هناك وظائف تضطلع بها المرأة لا يستطيعها الرجل. فليُترك القتال للرجل إذاً، خصوصاً أنه أدقّ من المرأة في التجارب المركَّبة الموجَّهة نحو هدف ما، كتوجيه قذيفة، أو اعتراضها. فالعلاقة بين المرأة والعسكرة هي من الضعف بحيث يصير القتال، حِملاً تنوء به.
25 / أيار / مايو / 2021
*مع العدالة | علا شيب الدين
نشرت فصول هذا الكتاب بموافقة الكاتبة
(10)
الأنوثة والذكورة
تقول الميثولوجيا اليونانية: إن قاطِعَ طريق، يُدعى بروكرست، كان يسكن الجبل، وكان يستضيف المسافرين ليناموا على سريره الحديدي، فإن كانوا أطول منه، قطع الزيادات ليُساوي جسد الضيف مع السرير، وإن كانوا أقصر، شدَّهم حتى الموت. ويُحكى أن البطل تسيوس قتله بالطريقة نفسها.
-“الثورة أنثى”!
قد لا نجانب الصواب عندما نقارب بين بروكرست في الأسطورة، وبين مَنْ يقصُّ الزائد عن “سرير الأنوثة” في الثورة، ويمطّ القصير ليتناسب والسرير ذاته حتى الموت. وربما لا يعلم “بروكرست الثورة” أنه حين يفصِّل الثورة على “قدّ” “مفاهيم الأنوثة”، إنما يساهم في تأجيج “تسيوس ذكوري” من شأنه قتل هذه الأنوثة بالطريقة ذاتها، أي عبر شدِّها لكي تتناسب و”مفاهيم الذكورة”. ثم، ما الثورة الأنثى؟. إنها مجرد فكرة اتخذها البعض مثالاً أعلى لتفكيرهم “التقليدي” و”الطبيعي” في المرأة، فالثورة كأنثى لا تتجسَّد في أشخاص هم كلّهم إناث، بل الثورة هي أيضاً طفل وشاب ومُسِن. هكذا؛ تنزع فكرة “الثورة أنثى” إما إلى الإقصاء وإما إلى الإلغاء. أو هي تحارب هذين النهجين بانتهاجهما نفسهما، كونها تختزل الثورة وتختصرها في أحادية أنثوية، لتحديد جميع الأوضاع والمواقف والأحداث المختلفة وبيان وجهتها ومدلولاتها. لكن القراءة الواقعية للثورة، ومتابعة صيرورة الأحداث فيها، تدفع بالقارىء المتبصِّر إلى اجتناب مَنْح الثورة هوية جنسية، وتفسيرها من خلال الهوية ذاتها. فبعد اندلاع الأحداث في محافظة درعا بجنوب سوريا، مثلاً، على إثر واقعة الأطفال الشهيرة، أطلَّت مستشارة الرئيس في خطابها الطائفيّ التحريضيّ الشهير، وتحدّثت عن موضوعات شتى، كان من بينها زيادة رواتب العاملين في الدولة. زيادة فهمها أهالي درعا (مهد ثورة الحرية والكرامة)، رشوة غايتها إسكاتهم عما احتجّوا ضده، فجاء الرد سريعاً:”يا بثينة يا شعبان/الشعب السوري مو جوعان”. وفي محاولة منه لامتصاص غضب الناس وحقوقهم، بعد تفاقم الأحداث لتطال مناطق أخرى في البلاد، اعتمد بشار الأسد سياسة استمالة الأعيان والوجهاء في المناطق المختلفة، فزار مدينة دوما الثائرة بريف دمشق، مثلاً، والتقى وجهاءها. بيد أن رد أهالي المدينة كان: “بدنا نحكي عالمكشوف/حراميي ما بدنا نشوف”، إعلاناً لرفضهم المساومة على دماء شهدائهم الذين كانوا قد سقطوا برصاص رجال الأمن قبل تلك الزيارة، وإصرارهم على متابعة الاحتجاج. وقبل هذه الشعارات وغيرها كان الأطفال في درعا قد كتبوا على جدران مدرستهم شعار الانعتاق:”الشعب يريد إسقاط النظام”.
غرَضُنا من التذكير بتلك الأحداث والشعارات في بدايات الثورة السورية، هو تقديم أمثلة ربما تساهم في التدليل على أن الثورة: سياسية، اقتصادية، اجتماعية، والهاجس الأساس لدى الثائرين والثائرات هو الحرية والكرامة. فأن يعلن الناس رفضهم ما بدا لهم رشوة، يعني رفضهم امتهان كرامتهم وإذلالهم. وأن يندِّدوا باللصوصية، قاصدين بشكل رئيسي ابن خالة الرئيس رامي مخلوف، يعني أنهم لا يقصدون مخلوف كـ”علوي”، بل “حرامي”، وفي هذا إشارة مهمة إلى أسباب اقتصادية ساهمت في اندلاع الثورة. ناهيك بالرغبة العارمة في الحرية، وهذه تُتَرجَم سياسياً بالدولة المدنية الديموقراطية، دولة الحق والقانون والمؤسسات. ما يعني في نهاية المطاف، أن الثورة ليست “أنثى”.
تحدث “التعمية”، غالباً، حين يُصار إلى إعطاء الظواهر الثقافية أو التاريخية مظهر الظواهر الطبيعة، والخلط بين المجال الطبيعي والمجال المدني السياسي. فالثورة هي ثورة شعب بالمعنى السياسي لمفردة شعب، وهي تجلٍّ واضح لإرادة بشرية جماعية وفردية، ولا شأن لها بـ”هوية جنسية طبيعية”.
****
نحاول في نقدنا هذا، أن نجلو النقص الذي تعانيه وجهة النظر التي تَعتبِر الثورة أنثى. فالعبارة المعروفة والمتداولة جداً “اغتصبوكِ لأن الثورة أنثى”، على سبيل المثال، من شأنها تكريس الصورة النمطية عن الأنثى، أي تلك المقترنة بالضعف والاستكانة. الصورة نفسها يكرِّسها كذلك رَسْمٌ كاريكاتوري لأحد الرسّامين على صفحات “فايسبوك”. رَسْم، شُطِرَ فيه جسد بشار الأسد نصفين: من الجهة الإسرائيلية، هو امرأة عارية، ذات جسد ضعيف، هش، رقيق ليّن وطيّع، أما من الجهة السورية، فهو رجل أيضاً عار، لكنه قوي الجسد، خشن، مفتول العضلات. السؤال: هل تصح مقاربة موضوع محض سياسي، مقاربة جسدية، جنسية، “طبيعية”؟ ثم، ألا يساهم مثل هذا الرسم في تكريس الصورة النمطية ذاتها عن كلٍّ من الرجل والمرأة؟. الإجابة في رأينا: بلى. خاصة أن الشطر الذي من جهة إسرائيل (العدوّ)، في الكاريكاتور نفسه، هو امرأة، وهذا يشي بالذهنية القديمة/الجديدة التي طالما ربطت المرأة بالخيانة ربطاً محكماً، إضافة إلى الشر والعاطفة والضعف.
لا نعالج هنا إشكالية منفردة قائمة بذاتها، ولكننا نحاول أن ننفذ إلى المعنى الحقيقي للثورة من خلال نقد هذه الإشكالية، أي”الثورة أنثى”. فالأنثى، بحسب المثالين المذكورَين وغيرهما الكثير مما لا مجال لحصره هنا، زائفة، تحيل على الكسل والجمود، واجترار الاضطهاد والشكوى المبتذلة، بدلاً من الفاعلية الإيجابية. هكذا؛ فإن ما يقدِّمه البعض أحياناً على أنه دفاع عن المرأة، يكشف ما يثوي تحت مفهومهم عنها من مغالطات، ويسيء، مع الأسف، إلى المرأة ويثبِّت المعتقدات حولها، ولا يبدِّدها كما يُظَن.
وإذا كان مَنْ لا يألون جهداً في تأنيث الثورة، يقصدون الثورة كأنثى من الناحية اللغوية الصرفة، على اعتبار أن الثورة اسم مؤنَّث في اللغة العربية، فيما الثائر فاعل مذكَّر في اللغة نفسها. فإن الثائر لا الثائرة بهذا المعنى هو مَنْ يفعل ويعمل في الثورة. تالياً، الثورة كأنثى هي بمثابة أرض يجوبها الثائر، يحرثها، يزرعها، يسقيها، بينما هي متلقية، صامتة، ساكتة ساكنة. ما يعني سلبية الثورة المؤنَّثة، وإيجابية الثائر المذكَّر. لكن الواقع غير ذلك، إذ على الأرض ثائر وثائرة، وهما(فاعلان) في الثورة. وكلاهما عرضة لـ”الاغتصاب” على الأصعدة كافة من قبل الانتهازيين والوصوليين والمتسلّقين، لذا وجب التمييز بين الرجل وتسلّط الرجل.
