. إذ”تمييع” الحقائق الداخل في بنية النسبية المطلقة، لا يُميت الحقائق فحسب، بل يدفع إلى الظلم، فيقع الجَوْر والطغيان، وتحدث “التَّعميَة” السياسية والاجتماعية، لتبرز تالياً ضرورة الرَّدِّ عليها، غبر فضحها وتبيان الحقائق التي ميَّعتها النسبية المطلقة. والرد على التعمية، والتَّمييع وفضحهما، كان الجهد الجبَّار الذي آثر الثائرون والناشطون في سوريا مكابدته وتكبُّد عنائه.
****
في سوريا، كما في كل دول “الربيع العربي”، عادت السياسة إلى الشارع، في معنى ما؛ فاندلع الرأي والرأي الآخر، وتواجهت الـ”لا” مع الـ”نعم” لأول مرة، بعد سواد الأخيرة عقوداً طويلة، و”اقتحم” المُناخ العام قولٌ حق أُريد به باطل، عبر التأسيس لوعي زائف يبرِّر الـ”نعم” ويكرِّسها لتبقى كما كانت، هي السائدة فحسب، القول مفاده: إن لكل شخص الحق في الاختلاف، وفي أن يصرِّح بما يشاء، وما علينا إلا أن نحترم الرأي الآخر وأن نقبله. كان السؤال المؤرِّق ربما، بالنسبة إلى بعض التوَّاقين إلى الحرية والتغيير: هل فعلاً علينا قبول أي رأي آخر لمجرَّد أنه رأي آخر؟. كان الحسم في هذا الشأن صعباً ربما، من دون التعاطي النقدي ومفاهيم اقترنت أيما اقتران بالحداثة، من خلال الانطلاق من الحداثة نفسها، كتجاوز مستمرٍّ للذات. إذ مفهوم “حق الاختلاف” يبدو كأنه يسمح بتجاوزه من خلال قراءات غير محدودة، قد تتكشَّف بعدها فضاءات غير محدودة أيضاً. فرفعِ القيود عن حق المرء في الاختلاف في ما يخص حياته الشخصية، مثلاً، أو في ما يتعلَّق بإبداعاته الخاصة كالأدب، لا بدّ أن ينتهي متى قارب حق الاختلاف الشأن العام، ليُقنَّن بضوابط ومعايير تمنع إطلاقه، إذ حق الاختلاف في ما يخص الشأن العام، ليس حقاً مطلقاً.
بدت مسألة قبول الرأي الآخر، أعقد مما يُظن، مادام الرأي لابد أن ينمو في سياق كلِّي حُر. فقبول الرأي الآخر، بالنسبة إلى الثائرين، كان يشترط، على الأغلب، أن يكون الرأي الذي يجب عليهم أن يقبلوا به، حراً، بمعنى ألا يكون تابعاً أو نابعاً من سلطة ما مفروضة على صاحبه من حيث يدري أو لا يدري. إذ لكي تكون حراً/ة، يجب أن يكون الآخر أيضاً حراً/ة. فالحرية لم تكن لتقوم من وجهة نظر فيلسوف وجودي من مثل (ياسبرز 1883-1969)، لو لم يكن ثمة اتصال بين الحُريّات، حتى يكون لكل منها موقفها بالنسبة إلى ما عداها من الحريات، كون الحرية لا تقوم في الخلاء. معنى هذا، أنه لا قيام للحرية إلا بصراعها ضد القهر أو الضرورة أو الإلزام. لأنه لو اختفت العوائق تماماً، أو لو هُزِمت الضرورة نهائياً، لكان في هذا موت مُحقَّق للحرية نفسها، إذ الرأي المستقل لا يعود له معنى إن لم يأتِ في وسط مناخ كليّ حُر ومستقل، وحين لا يعود للرأي المستقل معنى؛ تطفو الحاجة إلى إعادة النظر في مسألة “قبول الرأي الآخر”.