يبدو المؤمن بفكرة “الثورة أنثى”، كأنه قد استسلم لأوهام الأرض المسحورة، والخرافة التي تنزع الفعل والفاعلية عن المرأة/الثائرة. المفارَقة، أن المؤمن بهذه الفكرة، يكون أحياناً هو نفسه الذي طالما اعترض على “الانفعال” الثوري، ودعا إلى عدم الانجرار خلفه، والإنصات إلى صوت العقل! لكن ألا يقتضي العقل نفسه، توصيف الثورة وتحديدها، عبر ردّها إلى أسبابها الواقعية و”المنطقية”؟ فكيف “ينجرُّ” هذا العقل إلى تحديدات “انفعالية” من مثل: “الثورة أنثى”، بدلاً من الانتباه إلى الثورة، كثورة شعبية، سياسية، اقتصادية، اجتماعية؟!
إن مفرطي الحساسية تجاه كل ما يخص المرأة وقضاياها، قد لا يُلامون حين يفرِطون. إذ قهر المرأة وظُلمها مضاعَف، لكن يبدو أن من المستحسَن القيام دوماً بمراجعة نقدية لاعتبار المرأة وحدها كائناً مظلوماً ومضطهداً ومسلوب الحقوق، فبالعودة إلى العبارة السالفة الذكر، مثلاً، التي تجترّ المفهوم التقليدي نفسه عن “الاغتصاب”، أي ذاك الواقع على الجسد الأنثوي فحسب. نرى أنها عبارة مزاجية تغفل اغتصاب الأطفال والرجال. وكم هي كثيرة ومريرة التقارير التي وثقتها منظمة “هيومن رايتس ووتش”، مثلاً، حول انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، وتعرُّض الرجال والأطفال إضافة إلى النساء، إلى أبشع الاعتداءات الجنسية في سجون النظام. إضافة إلى معناه المباشر المتبدّي في الأذى الجنسي/الجسدي، فالاغتصاب عموماً هو كل استيلاء على حق الآخر بغير حق، والآخر هنا ليس امرأة فقط، بل أيضاً رجل، طفل؛ إنسان.
إن هذا النهج “البروكرستي” في الثورة، الذي يفسِّر كل شيء بطريقة آلية جامدة، يتقاطع ربما مع ما سمّاه سارتر ذات يوم، “الجدل المتوقِّف” أو “الجدل الدجماطيقي” الذي لم يعد له من هدف سوى إرغام الأحداث والأشخاص والأفعال والظواهر على الدخول في هذه الصورة، وهي في موضوع مناقشتنا هنا، صورة “الثورة أنثى” التي تشبه إلى حد كبير صورة “الاتحاد النسائي” المشوّهة المريضة.
سلامٌ على كل اتحاد إنساني..
– الحرب والأنوثة:
1
“بتمنّى يكون عندي سيارة خاصة إنتقل فيها مع جوزي (زوجي) لجبهات القتال، من شان ما إضطر كل مرّة، إنْحَشَر بسيارة واحدة مع الرجال”. “كتير عليّي هالشّي؟”. بالاستفسار النزِق هذا، أنهت سيدة تقاتل في صفوف الثائرين بحلب، حديثاً مع مراسل إحدى الفضائيات، ذات لقاء. بدت السيدة كأنها تبذل جهداً في شأن تعريف الآخرين بكونها محافِظة وملتزمة. بدت أيضاً مستاءة من وجودها بين الرجال، إلا أنها في الوقت نفسه، فخورة بقدرتها على القيام بما يقومون به. لطالما أفصحت بتباهٍ، عن تشكيلها كتيبة نسائية مقاتلة. ثمّ، كمَن يعرف هشاشة العنصر الأنثوي في القتال، والأصل الذكوري للحرب، راحت تتكلم عن وجودها بين المقاتلين الرجال، كامرأة يقتصر دورها على “رفع المعنويات القتالية لديهم”.
بينما كنتُ أصغي إلى الكلام الممزوج بالنزق والقلق، المتذبذب بين الاعتزاز بممارسة دورٍ موقوف على الرجل، وعدم التصالح مع هذا الدور، عبر التنبّه إلى الوجود الأنثوي الحميم غير المرغوب في التخلّي عنه لصالح الذكورة المحضة؛ خامرَني، أنا كاتبة السطور، شعور غامض، ربما يخامر كثيرات، بأن ثمة جرحاً في عمق الأنوثة، يحصل عندما تجد المرأة نفسها في غير أجوائها، وبأن الوجود الإنساني بكليته يختلّ، عندما يُعبَث بالأنوثة، ما دامت هذه في حقيقتها، تعاوناً، إنصاتاً، حدساً، بصيرة، ترابطية…؛ غالباً ما لا يروق للمرأة، من حيث هي ظاهرة جمالية، سمعية، الاستماع إلى ضجيج يكلّمها كـ”أختٍ للرجال”: حاربي، صارعي، قاتلي. حتى لو ظهرت بمظهر المحارِبة “الراغبة” في القتال.
كان تجنيد نساء وفتيات كرديات، قد أثار في وقت مضى، جدلاً إعلامياً بين مؤيد له ومعارض، من سوريين كرد، قدّم كل طرف آنذاك، حججاً يسند إليها موقفه. بشكل عام، ينطلق الموقف المعارض لعسكرة المرأة، ربما من رغبة عميقة في دوام حضورها، كحضور إنساني، رقيق، لطيف. مشهد نساء مواليات للأسد، على سبيل المثال، أُطلِق عليهن “لبوات الدفاع الوطني”، ظهرن في فيديو وهنّ يقدّمن عرضاً عسكرياً، حاملاتٍ علم سوريا تتوسطه صورة الأسد، يثير اشمئزازاً ونفوراً، من حيث هو اقتياد صريح من جهة النساء، إلى عالم التوحش، وتبديد لمفاهيم من مثل الوطن، البيت، المسكن والسكينة، التي طالما ارتبطت ارتباطاً حميماً بالمرأة وبالخصائص الأنثوية الإنسانية، عبر تحوّل مفهوم المرأة الإنسانة، لبوةً شرسة إلى جانب أسد متوحش، وهنا تكمن المفارقة. إذ تاريخياً وأسطورياً وملحمياً ومفهومياً، ارتبطت المرأة بالحضارة والتحضر لا التوحش، بالزرع لا القلع، بالوصل لا الفصل. قد يبدو هذا الطراز من النساء “متواضعاً” أمام نساء حربيات شرسات أشدّ خطورة، يقاتلن قتالاً غير مباشر من خلف الكواليس، وكم هي كثيرة الروايات التي ما انفكت تتناهى إلى الأسماع، تتحدث عن أدوار، لنساء من السلطة الأسدية نفسها أو مقرَّبات منها، في صنع قرارات ومواقف تتصل بما يجري في البلاد. من شأن مشهدٍ آخر، كذاك الذي تظهر فيه مدرِّسة تحوّلت قنّاصة في “الجيش الحر”، وهي تسير إلى جانب طلابها المراهقين، ممتشقةً بندقية القنص، أن يثير في النفس حزناً وألماً، وفي العقل تساؤلات حارقة عن مصير كل شيء.