تحت ذريعة حق الاختلاف، وقبول الرأي الآخر، ثمة مَنْ اعترض بالقول: إن تأييد حاكم ما وموالاته، رأي، وإن النسبيّة، أي إثبات ونفي التأييد والمعارَضة، رأي أيضاً. حقاً إنها آراء، ولكن يشترط الرأي، كما رأى الثائرون، الحرية والاستقلال في مجتمع يكون كل أفراده أحراراً، وهذا ما يوفِّره نظام حكم ديمقراطي، حينها يمكن الاعتداد برأي يؤيِّد نظام حكم قائم أصلاً على الرأي والرأي الآخر، ولكن مع نظام حكم استبدادي، يمثِّل قمع الرأي أحد أهم مرتكزاته، لا يمكن الوثوق برأي مؤيِّد ولا نسبي حتى. هكذا تم توصيف من ينافح عن السلطة أو النظام ورئيسه، بـ” البوق”، أي الأداة التي يصل صوت السلطة من خلالها، مادام الرأي هنا غير وارد من دون أوامر تُعطى إلى صاحبه قَبْلاً وبشكل متواتِر وممنهَج، ومادامت هناك دوماً برمجة عصبيّة لغوية سلطوية.
****
أن أقبل الرأي الآخر أو لا أقبله، يعني أنه عليّ أن أكون حراً/ة، بمعنى أن يكون لي الحق في أن أقبل أو لا أقبل. لذا يُفضَّل تحديد الحق أولاً لكي لا تنزلق الأمور إلى “النسبية المطلقة”. إذ الحق حكم، وإذا كانت البداهة أو الوضوح معياراً للحق، فإنّ الحكم الصادق هو الحكم الواضح بذاته، أو بما ينطوي عليه من بداهة بنفسه. فإن كان لا يمكن لأحد أن يشكِّك في أن “زوايا المثلث تساوي قائمتين” مثلاً، فإنه لا يمكن لأحد أن يتنكَّر أو ينكر أن احترام حقوق الإنسان، حق، وشرط للمواطَنة. في المقابل، على الآخر أن يكون حراً/ة أيضاً، بمعنى أن يكون رأيه، طرحاً خاصاً به، وأن يكون قادراً على التدليل والبرهنة على رأيه بحرية. أو قد يكون الرأي تبنِّياً، ليست بمشكلة، لكن لا بد أن يلزم التبنِّي عن إرادة حرة. إذ الحرية تقتضي الخلاص من نزعات السلطة والتسلّط، ومن الأنانيّات المرتبطة بالغايات الضيِّقة التي من شأنها عدم الاعتراف بحق الآخر في الوجود والانتفاع، والمواطَنة. تبرز هنا الحاجة المُلِحَّة إلى التفكُّر النقدي المشكِّك والممتحِن لما يُعرَض من روايات متعدِّدة ومختلفة، ليتمكَّن العقل من تفكيك أوصالها، وليتبيَّن تالياً تماسك بنيانها المنطقي من عدمه، خصوصاً أننا ننتمي إلى عصر أدنى ما يُقال فيه، إنه عصر تكنولوجيا وإعلام، إذ غالباً ما تُقدَّم المعلومة، أي معلومة، وخصوصاً المعلومة السياسية، كـ”إقناع” مُسنَد بمكر ودهاء، إلى حجج منطقية وعقلانية تبدو في ظاهرها متماسكة، لكنها ليست كذلك في حقيقتها. تجدر الإشارة، في هذا الصدد، إلى أن الإمام الغزالي، مثلاً، كان قد تعمَّق في مناهج الفلاسفة، وفي آليّات تفكُّرهم، وأتقن منطق الجدل والحُجّة والبرهان. مع ذلك، لا يمكن القول: إن الغزالي فيلسوف، مادام الغزالي إماماً يمثِّل حجَّة للإسلام، كما لا يمكن الإنكار أن كتابه “تهافت الفلاسفة” ليس إلا كتاباً ضد الفلسفة والتفلسف.
إن مَنْ لا يبالي بالديموقراطية ونهجها، قد يتبنّى رؤاها شكلاً، ما دامت رؤى قد تلقى قبولاً ورواجاً في عالم مفتوح وكل ما فيه مفضوح، ولا بأس عندها من مغازلة الآخر من مثل: الغرب “الديموقراطي”، أو متبنّي الديموقراطية، عبر اختطاف وتسييس مفاهيم الديموقراطية والحداثة والعَلمانية، وإطراب آذان المدافعين عن الإنسان وحقوقه، أو المتوجِّسين من الجماعات الإسلاميّة المتطرِّفة، ومن الإرهاب. ذلك هو النهج الذي سار عليه النظام في سوريا، قبل اندلاع الثورة 2011، وبعد اندلاعها. لكن في عالم مفتوح وكل ما فيه مفضوح، بدا النظام ساذجاً، حين اعتقد، أو أراد أن يعتقد، أن آلة البطش التي خلفه غير مرئية، وأن ادعاءه العَلمانية والحداثة واحترام حقوق الإنسان، محلّ ثقة وتصديق واحترام.