أكتب الكلام الأخير هذا، وأرسم في الآن عينه، صورة في ذهني لشخص غاضب، يطالب بالكفّ عن هذا الترف الفكري، والتفكير في أن النساء في المناطق السورية الثائرة، يُغتصَبن، يُعتقَلن، يُقتَل أبناؤهن، تتحطم أسرهنّ، وتُدمَّر بيوتهنّ، فكيف لا يحقّ لهنّ الدفاع عن أنفسهن إذا ما أتيح ذلك؟! ثم أتخيّلني أقول لـ”شخصي” المفترَض، إن الانتقاص من حق الإنسان رجلاً كان أم امرأة، في الدفاع عن نفسه، إنْ هو سوى ضرب من لؤمٍ، أزعم براءتي منه. لكن، لمّا كانت الثورة في سوريا، اندلعت سلمية وظلّت كذلك، شهوراً طويلة في مواجهة أنواع البطش كافة، ما أجبرها على الولوج في طور العسكرة دفاعاً عن النفس في البداية، قبل أن تغدو لاحقاً في طورٍ آخر، تخوض فيه حرب تحرير حقيقية؛ فإن الجانب السلمي الأصيل فيها، ظلّ مع ذلك، موجوداً في معنى ما في الأطوار كلها. إلى الجانب المدني السلمي الأصيل هذا، “يجب” أن تبقى المرأة منتمية. لا يعني ذلك، سلبها حقها في الدفاع عن نفسها، إنما المقصود ألا تستحيل كينونة المرأة، كينونة حربية قتالية، من خلال الانخراط الممنهج في ميادين القتال، وتشكيل كتائب نسائية مقاتلة، وامتداد العسكرة النسائية واتساعها، بحيث يمسي المجتمع برمّته، حربياً. حينذاك، لا يعود حضور المرأة، هو نفسه الحضور الذي من شأنه خلق حياة، وإضفاء معنى على واقع يبدو فجّاً خالياً من المعنى، جافّاً، خشناً وقاسياً.
في ظروف الحرب يحتاج الناس إلى عقل أنثوي “يحتال” على الواقع. فعندما يُعتقد مثلاً، أن العالم انتهى بسبب الدماء والأشلاء والمجازر والخراب والدمار، والحياة استحالت محض موت، يأتي العقل الأنثوي ليبدِّد قتامة المشهد، ويمنح الحياة معنى جديداً، كونه يجيد الإفلات، في كثير من الأحيان، من سيطرة الخطاب الحربي، وهيمنة خطاب الموت. العقل الأنثوي موجود لدى الرجل أيضاً، غير أنه أكثر وضوحاً لدى المرأة.
2
في وسط حرب ضروس، كالحرب الدائرة في سوريا منذ أعوام، تغدو المحافظة على سلمية المرأة ضرورة، وضماناً من شأنه ربما منع الانهيار الكامل لكل شيء، وحماية أشياء قد تكون صغيرة وهامشية، لكن لها مفعول معقول ومهم. إذ هناك وظائف تضطلع بها المرأة لا يستطيعها الرجل. فليُترك القتال للرجل إذاً، خصوصاً أنه أدقّ من المرأة في التجارب المركَّبة الموجَّهة نحو هدف ما، كتوجيه قذيفة، أو اعتراضها. فالعلاقة بين المرأة والعسكرة هي من الضعف بحيث يصير القتال، حِملاً تنوء به. لذا، في إمكان المرأة أن تبقى ثائرة من أجل الحرية، من خلالها هي، بما ينسجم مع روحها ووعيها بذاتها ككائن حر، من دون ارتداء أقنعة قد تسقط في كل لحظة.
عندما يُراد إهانة الرجل وإذلاله وإحراجه، غالباً ما يُصار إلى نعته بالضعف الأنثوي نفسه الذي تؤطَّر به المرأة دوماً، وتُختزَل فيه. لكن ما يبدو غير معروف هنا، أن القوة المبهمة، الغامضة، التي يتمتع بها النوع الأنثوي، قد لا تكون الفحولة الهادرة، قياساً إليها، سوى مزاح. في ظروف القمع والاضطهاد السائدة في مختلف المدن والبلدات السورية الثائرة المنكوبة، ويوميات القهر الملازم للفقر والمرض والجوع، ربما تكون المرأة بطبعها الأنثوي، أجدر وأقدر من الرجل، على التعامل مع تفاصيل الحياة اليومية الصغيرة، الدقيقة، والمعقدة، كونها أصلاً تجيد التعاطي بحيوية ومرونة، مع كل ما هو عملاني، مشخَّص، وطبيعي. تعلو المرأة، في معظم الأحيان، على المدخلات الممزوجة بالأسى، الآتية من طريق الحواس، من خلال “الحدس” باعتباره وعياً كلياً، فيمكّنها ذلك من الفهم المتعاطف، أحياناً، وإمعان النظر في الوقائع المرعبة، ثم تجاوزها بالفعل، مستبصرةً احتمالات المستقبل، أحياناً أخرى.
المقاربة الأنثوية للواقع هنا، من شأنها ربما حلّ بعض المشكلات اليومية التي قد تبدو أحياناً مستعصية، أو إعادة طرح حلول أو فروض لها، ووهْب أفكار جديدة آسرة متفلتة من التكرار كسِمة ذكورية. يُربَط أي عمل مهما بدا غير ذي أهمية، بالحياة والمتعة والجمال. كأن تغنّي امرأة، بالتزامن مع جمعها أعواد الحطب، برفقة أطفال قد يكونون أبناءها أو أحفادها أو أبناء جيرانها، في ظروف كظروف الحصار (مثلاً)، تكاد تنعدم فيها سبل المعيشة كافة. تضع إبريق شاي (مثلاً)، على الموقد، ثم تضفي على ذلك الفعل بعضاً من روحها المؤنثة، تقصّ على المتحلّقين حول الموقد قصصاً ممتعة، ينسى من خلالها الأطفال والكبار وربما أقاربها من الثوار المقاتلين أيضاً، واقعاً مأسوياً، وإن يكن للحظات. بيد أن هذه اللحظات، على رغم بساطتها، قد تحفر حفراً عميقاً في الذاكرة كخزّان، قد يخرج كل ما فيه لاحقاً، ويُستثمر في كل شيء. جمع الحطب لصنع الشاي هنا، المطروح كمثال بسيط ليس إلا، لا يظلّ عملاً شاقاً، آلياً فحسب، بل يصير فعل خلق، بعدما أُسبغت عليه الحياة. في أوقات الأزمات والمحن، نادراً ما يُلتفت إلى المستوى العاطفي والروحي هذا، عندما يتم التعاطي مع كل شيء وفق المستوى الفيزيقي، الحسّي، السطحيّ، والمرئي فقط.
3
لا يختلف تجنيد المرأة، في معنى ما، عن تجنيد الطفل. فلما كان هذا الأخير، يمثّل انتهاكاً صارخاً لحقوق الطفل، فإن تجنيد المرأة يمثّل انتهاكاً للأنوثة وقيمها ومحدِّداتها، بعيداً من التصور السطحي للأنوثة (جميلة الشكل، مثيرة، ليّنة…).
بثّ ناشطون سوريون إعلاميون، في 19كانون الثاني2014، فيديواً يُظهر جثة لامرأة بزيّ عسكري، تلبس حزاماً ناسفاً، قال الثوار إنها تنتمي إلى تنظيم “داعش”، كانت تريد تفجير نفسها عند معبر “باب السلامة” شمال مدينة حلب، قبل أن يتم إحباط هذه العملية الانتحارية. أمام واقعة كهذه، وغيرها مما يشبهها، قد يجد المرء نفسه، مذهولاً، متسائلاً: لمّا كانت المرأة “خالقة حياة”، كيف تهب نفسها للموت، قاصدة إماتة غيرها معها بهذه الطريقة المرعبة؟! ما الذي يدفعها لكي تكون “صانعة موت” إلى هذا الحد؟! ترى هل كانت هذه المرأة تعاني نقصاً عاطفياً جارحاً مثلاً، وتشعر أنها غير محبوبة وغير جديرة بالحياة تالياً؟
قد لا نجانب الصواب إن قلنا إن ثمة ذهنية ذكورية، حربية، متسلطة، وقاهرة، تقبع غالباً، خلف عملية تجنيد المرأة. تبدو هذه الذهنية كأنها تسعى إلى نقل المرأة، من شاهد على الجريمة إلى شريك فيها. بذلك، يكون قد تم انتهاج أفضل السبل للتخلص من هذا الكائن الأنثوي المسالم، الرافض للجريمة في أصله وتكوينه. فبعد أن تصبح المرأة شريكاً في الجريمة، لن تجرؤ على الاعتراض على العنف، والاستبداد والظلم، ولن تجرؤ أيضاً على المطالبة بالديموقراطية واحترام حقوق الإنسان والحرية والعدالة، خصوصاً أن رأفة المرأة وعاطفتها وحنوّها باتت موضع تحقير. وحدهم الخائفون من المرأة أو من “القوة” الأنثوية، يلجأون إلى هذا الشكل من التآمر والتسلّط على حضورها. إذ الحاجة إلى التسلط وقف على الخائفين.