أياّ يكن، فقد كان السوريون التوَّاقون إلى الحرية والتغيير من ذوي الحس الإنساني رفيع المستوى، كانوا على دراية بأنه لَمِنَ الانحدار الأخلاقي، أن يتم قبول رأي مدعوم بأدلة “انتقائية” تبرِّر القتل والاعتقال والاغتصاب والنَّهب والسَّلب والتجويع والتشريد والتهجير وتدمير المدن والبلدات السورية المختلفة، إمعاناً في خدمة هدف أوحد ونهائي يجعل من سلطة آل الأسد، سلطة أبديّة. إذ لم يكن وارداً، بالنسبة إلى أولئك الأحرار، قبول “رأي” – يقصد أو لا يقصد، وكائن من كان صاحبه- يصبّ أخيراً في بقاء نظام الاستبداد والاستعباد، أو في بقاء رئيس ذلك النظام، لمجرّد أنه رأي آخر، لأن في ذلك نكوصاً إلى الحيوان، أو سقوطاً في الهاوية، حيث البؤس المطلق.
التفاؤل والتشاؤم
1
في أغلب المناظرات، والتَّصريحات، والسِّجالات، والنقاشات، والجدالات، والتفكُّرات التي قاربت الحدث السوري الذي تفجّر في آذار2011، في صيغها العامة والخاصة، المكتوبة والشفاهيَّة، المقروءة والمسموعة، النظرية والعملية، تبدّت رؤى متفائلة وأخرى متشائمة. وكلتا الرُّؤيتين المتشائمة والمتفائلة بدتا كأنهما استطالة لكلٍّ من طرفَيِّ الصراع الوجوديّ الرئيسَين في سوريا، أي، النظام الجائر والشعب الثائر، إذ مراراً أعلن النظام ورئيسه أنها “خِلْصِتْ”. كنوع من “التفاؤل” أو ربما طمأنة المتضامنين معه في الداخل، والواقفين إلى جانبه في الخارج، لكن “الأزمة” كما درج على تسميتها النظام وقوى السيطرة في العالم، هي (ثورة) بالنسبة إلى الشعب الثائر، وفي التاريخ لم يحدث أن تمكّنت سلطة من قَمْعِ ثورة شعبية، كما أنه من غير الوارد منطقيَّاً وواقعيَّاً أن “تخلص” الإرادة الحرة أو تنفد، ما يعني النصر المؤكَّد والحرية. تلك هي الصيغة المتفائلة التي واجه بها الثائرون تفاؤل النظام. وبين التفاؤلين “النظاميّ” و”الثوريّ” ثمة فوارق أصيلة، لعل أهمها أن الأول بدّد نفسه بنفسه، كونه حسماً نظريَّاً مسبقاً، يترفَّع عن الواقع الحيّ وينكره، وقد كذَّبه أيضاً استمرار الثورة واتِّساعها وتجذُّرها، في حين أن الثاني استشرافيّ، تأمليّ، مستقبليّ ينطلق من التجربة الحيّة، ومن الواقع الضَّاج بالحدث. الواقع الذي بدا كأن التفاؤل الثوريّ يحايثه ويتسامى عليه، بهدف التخلّص منه نقلة نقلة في اتجاه “الخَلاص” أو ما يشبه (النيرفانا([2])، بعدما عاش الثائرون تجربة اهتداء شخصيَّة نمّت في دواخلهم مهارة التجاوز الضرورية من أجل مواصلة النضال، والصمود أمام المآسي. إن التفاؤل الثوري هنا، هو تفاؤل “الخَلاص” الذي يناقض تفاؤل الـ”خِلْصِتْ”، أي التفاؤل بمعناه النظاميّ، إن جاز التعبير، فالخَلاص خِفَّة وحرية لا يُتَصوَّر نفادها، كما أنه خروج من مرحلة ودخول في مرحلة أخرى أكثر رقيّاً، بعد عبور سلسلة من التجارب القاسية، لكن “خِلْصِتْ” إعلان عن نفاد، عن حتميّة ميِّتة، عن تطرُّف وحدٍّ ونهاية وهاوية، وعن قنص الواقع الحي ودفنه في الماضي، لا سيَّما وأن “خِلْصِتْ” كانت من نتاجات تغييب الواقع، إذ السلطة الأسدية ما برحت منذ اليوم الأول لاندلاع الحدث في أواسط الشهر الثالث لعام 2011 تتحدَّث عن محاربتها “مؤامرة خارجيّة” و”عصابات مسلَّحة” غير موجودة أصلاً، وهنا يظهر التباس “التفاؤل النظامي”، فالسلطة بدت للمتلقّي كأنها في حرب مع أشباح، حيث تغيب هوية الخصم الواضحة والمحدَّدة المعالم، بينما بدا “التفاؤل الثوري” واضحاً جليّاً، كون السوريُّون الثائرون أعلنوا منذ البداية، على الملأ، أن خصمهم النظام ورئيسه، وأنهم يريدون إسقاطهما.
2
في قبالة المتحمِّسين الثوريِّين، هناك القانطون واليائسون والعازفون، من طراز القائلين مثلاً: “رجَّعونا لورا عشرات السنين، هاي هيي الحرية إللي بدّن ياها؟” أو القائلين، كرد فعل على الدمار والخراب، والدماء والأشلاء: “ريتها ما كانت الثورة. كنّا عايشين بأمان ومستورين”. قد تكون تلك المواقف مبرَّرة نوعاً ما، ربما بسبب اعتياد أولئك على العيش، عقوداً طويلة، تحت إمرة عائلة مالكة/حاكمة أمسكت بمقاليد السلطة بلا منازِع. والاعتياد، على المدى الطويل، من شأنه دفع المرء صوب التَّراخي واللامبالاة، والتَّسليم بالواقع كما هو مع غياب تام لأي حسٍّ نقديّ وإنسانيّ وأخلاقيّ. وقد ضاعفت وحشيَّة النظام غير المسبوقة، على الأقل في العصر الحديث، في قمع الثورة، ضاعفت من الإحساس بالعجز لدى البعض، والميل إلى الإلقاء باللائمة على الثائرين الحالمين بالعدل وبالعيش الحر الكريم، وتحميلهم وِزْرَ ما لحق بالبلاد من خراب، خصوصاً أن الثائرين لم يتمكَّنوا، بعد مرور سنوات على ثورتهم، من تحقيق الهدف الرئيسي، أي رحيل الرئيس، ما جعل صورة الثائرين في ذهن أولئك المتشائمين تبدو ضعيفة، على خلاف ما حصل في ثورات أخرى من ثورات “الربيع العربي” والتي لم تدم طويلاً حتى أسفرت عن هروب طاغية (بن علي)، وجَبْر آخر على التَّنحِّي ثم البدء في محاكمته (مبارك)، وقَتْل ثالث (القذافي)، وخَلْع رابع بعد حرقه (صالح). يُضاف إلى ما سبق، تنامي وحدة الشعب السوري الثائر وتجلّي “يُتْمه” بوضوح، بعد مرور فترة طويلة جداً على اندلاع الثورة فشلت خلالها أو أُفشِلَت كل المساعي والاجتماعات، والمؤتمرات..؛ المحليّة والإقليمية والدولية الرَّامية إلى حلِّ “الأزمة” ووَقْف “العنف”، نتيجة غياب الإرادة الفاعلة والفعليَّة في الحل. ذلك كله وغيره، دفع إلى تصوُّر النظام كأنه فاطر الإرادة الشريرة، ويستحيل لإرادة أخرى أن تنتصر عليها أو تفوقها. لكن تبقى مثل هذه النظرة المتشائمة كليَّاً أو جزئيَّاً، بالنسبة إلى المتفائلين، كأنها عِلْمٌ ميِّت لا يبارح السطح، أو كأنها موقف “لا أَدْرِيّ” يشكِّك في الثورة ويقلل من شأنها ومن شأن ما فعله الشعب الثائر وما أنجزه. هذا من جهة. ثم إن الذي ثار، من جهة أخرى، ما كان ليثور لو لم يكن خراب “الدولة” قد أتى على الأخضر واليابس. لذلك، فإن التمدُّن، أو ما يظنُّه المتشائمون حيال التغيير “نِعَماً” كانوا يغرقون فيها قبل الثورة “المشؤومة”، لن يكون تمدُّناً حقيقياً، من وجهة نظر المتفائلين بالتغيير والمؤمنين بالثورة، إن لم يرتبط بالحرية، إذ الحرية بالنسبة إلى أولئك المتفائلين شرط من شروط التقدُّم، فـ”مَن يخشى الحرية خوفاً على أمنه، فإنه لا يستحق الأمن ولا الحرية”. إن “الرجوع إلى الوراء” الذي تكلّم عنه ذوو المنطق المتشائم، الذين صبُّوا اللَّعنات على مَنْ ثار وكان السبب في دمار البلاد وخرابها، وتدهور الأوضاع المعيشيَّة والصحيَّة والتعليمية وغيرها، لم يروا، من وجهة نظر المتفائلين الراغبين في التغيير، أن للتمدُّن والتقدُّم وَجهَيْن، مادي ومعنوي، فلو أن العدالة الاجتماعية والكرامة والحرية والديموقراطية والقضاء العادل المستقل والتداول السِّلْميّ للسلطة..