عندما كنّا أنا كاتبة السطور وزميلاتي، تلميذات مراهقات في “سجن عسكري” مُسمّى مدرسة، كانت دروس “التربية العسكرية” (الفتوّة)، خصوصاً دروس الرمي، التي يُجرَّب فيها السلاح “الروسي” فعلياً – السلاح الذي ما كان ليخطر على بالنا، أننا سنكبر يوماً ونراه موجّهاً إلى صدور أبناء بلدنا!- عبر إطلاق الرصاص على “دريئة”، تطبيقاً للدروس النظرية، كانت تشكّل بالنسبة إلى غالبيتنا، همّاً حقيقياً، وكنا نُسِرّ لبعضنا بخجلنا ونفورنا من تهشيم الأنوثة الماثل في قسر الجسد الأنثوي على اتخاذ وضعيات عسكرية تهرق جماله وتريقه. كان ممنوعاً وقتذاك، أي إشارة إلى الأنوثة، مهما كانت هامشية. دبّوس ملوّن يزيَّن به الشعر مثلاً، كان يستدعي صفعة على الخدّ، تتطاير على إثرها عشرات النجوم الحمراء والصفراء أمام العينين المغمضتين، كأن الهندام العسكري الموحَّد بين جميع الطلبة، الإناث والذكور، وإيعازات الـ”استرحْ. استعدْ. ترادَفْ. أسبِلْ. إلى الوراء دُرْ. إلى الأمام سِرْ([1])”، ومعسكرات “الإنتاج” و”الصاعقة”، لم يكن كافياً لعسكرة العقل والروح والقلب، وكل شيء! الأنوثة المهشّمة في المدرسة، هي نفسها، على كل حال، التي طالما هشَّمتها من قبلُ، تقاليد اجتماعية “تجلّ” المرأة الأم – وفق المفهوم السلطويّ للأمومة- وتخشى المرأة الأنثى، كأن الأنوثة عبء ثقيل ينبغي التخلص منه!
كل أنظمة الاستبداد، السياسية، الدينية، الاجتماعية، الفكرية الأيديولوجية، كلها… كلها تسعى إلى قهر الأنوثة. نظام هذا العالم البشع، حتماً ليس في منأى من ذلك.
حيوية الثائر وصَنَميّة المثالي
“إلى جيل يمشي الحيط الحيط، ويقول يا ربّي السترة/ نحن جيل هدّينا الحيط، ورح نعمل الأسد عِبْرة”
(أحرار بنّش)
بنّش، بلدة في ريف محافظة إدلب بشمال سوريا، والكلام الموقَّع باسم أحرارها، جاء في لافتة حملها شاب خلال إحدى تظاهراتها.
في حين يميل البعض إلى التذكير بثورات قادها رجال فكر وسياسة، عُمِّدَت بآراء فلاسفة كبار؛ يجيد البعض الآخر الانعتاق من النوستاليجا تلك، والانتماء “من دون تفكير” إلى أولئك الثائرين، المفكرين على طريقتهم، في بلادنا. فاللافتة نفسها تبدو بمثابة ثورة فكرية، يكتبها هذه المرة مفكرون، أدواتهم الروح والدم، فضاءاتهم الشوارع والساحات والأزقة، السهول والجبال والوديان، القرى والمدن. ثورة تبدو كأنها تعصف بالذهنية التقليدية وتصوراتها، تحطّم أصنام الخوف والمألوف، تنسف هواجس الستر والسترة، والركون إلى عكاكيز السلطة، والاتكاء على جدران العزلة والكبت. ثورة ما انفكّ جيلٌ شاب يرمي فيها الحطبة تلو الأخرى، لتبقى مشتعلة لائقة بروح متوفزة، ولائقة كذلك بعقل شاب متوهّج ببنات الأفكار وصبيانها، يضرم ثقافةً لها فاعلية النور والتنوير، قد لا تبتعد في مغزاها ومعناها عن الشعار الذي اجتاح أوروبا في عصر التنوير: “لتكن لديكَ الشجاعة لتستخدم عقلك”. أما شعار التنوير الخاص بالربيع السوري، فيبدو كأنه الآتي: “تشجَّع واعرف بنفسك ولنفسك، وأَعْمِل الثورة في كل مناحي الحياة، وفي كلّ موضوع يُطرَح”. إنها ثقافة شابة، من شأنها إحياء حق الفرد وتمكينه من البحث عن سعادته، ولا يعني ذلك أكثر من أن يمارس حقه في أن يشقّ طريقه في الحياة من دون تكبيله بإرادة متسلِّطة.
أنْ يُهدَم “الحيط”، وتندلع الثورة على حاكم مستبدّ مجرم، ويُجْعَل منه عِبْرة لكلّ ظالم، لَهُو انقلاب جذري أصيل في مفهوم “الحاكم”. فمنذ انطلاقة العام 2011، بدت شعوب “الربيع العربي” كأنها قد حفرت على جذر المفهوم المتأصّل في الذهن عن الحاكم. فدوماً كان هناك الحرصاء على صوغ القواعد التي تضمن مصالح “النخبة” المسيطِرة، وكان الحاكم دوماً بمثابة إله أو نصف إله، له حاشيته، ومثقفوه، ومفكروه، ومنافقوه، وفقهاؤه المتمسِّكون بقاعدة عدم جواز الخروج عليه مهما يكن ظالماً. إلا أن الشعوب الثائرة، أصبحت اليوم تفكِّر في الحاكم كموظف لديها. إنْ لم يحكمهم باختيارهم الحر، وإنْ لم تكن سياسته ناجعة في توفير عيشٍ حرّ كريم، وإنْ ارتكب جُرماً، فإن الثورة عليه وإطاحته، ثم محاكمته، حق قانوني لا تشوبه شائبة. تبدو الشعوب ذاتها كأنها أدركت أن لا مصلحة لها بالسمات “الشخصية والأخلاقية” للحاكم، السمات التي طالما سُيِّست من أجل استمالة عاطفة الناس وجَعْل الحقوق مكرمات وهبات من الحاكم “الطيب، المحبوب، العطوف الرؤوف”. ما عاد إقحام الأخلاق والعاطفة في السياسة كشأن عام، وارداً ربما بالنسبة إلى مَن ثار، ووحده القانون يجب أن يسود على الحاكم والمحكوم في آن واحد. ما عاد القبول بـ”المستبد العادل” مهضوماً ومستساغاً، إذ ما من استبداد عادل، فالعدالة ليست منحة الحاكم، بل حق.
الثورة السورية، شأنها شأن كل الثورات الشعبية، من حيث هي عُرضة للاختطاف، والتسلّق، والركوب، بيد أنه ينبغي للصوص الثورة من كل شكل ولون، استيعاب الدرس، كون الجيل الذي أشعل الثورة “هدّ الحيط”. فما دام المستبد الأخطر والموغِل في القدم، قد تمت مقارعته بشجاعة منقطعة النظير، ما بالك بمستبد حديث العهد أمام شعب خاض تجربة تحرُّر مذهلة؟!
كتبَ أحدهم مرة على صفحات “فايسبوك”: “الانتهازيون يعرفون من أين تؤكَل الكتف، لكن الثوار يعرفون كيف تُقطَع اليد من الكتف”. بصرف النظر عن قطع الأيادي، نحن نتبنّى الثقة بقدرة الثائر الحقيقي الحيوي، على كشف الخسّة والمؤامرة المتربصة بثورته، ونبارك كل ما من شأنه تسلّم “الجيل الذي هدّ الحيط” زمام أموره سياسياً. إن الثقة بالثائر هنا، تتجلّى عن تفكّر في ثورات العالم العربي، كثورات تنضج مع الزمن، والمأمول منها يحتاج إلى سنوات حتى يتجسّد، وربما عقود طويلة، فعمر الثورات لا يُقاس بعمر الأفراد.
****
تستمد الواقعية مشروعيتها ربما من العيان القائم في الزمان والمكان، ولا شك أن المعنى الحي لمفردة “شعب”، محض سياسي. فيما الثورة الشعبية، تجلٍّ لزخم شعبيّ، عيانيّ، مشخَّص. فالفارق بين “الحرية” كمفهوم مجرّد، و”التحرّر” كفعل شاق وطريق وعرة، كبير ومهم. غير أن ثمة مَنْ لم يكابد الثورة كتجربة حية، أرضيّة، بدا كأنه مثقل بمفهوم الحرية، وجدَ ضالته في المزايدة، وفي التعاطي “المثالي” مع الشعب “الواقعي”، في محاولة بائسة لإدراك ما ليس موجوداً في العيان. جعل من نفسه “أستاذ الثورة ومربّيها الفاضل”، فرفع عصاه مشيراً إلى ضرورة شطب مفردات “الشعب، المحسوسة”، واعتماد مفردات لائقة بنُخَب الميتافيزيقا. ثم راح يفصفص حتى أبسط أخطاء الناس ممَّن حلَّت عليهم الفاجعات، ويترصّدها مُريداً من الثائر أن يكون “مثالاً” يتواءم و”فهمه” للثورة. صار كأنه يتقمّص شخصية بروكرست في الميثولوجيا اليونانية، قاطِع الطريق الذي كان يستضيف المسافرين ليناموا على سريره، فإن كانوا أطول منه، قطع الزيادات ليُساوي جسد الضيف مع السرير، وإن كانوا أقصر، شدَّهم حتى الموت. أوَليس هذا نهج بعض فصائل “المعارضة” التقليدية من مثل “هيئة التنسيق الوطني”؟ الهيئة التي طالما مارست دور التلقين المتعجرف، حتى أمست تعيش وهمَ فِعْل العلة الكاملة في المعلول الناقص، مع أنه حتى “اللاءات الثلاث” التي راحت تنظّر بها على الناس، هي معلولة للشعب السوري الثائر، فالشعب ذاته كان العلة الأصيلة لـ:”لا للطائفية، لا للتدخل الخارجي، لا للعنف”. في السياق ذاته، اندرج خطاب من مثل: “سوريا فوق الجميع”، الذي أصرّ على “الفوْق” كأن قدَر السوري أن يبقى محكوماً بـ”الفوْق” الذي أخذ شكل “البوط العسكري” طوال عقود. يصعب ربما على متبنّي هذا الخطاب تفهّم الحاجة الملحّة إلى “سوريا للجميع”.
يبدو المثاليّ كأنه يريد ثورة “خالصة” ذات منهج يبدأ في “بناء الدولة” مباشرة، قبل الانتهاء من مرحلة هدم النظام القديم. لكن ألا يقتضي المنهج كمراحل، عدم حرق المراحل؟. أكدت التجربة أن إسقاط النظام لا بد أن يصاحبه غبار وأعاصير وشتى أنواع الغضب. فمَنْ قال إن الوقور دائماً، المشذَّب المعلّب، هو ابن الثورة والحياة والطبيعة البشرية؟! قد يقول قائل: لا ينبغي تقديس الثورة. بديهي أن الثورة ليست مقدَّسة، وأن لها أخطاؤها التي ينبغي نقدها وتصويبها، وكل ما ذكرناه آنفاً يحكي عن الثورة كتجربة محض بشرية. لكن ما دامت الثورة ليست مقدَّسة، لماذا يريدها البعض كما “الملائكة”، معصومة لا يعكِّر صفوها خطأ؟! لِمَ الإصرار على تطويع الثائر لكي يشبه “نموذجاً” محدَّداً ساد الاعتقاد الواهم أنه “الأرقى”؟! هل “المطوِّع” نفسه، منزَّه عن الشوائب؟ من هنا ربما يتأتى الاعتقاد المهم في ضرورة الثورة على الذات أولاً.
ما لا ينتبه إليه ممتهن المثالية، أن هذه قد تفضي إلى الكذب والمراوغة، وادعاء الامتياز على الآخر، عبر السعي إلى “الاشتهار” بالتحضّر. كمثال يمكن أن يُضرَب ها هنا، أستحضرُ بوحاً لأحدهم أفرَجَ عنه خلف الكواليس ذات ارتياح: “أشعر بالسعادة في كل مرة يحرز فيها “الجيش السوري الحر” تقدُّماً، إلا أنني لا أعلن سعادتي، لكي لا “تحترق أوراقي”، لذا أفضِّل ترْك غيري يفعل ذلك، وأبقى مؤيِّداً السلمية بالمطلق”. مع أن المتكلِّم نفسه، شخص عادي، لكنه، قد يقترب في تصريحه إياه، من هتلر حين صرّح ذات يوم: “ليست عندي أي رغبة في الظهور بمظهر مَن يحتقر القانون الأخلاقي أكثر مما يحتقره غيري من الرجال. ولماذا أسهّل على الناس السبيل لمهاجمتي؟ إنني أستطيع بسهولة أن أعطي سياستي لوناً من الأخلاق، وأظهِر أن سياسة خصومي سياسة منافِقة”. يبقى السؤال: هل السلمية، وفق هذا المنطق، غاية أم وسيلة؟ أخلاق أم سياسة؟. بعدما فُرِضَت العسكرة على الثائرين السلميين، بغية الدفاع عن النفس في قبالة وحشية قل نظيرها، وباتت أمراً واقعاً، أصبح المرء يشعر بأن السلمية بالنسبة إلى “المثاليّ”، صارت وسيلة ومناورة سياسية، أما بالنسبة إلى الثائرين في الميدان، حتى بعدما تعسكرت الثورة، ظلوا يخرجون في تظاهرات سِلميّة، تأكيداً منهم على أن السلمية بالنسبة إليهم غاية لا وسيلة، أخلاق ومبدأ لا سياسة.
أثبت التعاطي المثالي مع الثورة، قلّة جدواه في تكوين التجربة، وتبيَّن أنه يُقصي الآخر، مع أن الآخر ليس ترَفاً، بل شرط دائم لضمان وحدة الثورة وثرائها؛ لأنه يصعب فهم طرف إلا من خلال الطرف الآخر، الذي أحياناً يكون مناقِضاً وأحياناً أخرى مكمِّلاً. أما كيف يمكن فهم الآخر بالنسبة إلى المثاليّ؟ فهذا أمر يبدو محكوماً بالتخبط، كونه يريد فهمه عبر منهج المماثَلة، ويقارنه بنفسه، بحيث يتطابق و”سريره” أو “مثاله”.
التمثيل والتنجيم
1
كل شكل من أشكال التغيير المجتمعي، يتحمل مسؤوليته الناس جميعاً، حيث لكلٍّ دوره فيه، ويُفترض ألا يعتقد أحد أنه ممثل التغيير ومحتكره، إذ لا يمكن أن يمثل أحدٌ أحداً إلا على سبيل التضليل والوهم والخداع. هكذا، سمح “الربيع العربي”، باعتباره حدثاً تاريخياً، وشكلاً فذاً من أشكال التغيير في عالمنا المعاصر، بالانتقال من التراتب العمودي الذي طالما كان سائداً قبل اندلاع ثوراته، إلى الحيّز الأفقي الحي النابض.
أفسحت الثورة السورية باعتبارها واحدة من ثورات الربيع نفسه، المجال أمام جميع الناس التوّاقين إلى التغيير لكي يساهموا في إنتاج الحقيقة، بشكل أو بآخر، بعدما أخذ الأفراد على عاتقهم الدفاع عن حرياتهم بأنفسهم من خلال قنوات كثيرة، لعل الاحتجاج السلمي في الشارع كان أهمها. إذ ما عاد في إمكان ما يُسمَّى – بحق أو بغيره- “نخبة”، أن تحتكر الدفاع عن الحرية والحق والخير والجمال، كون هذه لكل الناس، وما من أحد أولى فيها من أحد، لا بل إن مَن يرتضي لنفسه أن يكون راكداً منتظراً الآخرين لكي يدافعوا عن حريته وحقوقه وكرامته، يكون كمَن يسلّم نفسه هبة خالصة لمَن يتلاعب بكيانه الإنساني، أو يكون أنانياً جشعاً من ناحية انتظاره أن يدفع غيره ثمن حريته هو، خصوصاً بعدما بيّنت التجربة أن السعي إلى الحرية قد يكلّف المرء حياته.
قد لا نجانب الصواب، عندما نعتقد هنا أن بعضاً ممن اعتبروا أنفسهم “نخبة” لها وحدها الحق في الدفاع عن الحرية والديموقراطية، قد عادوا الشعب في ثورته الطامحة إلى الخلاص من الاستبداد والاستعباد، كونهم شعروا ربما بأن ثمة مَن استلّ منهم سلطتهم، وبات يدافع عن حريته بنفسه، وما عاد محتاجاً إليهم. شكّل ذلك صدمة ربما لأولئك الذين ارتدّوا إلى طائفيتهم، وتغلّبت عندهم إرادة الهوية الطائفية على إرادة الحرية، لطالما كانوا يستمدون شرعية وجودهم من مهمَّشين كان يجب أن يظلّوا مهمشين ساكتين ومغيَّبين لكي تستمر الشرعية المتهافتة تلك!