؛ لو أن ذلك كله كان موجوداً لما ثار الشعب. ويبدو أن وجهة النظر هذه تتقاطع وآراء مفكِّر من مثل (رفاعة رافع الطهطاوي 1801-1873)، فالطهطاوي أيضاً يرى أن التقدُّم له وجهان: ماديّ، يتعلق بالمنافع العمومية كالزراعة والتجارة والصناعة والعمران والمرافق وغيرها. ومعنويّ، شديد الصلة بالحرية وبالأخلاق والآداب، وكلاهما متمِّم أحدهما الآخر. في الثورة، بالنسبة إلى المتفائلين، كل شيء تتَّصل حلقاته: كبرياء الثائرين وحماستهم، حميا الذين انخرطوا في العسكرة مثلاً، قنوط الإنسان العاجز عن الانخراط في الثورة، الضّجَّة التي تصاحب كل انتصار أو تقدُّم جديد للثورة، رغبة الثائر في الهدم الخالص وعزمه على أن يكون فوق الراهن دوماً، الزُّهو بالنفس الذي أدى إلى ظهور مُثل عليا جديدة لم يعرف معها الشباب الثائر أي نوع من أنواع الصبر أو ربما الهدوء البارد الذي يطبع شخصيّة المعارض السياسيّ التقليديّ مثلاً، إذ يجب أن يعيدوا بناء عالمهم الخاص في أسرع وقت ممكن، وهُم في الوقت نفسه غير مؤطّرين بإيديولوجية محدَّدة قد تشكِّل خطراً على نقاء عواطفهم، كونهم لا يؤمنون إلا بما يسنُّونه لأنفسهم. إن جملة هذه العواطف المتوهِّجة، المتقلِّبة، القلِقة وجوديَّاً، المتضارِبة، هي ما يمكن أن يُطلق عليه اسم الثورة، تلك النار الشاملة، التي نخطىء إن اعتقدنا أنها مجرَّد مرحلة،لأنها تطال كل شيء، وهي مصير فرديّ وجماعي بما اتَّسمت به من احتدام مركّز، وحسٍّ بأهميتها الاجتماعية الأساسية، وثقل في تأثيرها الإقليمي والعالمي ليس المحليّ فحسب، ومضيّ في هتك حُجُب النظام السوري كجزء من نظام عالمي قائم، على ما يبدو، على السيطرة والعدوان والغَلَبَة.
3
إن الرَّيبة حيال أي تغيير، الناجمة عن “الرؤية” المتشائمة، إضافة إلى أنها دفعت بمتبنِّيها إلى عدم الاكتراث لمستقبل سوريا وفقدان الثقة به، كونه غير معنيَّ أصلاً بقيم الديموقراطية والحرية والعدالة التي قد تحلّ على الناس مستقبلاً؛ فإنها أيضاً، أي الرَّيبة، انقلبت قنوطاً ويأساً جعلا الريبيّ موهَن القوى، وغير مكترث للرَّاهن. الراهن الذي تعصف به الموبقات والرذائل والمفاسد والشرور من قتلٍ وذبح وتهجيرٍ وتشريدٍ وتجويع واغتصاب واعتقال ونهب وسلب وحرق وتدمير، وجهد حثيث من النظام من أجل وأدِ البلاد تاريخياً وحضارياً وثقافياً. ما يعني في نهاية المطاف، ضعف الإرادة والعجز عن الانتماء إلى الثورة، أو إلى أي شكل من أشكال التغيير حتى. على أن المأثور الثوري الذي تراكم على مدى سنوات من عُمر الثورة، قد مكّن من تقديم الدعم الذي يُشَرْعِنُ “الرؤيا” المتفائلة المتجاوِزة مِحَن الراهن، والمنطلِقة مما حققته الثورة من مكتسبات سياسيّة وأخلاقيّة. ومن مفارَقات الثورة السورية الكثيرة والنَّادرة، أن مَن عاش في وسط الميدان الثوري، وتحت القصف، أو مَنْ خرج من تحت الأنقاض، كان، على الأغلب، متفائلاً، في حين مَن تواجد في مكان بعيد كل البعد عن ميدان الثورة، كان، على الأغلب، متشائماً! ومن مفارقاتها أيضاً، استمرار التظاهرات المدنيَّة السِّلْميَّة، وعودتها للتأجّج كلَّما ساد اعتقاد جازم في أن الثورة قد تعسكرت إلى درجة باتت تستحيل معها عودة التظاهرات! وهذا ما يمكن أن يُقرأ على أنه حنين الثورة الدائم إلى ذاتها، والرغبة في (العَوْد الأبديّ([3]) إلى منبعها الأساس، المنبع المدنيّ السِّلْميّ رفيع المستوى إنسانياً وعقليَّاً وروحيَّاً وقيميَّاً.
4
إن اللذين وقعوا تحت تأثير “سِحْرِ” الثورة في طابعها السلميّ في أشهرها الأولى، بدوا كأنهم “سُحِروا” إلى درجة مفارقة الواقع، والانفصال عنه، إذ غابت المرونة التي تخوِّلهم مواكبة الثورة في منعرجاتها ومنعطفاتها وتحوُّلاتها، وظلُّوا أسرى صورة محدَّدة ثابتة، ومطلقة عن الثورة، رافضين الإصغاء إلى أو الاعتراف بأي طارىء جديد قد يحلّ عليها. وهنا تبدَّت “رؤية” أخرى ممهورة بالتشاؤم وأسُّها “الخوف والقلق”. الخوف من انحراف الثورة ذات التكوين المدنيّ السِّلْميّ في اتجاه العسكرة المحفوفة بالأخطار كافة. لكن على الضفة الأخرى، ثمة من بدا (هيرقليطيّاً([4]) في التفكُّر في واقع الثورة، وأظهر مهارات في إدراك هذا الواقع كصيرورة، على اعتبار أن”الأشياء في تغيّر متَّصل”، وأنه “لا يمكننا أن ننزل النهر الواحد مرَّتين، فإن مياهاً جديدة تجري من حولنا أبداً”. هكذا تجلّت، على الضفة الأخرى، “رؤيا” متفائلة انطلقت من الواقع كصيرورة، ولم تكن لتفاجأ في أي منعطف في الثورة قد يغيِّر بعضاً من ملامحها الأوليَّة، مادام الواقع في تغيُّر دائم، ومادمنا غير قادرين على السباحة في نهر الثورة مرَّتين، لأن ثمة مياهاً (إحداثيَّات) جديدة تجري فيها دوماً. كما سمحت مرونة “الرؤيا” المتفائلة بإدراك أنه ليس في الواقع مُطْلقات، وبالتالي فإن سِلميَّة الثورة لا يمكن أن تكون مطلقة، خصوصاً أنها جوبهَت ببطش قلّ نظيره في القسوة والبشاعة. وقد جرت العادة، في مثل هذا النوع من السِّجال، أن يستحضر البعض ممَّن تحنَّطت في أذهانهم الثورة في صورتها الأوليَّة السِّلْميَّة “المطلقة”، (غاندي) باعتباره فيلسوف اللاعنف. وغالباً ما كان يتم، عند استحضار المهاتما غاندي، تجاهل واقع الثورة بما ينطوي عليه من حيثيَّات وتفاصيل ودقائق تنتمي إلى زمان ومكان محددَّيْن، هما زمان ومكان الثورة نفسها، وغالباً أيضاً ما كان يتم تجاهل صعوبة أو لا إمكانيّة ولا معقوليّة نقل تجربة إنسانية أخرى، وتطبيقها على واقع مختلف زمانيَّا ومكانيَّاً. المفارَقة هنا، أنه حتى غاندي، الذي يُعْتبَر اللاعنف أوَّل عقائده وآخرها، أعلن أن المرء إذا لم يكن له إلا خيار بين الجُبن والعنف، فإنه ينصح بالعنف. وفي كتابه (ر.