ثمة طراز آخر ممن يُسمَّون “نخبة”، أيّد ثورة الحرية، إلا أنه لم يتعاط مع نفسه باعتباره فرداً من شعب ثائر، بل بدا كأنه يريد تمثيل الثورة رمزياً. وغالباً ما تكشف قراءة ما بين السطور في نصوص هذا الطراز، أو في تصريحاته ومواقفه، نزوعاً إلى اعتبار نفسه كأن لا أحد أولى منه أو أهمّ في الحديث عن الثورة. ناهيك بذاك الشعور أن لكلٍّ “مشروعه” الذي يبدو كأنه يسعى من خلاله إلى احتكار تمثيل الشأن العام في الثورة. منطلقاً في ذلك، من تصوراته – المحقة أو غير المحقة – عن نفسه أنه الأجدر لإنتاج الديموقراطية والحرية والعدل والمساواة، كأن الناس جميعاً قاصرون وجاهلون.
****
قد يقول قائل إن “النخبة” تختلف عن الثائرين في كونها موضوعية لا انفعالية. لكن تحت شعار الموضوعية، يتناسى القائل أن الأحداث الواقعية التي ولّدها الشعب الثائر في شرائحه كافة، والتضحيات والبطولات التي قدّمها، كانت أساساً لـ”موضوعية” “النخبة”، ومادة أولية تدخل في تركيب الإنتاجات الثقافية كافة. ما يحتاج إليه الواقع ليس مثاليات خادعة، ولا استعراضات نجومية تفضي إلى تكريس فكرة “الجندي المجهول” بما تنطوي عليه تلك الفكرة من مكر سلطوي وخبث.
ليس المقصود هنا تغييب أي “دور”، إنما يُراد تأكيد تنوع الأدوار وغناها، وتفنيد الحضور الطاغي لبعض الشخصيات. الحضور الذي من شأنه التغطية على الصانعين الحقيقيين للحدث وقطف ثمار أفعالهم. أليس هذا ما آلت إليه بعض المواقف؟. فـ”احتراف” مواقف جلّ همّها انتقاد الفاعل الحقيقي- بحق أو بغير حق – في كل ما يفعله، أو الحطّ من شأنه، حتى لكأنك تظن بعض المنتقدين، باتوا ممثلي الثورة وحرّاسها الشخصيين! يشعر المرء أحياناً أن الغاية من وراء ذلك، قد تكون بناء الأمجاد وحصد الجوائز في “الديموقراطية” و”الشجاعة” و”السلمية”، كأن لهذه كلها عنواناً محدداً مرتبطاً بهذا أو ذاك! احتراف المواقف تلك وغيرها، من شأنه الانتقاص من قيمة الناس، وإعدام قدرة الثائرين على تجاوز أخطائهم من دون الرجوع إلى “ممثلين وحرّاس وحكماء وشيوخ وأمراء”؛ وتعميق تهميش المهمَّش الذي ما كان ليقوم للثورة قوام لو لم يكن إحقاق حقوقه ركناً أساسياً في اندلاعها.
ما الذي فعلته “شفقة” إحدى نجمات هوليوود مثلاً، أو أي مسؤول أممي “رفيع المستوى”، على السوريين في مخيمات اللجوء وغيرها أمام الكاميرات، غير مزيد من التقزيم لثائرين اجترحوا المعجزات في سبيل الانعتاق من ديكتاتورية مجرمة، ومزيد من “العملقة” لنجمة سينيمائية، ومزيد من المعجبين بأنثى حسناء مدافعة عن الفقراء، وحانية على الأطفال المشردين؟! ما الذي فعلته بعض “الفضائيات”، غير استعمال السوريين ومآسيهم كـ”مادة إعلامية”، خصوصاً عندما “تعرض” بعض الشاشات التابعة لحكومات إقليمية مثلاً، عذابات السوريين من أجل تخويف شعوب الحكومات تلك، والتقليل من شأن السوريين كثائرين جديرين، لصالح تقديمهم إعلامياً عبرةً مريرة ومحزنة لكل شعب يفكر في الثورة على نظامه؟! أليس هذا ما يمكن استشفافه – مثلاً- من عبارة: “لا شيء يتغيّر سوى أعداد القتلى”، التي دأبت إحدى الفضائيات على بثّها مكتوبةً بعد كل “عرض” لمآسي السوريين؟! ناهيك بالأرباح التي يدرّها السوريون المنكوبون والثائرون بوصفهم “مادة إعلامية” على “المستثمِرين”. أراد بعض الأشخاص الحقيقيين أو الاعتباريين، من تقديم أنفسهم كـ”ممثلين” للثورة والثائرين، رسم صورة ذهنية مفادها الحرص على استبدال واقع بآخر، بينما يتعلق الأمر بخلق حقائق جديدة، ووقائع جديدة تغيّر الواقع على الأرض كلّياً وجذرياً.
2
التنجيم: مصطلح مقترَح، يعني رفع شخص إلى مرتبة المثل الأعلى واعتباره نجماً، وتنزيهه من الشوائب والنقائص، في حالة من تضخيم قيمته وأهميته. غالباً ما يكون التنجيم الذي يمارسه البعض ممن أدمنوا قزميتهم أمام “الكبار”، نتيجة الحضور الطاغي لأشخاص يُسمّون “نخبة”، يبدون فيه كأنهم يحتكرون – بقصد أو من دونه – المشهد الثوري إعلامياً. وغالباً ما يكون اللقب: كتعريف نهائي، تبسيطي، يختزل الشخص ويختصره، يحدِّده ويقولبه، إحدى أدوات التنجيم. حقاً إن الملقَّب قد لا يكون مسؤولاً مسؤولية مباشرة، عن اللقب الذي أُطلق عليه، بيد أنه مسؤول إلى حد ما، عن الموافقة عليه أو السكوت حياله. “إذا سمّيتكَ؛ فلا تتسمَّ”، يقول النفري.
لا عجب عندما ينطوي لقب من طراز “داعية سلام” مثلاً، على حرب حقيقية خلف “التبشير” أو “الدعوة” الظاهرة إلى السلام، ما دام مَن يتماهى مع دور “الداعية” يصير بمثابة شيخ باحث عن مريدين، ويفترض نفسه مسبقاً أنه السلمي الوحيد، وأن السلام في حوزته، وفي ما عداه مجرد كائنات حربية، يجب أن يدعوها إليه، كون السلام “في جعبته” وهو المسؤول عن “توزيعه”! جرت العادة، أن يقدِّم “دعاة” السلام أنفسهم، كحياديين في منأى من أي موقف أو طرف سياسي. في حين أن الحياد الذي يماهي بين شعب ثائر ونظام جائر، بين الضحية والجلاد، أو بين الطرف الذي طالما كان “سبباً” للمآسي والكوارث، والطرف الذي يجسّد “النتيجة”، هو موقف سياسي أيضاً، ولا أخلاقي، يختلف عن المواقف السياسية الواضحة (مع – ضد)، في كونه لا قوام متماسكاً له، إنما فقط يحاول الإفادة بحكم موقعه في الوسط، من هذا وذاك، ويساهم في المزيد من “التمييع” و”التعمية”. قد يكون مفيداً هنا لفت الانتباه إلى أن مؤتمراً مثل جنيف لـ”السلام” مثلاً، يندرج داخل الإطار المائع والتضليلي ذاته. وخصوصاً أن زعماءه – الروس تحديداً، الذين طالما قُتل الأطفال السوريون والنساء والأبرياء بسلاحهم الذي لم يتوقفوا لحظة عن إرساله إلى حليفهم الأسد ونظامه- يشكلون جزءاً حقيقياً من الحرب. تكمن المفارقة هنا، في أنه كلما استعرت نظريات السلام وتنظيراته؛ استعرت نار الحرب عملياً، بشكل يذكّر، في معنى ما، بالموقف الأيديولوجي المخادع الذي كلما زايد متبنّوه على الناس بوحدة الأمة العربية ورسالتها الخالدة؛ ازدادت الأمة – على أرض الواقع- فرقة وشرذمة!