دراته: العدالة والعنف- باريز- هاتيه 1958- ص91) يقول: ” إنني أعتنق الشجاعة الهادئة بأن أموت من دون أن أَقتُل. ولكن من يفقد الشجاعة فأنا أرغب إليه تنمية فنّ أن يَقتل ويُقتَل، بدلاً من فراره المشين”. وفي حين رأى المتشائمون من عسكرة الثورة أن موقفهم اتَّسق مع حجم هَوْل النظام الذي زاد وتضخَّم، ومع الانهيار الشامل تقريباً لمدن وبلدات بأكملها بات النظام يقصفها ويبيدها بكل أنواع الأسلحة، كما اتَّسق موقفهم مع ما باتت تقترفه بعض عناصر “الجيش السوري الحر” من جرائم قد تقترب من جرائم النظام، ومع وجود بعض المتديِّنين الأصوليّين في صفوف الكتائب المقاتلة، الأمر الذي دفعهم إلى التخلّي عن مناصرتهم الثورة وتأييدهم لها. رأى المصرُّون على التفاؤل –على الرغم من كل شيء- أنه ليس عدلاً أن يتم التخلّي عن الثورة، وأن يُضرب عرض الحائط بكل ما مرَّت به قبل أن تصل إلى هذه الحال. وأن هذه الحال لا تُخيف، ولا تشكِّل خطورة على الثورة ككل، مادامت ليست داخلة في تركيبتها الأولية، ومادام هناك فسحة دائمة لتقويم أخطاء الثورة وتصويبها، كما أنه ليس عدلاً أن يكون (غياث مطر) أهم من (حسين هرموش) مثلاً. ومن المعلوم أن كلتا الشخصيَّتين المذكورتين، هما رمزان من رموز الثورة التي عجَّت برموز البطولات والتضحيات، ولمَّا كان مطر رمزاً للسِّلميَّة والورد والماء، فإن هرموشاً رمز للنُّبل العسكري، ورَفْضِ الانصياع إلى أوامر مؤسسة عسكرية آثرت غزو الديار بدلاً من حمايتها، وقد لاقى كلُّ من مطر وهرموش، مقابل مواقفهما المشرِّفة، المصير نفسه، أي التعذيب والموت. إضافة إلى ما سبق، رأى المتفائلون أيضاً، أن المساواة بين الضحيَّة والجلاد لا تجوز، وأن الوحش الحقيقي هنا هو النظام دوماً. عدا عن ذلك، فإنه لمن الأنانيَّة المفرطة، بالنسبة إلى أولئك الثائرين المتفائلين، أن تكون مع الثورة حين تغمرها السعادة والجمال ظنَّاً منك أنها ثورة ملائكة أو أنبياء، ثم تتخلَّى عنها حين تمرُّ بأزمات ومطبَّات؛ فكل ما جرى ويجري في الثورة إنما هو من أكثر الأمور طبيعيّة وواقعية وضرورية. وإن فقدان الثقة بثورة اندلعت من أجل تحرير الوطن والإنسان، يعني فقدان الحُلُم، إذ لا يوجد شيء ناقص للتغلُّب على التشاؤم، إلا الهدف الواضح، وبمجرد وضوح الهدف تخسر “الشياطين” رهاناتها. فالثورة التي ولّدت، عبر الويلات التي نجمت عنها، مشاعر الحزن والأسى واليأس دفعت البعض إلى تبنِّي خطاب مثبط محبط، هي نفسها التي ألهبت كل مشاعر الحب والرغبة والحيوية والتَّوق، وقدّمت أمثلة مهمة في التسامح والتعاضد، والتفاني من أجل القضايا العادلة في الحياة، وهي نفسها التي ساهمت في إعادة اكتشاف الإنسان/الفرد ذاته، وانبثاق شعور عميق بالاستقلال، وسموّ الروح والعقل، والنفس والوجدان أعاد الاعتبار إلى قيم المواطَنة والوطن والوطنيَّة.