****
هناك مَن يمارس العنف الفيزيائي، وهناك مَن يمارس العنف الرمزي. محاولات الاستئثار بالمشهد الثوري، واختطاف الضوء، وتكريس أسماء بعينها، وغير ذلك، هي نوع من العنف الرمزي الذي قد يدفع المهمَّش المقهور ذا التكوين السيكولوجي الهشّ إلى اقتراف كل ما يمكن أن “يشهره” أسوة بـ”مشاهير الثورة”، خصوصاً عندما تفشل الطرق السليمة في تحقيق مراده، أو عندما لا يجد مَن يعزِّز الطاقة الثائرة لديه، ويقدِّرها بالشكل الذي قُدِّر فيه هذا أو ذاك ممن باتوا “نجوماً ” يتحدث القاصي والداني عمّا فعلوه هم بالتحديد من بين ملايين الثائرين والثائرات، الجديرين والجديرات! عندئذ، قد يجد نفسه مضطراً إلى سبر طرق غير سليمة، إذا كانت هذه ستفضي في نهاية المطاف إلى الشهرة المبتغاة. ربما يتمنى أحدهم أن يُضطهد، أو قد يسعى إلى تشكيل صورة معينة عن نفسه، هي غالباً صورة المعنَّف، أو الملاحَق والمهدَّد، بغية جذب الانتباه إليه، وجرّ الآخرين إلى التكلم عنه كـ”بطل”، وقد تُرجِم هذا الطراز من المازوشية فعلياً وعملياً، في وقائع عدة معروفة ليس هنا مجال التفصيل فيها.
تصيب المرء الدهشة إن هو راح يفكر في تهميش المهمَّش للمهمَّش ولنفسه، عندما يعمد إلى تنجيم هذا أو ذاك من الفنانين والممثلين، ونعت أولئك بألقاب من مثل “أسطورة”، “طفرة” وغير ذلك، كونهم مناصرين للثورة، ويشرد فكره: أليست “النجوم البشرية” كائنات أرضية، شعباً؟ لِمَ شكرهم أو امتداحهم إذاً عندما يكونون مؤمنين بـ”ثورة شعبية” ومؤيدين لها؟! تبلغ الدهشة أوجها، عندما يصير اعتقال شخصية عامة مثقفة مثلاً، أهم بما لا يقاس من اعتقال المطمورين والمغمورين أو الغير متعلمين الذين اعتقلوا من أجل القضية العادلة ذاتها التي اعتُقِل من أجلها المعروف. كأن الماهية الإنسانية ليست واحدة! أو كأن الموت لا يساوي بين البشر ويضع المصير الإنساني في متاهات وحدةٍ لانهائية!
هذا المأزق، أو هذا الصراع الفكري والواقعي، لا يمكن الخروج منه في رأينا، إلا بصوغ كل ما من شأنه تجاوز نزعتَي التمثيل والتنجيم دفعة واحدة، وإعادة ترتيب العلاقة بممتهني الفكر والثقافة والفن والإعلام والسياسة، وبالعالم، من خلال الاتكاء على وعي يتساءل، ينقد، يتفكر، يفكك، يغامر، يحلّق، يحطّم الأصنام في شتى أشكالها ونماذجها، أسوةً بصنم الحاكم المستبد، يقوِّض علاقات السيادة والتبعية، ويسعى إلى بناء علاقات (أنا – أنت)، أي علاقات ديموقراطية أساسها التكافؤ الإنساني، والاعتراف المتبادل.
المجتمع الأهلي والمجتمع المدني
1
مذ بدأت حركة النزوح إلى محافظة السويداء تنشط، تقريباً في أواسط تموز لعام 2012، بعدما تفاقمت همجية الآلة الحربية لنظام يقتل شعبه، ويشنّ حرب إبادة ممنهجة على مختلف المدن والبلدات والقرى السورية؛ نشط، في قبالة حركة النزوح تلك، العديد من الآراء، ووجهات النظر المتباينة. يمكن انطلاقاً من كوننا -أنا كاتبة السطور وغيري- من المنخرطين في الثورة أولاً، ومن أبناء المحافظة ونعيش فيها تالياً، التمييز بين وجهتَي نظر تزامنتا من دون أن تتداخلا، وكانتا الأكثر وضوحاً وتخارجاً في آن واحد.
كانت واحدتهما مصدرها “المجتمع الأهلي”، أي مجتمع العائلة والقبيلة والعشيرة والطائفة الدينية والمذهبية والجماعة الإثنية، وهو مجتمع ما قبل مدني وما قبل وطني، كون المدنية ملازمة للوطنية. ومثّلت الأخرى تجلّياً واضحاً للروح الثوري، وهذه تجاوزت وجهة النظر التقليدية، هادمةً أسوار العزلة والانغلاق على الذات التي من شأنها منع أفراد المجتمع الأهلي من الانفتاح على الآخر، بل الترهيب منه، والحض على إقصائه كـ”غريب”. ففي حين انشغل أفراد المجتمع الأهلي في المحافظة نفسها، في تصنيف “الغرباء” النازحين إلى “مجتمعهم”، كموضوعات للكره والعداوة، والنبذ والإقصاء، استشاط بعض الأفراد الأحرار المتجاوزون للمجتمع الأهلي التقليدي، بنسبٍ متفاوتة، وأولئك كانوا في غالبيتهم من الثائرين أو المعارضين للنظام ذي الأصل الطائفي، الفئوي، التمييزي، استشاطوا حماسة من شأنها تقديم ما تيسّر لمساعدة مَن نزح من السوريين في المحافظات المختلفة إلى محافظة السويداء. يمكن هنا، إمعان التفكير في إرهاصات “مجتمع مدني”. إذ مجموعات الإغاثة على سبيل المثال، التي شكّلها شبّان وشابات، وناشطون وناشطات، معتمدين على إرادة ذاتية حرة غير حكومية، وهي مجموعات تطوّعية عبّرت عن اندماج وطني، واختلفت تماماً عن ذاك “التطوع القسري” الذي طالما بُرمج وفق ما تقتضيه مصالح السلطة الأسدية طوال عقود الحكم الشمولي المستبد لسوريا، ربما تكون بمثابة نواة مجتمع مدني في طور التشكّل، كونها كانت للثورة كالمجتمع المدني للدولة الوطنية الحديثة، شأنها في ذلك شأن “التنسيقيات الميدانية”، أو “الصحافة الميدانية” التي مارسها ناشطون، صوّروا، بواسطة كاميرات هواتفهم المحمولة، ما يجري على الأرض، معتمدين في ذلك على أنفسهم، بغية توثيق أحداث الثورة، ونقل حقيقة ما يجري إلى العالم، في ظل غياب الإعلام المستقل.
2
لمّا كانت العلاقة الأخلاقية بين الذات الجمعية، الـ”نحن”، والآخرين، الـ”هُم”، وبين الذات الفردية، الـ”أنا”، والآخر، الـ”هو”، تختلف باختلاف المعايير المعتمَدة في تصنيف الآخر، إذ يجري التصنيف عادة بين “الآخر القريب” و”الآخر الغريب”، وهذا الأخير، غالباً ما يكون، في المجتمع الأهلي، موضوعاً للكره والعداوة، إذ يُنظر إليه باعتباره نقيضاً للذات الفردية والجمعية، ما تستوجب محاربته بشتى وسائل النبذ والإقصاء والتدمير، فإن وجهة النظر التي مثّلت المجتمع الأهلي التقليدي في السويداء، اعتقدت أن “الغريب”، أي النازح السوري، الذي مثّل بالنسبة إليها “خارجاً” اقتحم “الداخل”، سوف يهدّد وحدة الجماعة وهويتها، خصوصاً أن “الغريب” إياه قد ارتسم له، في الذهن التقليدي، تصوُّر جعل منه “إرهابياً، تكفيرياً، مخرّباً”. تصوّرٌ مخادع زرعته عشيرة الأسد ونظامها المؤسَّس على كل ما يجسّد مرحلة ما قبل المدنية وما قبل الوطنية، وما قبل الدولة.
إن النازح، بالنسبة إلى أفراد المجتمع الأهلي في المحافظة المذكورة، كان ذلك “الخارج” (خارج الملّة الباطنية الجوّانية)، ما يعني، ليس الخوف منه، كونه “الآخر الغريب” فحسب، بل كرهه أيضاً، ونَسْب كل مذموم إليه، وادعاء الامتياز والتفوق عليه. ناهيك بادعاء النقاء وعراقة الأصل والحسب والنسب الذي لا يخلو من نزعات عنصرية مفادها العجرفة والازدراء. لعل في ما تداوله أفراد المجتمع الأهلي من كلام مثل “ما بدنا رِجِل غريبة تدْخل لعنَّا”، دلالة تشي بقلق يتعلق بنقاء الهوية، والخوف على وحدة الجماعة من تهديد “الآخر الغريب”. قلق يتصل بما ساد طويلاً من اعتقاد وهمي أسّس المجتمع الأهلي على “هوية خالصة”. وهذه من شأنها إقصاء “الغريب” بدعوى المحافظة على وحدة الجماعة.
ما دمنا في صدد الحديث عن خوف الجماعة من “الآخر الغريب”، قد يكون مناسباً استحضار رأي نظنّه مهماً للكاتبة والمحللة النفسانية جوليا كريستيفا، التي تعتقد “أن كل جماعة تشتمل على غريبها. فالوحدة المزعومة للجماعة ليست سوى مظهر يُخفي التناقضات الداخلية التي تنكشف لنا عندما ندقّق النظر في الاختلافات والتمزّقات التي تجعل كل جماعة تحتوي على ما هو سوي ومنحرف، أو على ما يلائم قيمها ويناقضه على السواء”. عن ذلك تقول: “ليس الغريب هو ذلك الدخيل المسؤول عن شرور المدينة كلها، ولا ذلك العدو الذي يتعيّن القضاء عليه لإعادة السلم إلى الجماعة. إن الغريب يسكننا على نحو غريب. إنه القوة الخفيّة لهويتنا”.
إن خوف الجماعة من كل ما قد يهدد وحدتها ونقاء هويتها، ربما كان سبباً من بين أسباب عدة، جعلت أفراد المجتمع الأهلي في المحافظة نفسها، لا يقوون على معارضة “حاكم” البلاد والثورة على نظامه الجائر، حتى بعدما طال أمد عذابات السوريين أخوتهم في الوطن! ما دام الحاكم، بالنسبة إلى أفراد المجتمع الأهلي، هو بمثابة “الأب”، والخروج على الأب، وعصيان كلمته هو بمثابة “كفر وزندقة”. ما كان ليطيب لأفراد المجتمع الأهلي- مجازاً نوصِّفهم كأفراد، إذ في المجتمع الأهلي، هناك “كتلة بشرية” لا متمايزة- أن يكون في مجتمعهم شيء من ثورةٍ تحفر على جذور المجتمع الأهلي التقليدي، إلا وجلّلوه بالسخف والسخرية، وأذلّوه واحتقروه. ما كانوا ليتكلموا إلا ليشجعوا الأنانية والانغلاق على الذات وانحطاط الأجيال المقبلة، عبر إبقائها ضمن قوقعة المجتمع الأهلي التقليدي غير المنفتح. إن شعوراً شاقاً بالعطالة، منعهم من معانقة رياح التغيير العظيمة، وجعلهم يصرفون اهتمامهم عما يجري في وطنهم.
كان موقف بعضهم في ما يخص إغاثة النازحين إلى “مجتمعهم”، أننا لن نساعد مَن ليس “منَّا” وليس من “جماعتنا”. فهو، بالنسبة إليهم، “الآخر الغريب” الذي “خرّب البلد”، وعصى أمر “الحاكم/ الأب”، وخرج على سننه. وعليه: مسموح- إن كان لا بدّ من المساعدة- مدّ يد العون إلى “الآخر القريب”، أي إلى الذي “مِنَّا وفينا”. بتعبير أوضح، إلى النازح “الدرزي” فقط. الدرزي الذي لم يعمد إلى معصية “الحاكم/ الأب” ولم يثُر عليه. يُذكَر هنا، أن بعضاً من النازحين إلى محافظة السويداء، كانوا من الدروز الذين فرّوا من “حي التضامن” مثلاً، بالعاصمة دمشق.
بقي أن نقول: إنه حتى المجتمع الأهلي الذي نزعم أننا نقدناه آنفاً نقداً علمياً، لم يتعرّض – فيما عدا حالات فردية- بالأذى للنازحين إلى المحافظة المذكورة، حتى لحظة كتابة السطور، بالمعنى المادي لمفردة أذى، لا اللغوي أو الثقافي للمفردة ذاتها.
3
غير أن هناك مَن تجاوز كل تمييز عنصري وضيع، وترفَّع عن كل ما من شأنه الارتداد إلى مستوى ما قبل المدنية وما قبل الوطنية، وما قبل الإنسانية في مفهومها الواسع، إذ مفهوم الإنسان في المجتمع الأهلي يضيق ويُختزَل. هذا ما يُستشفّ مثلاً من أمثال شعبية تمثّل جذر العقل اللغوي للمجتمع الأهلي، أمثال من قبيل: “أنا وخيّي على إبن عمّي، وأنا وإبن عمّي على الغريب”. هناك من تجاوز هذا كله، متخطّياً حدود المجتمع الواحد الوحيد، أي الجزء المنغلق على ذاته، لينخرط في الكل، أي في الحياة السورية العامة، مبدِّداً أوهام “الداخل المطلق” و”الخارج المطلق”، كاشفاً، في العمق، علاقة جدليّة بين الداخل والخارج، من شأنها النهوض بالمجتمع، والارتقاء به من مرحلة أدنى، “مجتمع أهلي”، إلى مرحلة أرقى، “مجتمع مدني”. إنهم في غالبيتهم من الأحرار المعارضين للنظام، أو الثائرين عليه. أولئك الذين آثروا مدّ يد العون إلى كل نازحة ونازح. ليس بصرف النظر عن دينه أو طائفته أو قوميته أو جنسه أو عمره أو طبقته الاجتماعية أو تحصيله العلمي أو خلفيته الثقافية وعاداته وتقاليده فحسب، بل أيضاً بصرف النظر عن كونه معارضاً النظام أو موالياً له. إذ تبدّت الإنسانية في أسمى درجاتها . كان المعيار الإنساني، الإنساني فقط، هو الحاضر، وحين يُسأل أيّ من أولئك الأحرار- بقصد الفضول- عن معارضة النازحين أو موالاتهم، تكون الإجابة: “لا يهمّني، في ما يتعلّق بمسألة الإغاثة، ما رأي النازح السياسي، لأني أقوم بمهمة إنسانية، وفي الإنسانية لا فرق بين هذا وذاك”. بدا بعض الأحرار كأنهم قد طبّقوا عملياً، الشعار الأهم ربما في الثورة السورية، أي: “واحد واحد واحد/ الشعب السوري واحد”.
وحيث إن الفرد في المجتمع الأهلي التقليدي، قد غابت ملامح هويته الفردية وانصهرت في “الجماعة”، حتى صار رأيه رأيها، وكلامه كلامها، وحكمه حكمها، ومصيره مصيرها، فإن معارضي النظام أو الثائرين عليه، كانوا على النقيض من ذلك، أحراراً مستقلين، يصنع هوية كل فرد منهم ما ينتجه أو يبدعه أو يقدمه بوصفه عضواً مسؤولاً في المجتمع، وحريصاً على قيم الثورة الحقيقية ومبادئها. وقد تعدّى الأمر، بالنسبة إلى بعض المعارضين أو الثائرين في محافظة السويداء، حدود الداخل والخارج، حتى بدوا كأنهم قد انشقّوا عن مجتمعٍ خاتمة “أحلامه” المحافظة على الرواتب والمعاشات، ويعتمد التربية التي لا ترمي إلى أكثر من ضمان السلطة السياسية للعواهل، والنفوذ للوجهاء، متوسِّلة إلى ذلك بوسيلة الدين أو الطائفة والمذهب!
كانت العلاقة التي طالما ربطت بين أعضاء مجموعات الإغاثة، علاقة اجتماعية، اقتصادية، ثقافية – بالمعنى الواسع للثقافة- وأخلاقية ذات طابع إنساني، مبدأه المصلحة المشتركة والمنفعة العامة، وفي هذا ربما ما يدل على صوابية ما ذهبنا إليه في ما سبق من السطور حول إرهاصات “مجتمع مدني”، لأن ذلك النوع من العلاقات هو الأساس الذي يقوم عليه المجتمع المدني الإرادي الحر.
ولأن المجتمع المدني يمثل الإرادة الحرة في الدولة الوطنية المدنية الحديثة؛ فإن السوريين قد يجدون أنفسهم مستقبلاً، أمام ضرورة تاريخية تقتضي منهم الاعتماد على الذات، في إرساء مجتمع متين، من أجل إعادة بناء البلد المدمَّر مادياً والممزَّق اجتماعياً، بعيداً من كل ما من شأنه قتل روح المبادرة، الذي طالما كان قائماً طوال عقود الاستبداد والاستعباد والفساد، وخصوصاً أن الوظيفة الرئيسة لتنظيمات المجتمع المدني هي الدفاع عن الحرية.
هوامش:
[1]– يمكن مراجعة المبحث الثاني، “الثورة والجسد”.