-في التفاؤل كضرورة ثوريَّة:
كيف تحيا البشريَّة حياة وجدانيَّة مستقرَّة والناس يبحثون عن منافعهم ومصالحهم الخاصة، ويهجرون القيم الأخلاقية والجمالية والمُثل العليا، ويزخر العصر بالأعمال القذرة الشريرة والمساعي العشوائيَّة؟ إن الفشل في تقديم إجابة شافية عن سؤال من هذا الطراز، ربما يكون سبباً في ولادة إرادة منكسرة مهزومة، حلَّ عليها التشاؤم بعد أن حَاولَتْ وفشلَتْ، وربما يكون سبباً كذلك في سواد شعور بتفاهة الحياة ونقدها. لكن السؤال المقابل الذي قد يكون أهم من السابق هو الآتي: ما السبيل للخروج من معمعة الموت الناجم عن التشاؤم والتغلغل في شبحيِّته؟. السبيل، ربما يكون النقيض، أي الامتلاء بالحياة، والحياة مزيج معقد من كل شيء. لقد استمع زعماء العالم الذين يسحقون خصومهم، ويخدعون شعوبهم، استمعوا إلى مطالب الشعب الثائر في سوريا باحتقار بالغ. فالشعب السوري مكوَّن من أعدائهم وضحاياهم في آن واحد، فلماذا لا يأكلون من التفاحة؟ ولماذا لا يتركونها تفسد إذا كانوا سيربحون من إفسادها؟. ولكن الشعب السوري الثائر كان يدرك، على ما يبدو، اللعبة وقواعد اللعب فيها، وإدراكه هذا، هو واحد من بين الأسباب العديدة والمتعدِّدة التي منعته من التراجع عن ثورته، فمدينة “داريا” في ريف دمشق مثلاً، شهدت مجزرة من أكبر المجازر، فقد ارتكب النظام فيها مجزرة ارتدَّ فاعلوها بتاريخ (20 آب 2012 لغاية 27 آب 2012) إلى الحياة البهيميَّة بكل ما تعنيه العبارة من معنى. مجزرة راح ضحيتها المئات، بينهم أطفال ونساء. بيد أنه في المدينة نفسها، رفع الثائرون يوماً ما، في إحدى تظاهراتهم، لافتة رسموا في أسفلها هلالاً يحيط بصليب أو يعانقه، وكتبوا عليها متسائلين طامحين: “ما المانع أن يكون رئيسة الجمهورية امرأة مسيحية ؟!”. إن أولئك الذين أعياهم التعب وجافى النوم عيونهم، يحدوهم الأمل بعدما أدخلت الثورة السورية عليهم- كمؤمنين بها- تحوّلات عميقة جعلت منهم أصحاب مبادأة عقليَّة ومتبصِّرة، وصار الشعب الثائر يطمح لأن يبتدع لنفسه قوانينه بحرية، فما كان مستحيلاً في الأمس يصبح اليوم ممكنناً، وما هو ممكن اليوم قد يصبح في الغد واقعاً، وفي كل الأحوال يبقى التفاؤل ضرورة ثورية.
هوامش:
[1]– أحمد برقاوي، الأنا، دار التكوين، ص191–192.
[2] –تقول الأسطورة: إن أميراً يُدعى سيدهارتا أوغوتاما يصمِّم على أن يصبح الحكيم “بوذا”. يدخل الأمير في صراع مع شيطان يُدعى “مارا”، تشعر مارا بأن نفوذها على العالم مهدَّد. فتغادر قصرها، وتنقطع أوتار آلاتها الموسيقية، وتنشف المياه في خزاناتها، وتجمع قوَّاتها وتمتطي فيلاً وتحشد أسلحتها وآلياتها، وتهاجم الأمير الذي كان جالساً تحت شجرة المعرفة التي وُلِدت عندما وُلِدت مارا وجيشها المؤلَّف من النُّمور والأسود والجِمال والفيلة. يطلقون السهام على الأمير، لكنها تتحوَّل إلى أزهار. يرشقونه بجبال من نار، لكن اللهب يشكِّل خيمة فوق رأسه، وهو بلا حراك يتأمل، وساقاه متصالبتان، ربما لم يعرف بأنه قد هوجم، يفكِّر في الحياة، كان يقترب من حال (النيرفانا) أو الخلاص. وقبل غروب الشمس كانت الجنيّة قد هُزِمت. لم يعد سيداهارتا، بل بوذا الذي وصل إلى النيرفانا، ويجب عليه الآن أن يخلِّص الآخرين. من كتاب، سبع ليالٍ، بورخيس، ترجمة د.عابد اسماعيل، دار الينابيع، دمشق 1999.
[3] –هنا ثمة استلهام لـفكرة “العَوْد الأبدي” عند الفيلسوف فريدريك نيتشه (1844– 1900). وهي من المفاهيم الأساسية في فلسفته. ربما يرتسم لغزها في “اللحظة” و”الآن” التي يلتقي فيها الماضي والمستقبل. فـ”العود الأبدي” هو قبول أبدية “اللحظة”.
[4] – نسبة إلى الفيلسوف هرقليطس (540–475ق.م)، وما جاء بين قوسين عن التغيّر المتصل، وعن استمرار جريان مياه النهر هو جوهر فلسفته وخلاصتها.
أجزاء سابقة من الكتاب:
الجزء الأول (1) – الجزء الثاني (2) – الجزء الثالث (3) الجزء الرابع (4) الجزء الخامس (5)
الجزء السادس (6) الجزء السابع (7) الجزء الثامن (8)