من المهم تعديل القانون في فرنسا للسماح للمحاكم بالنظر في القضايا المتعلقة بالجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في سوريا.
19 / كانون أول / ديسمبر / 2021
المصدر: المركز السوري للعدالة والمساءلة
أثار رأي صادم من أعلى محكمة في فرنسا شكوكاً حول قدرة القضايا المرفوعة بموجب الولاية القضائية العالمية، في فرنسا وأماكن أخرى، على محاسبة مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان في الدول التي لا تحترم القانون الدولي. حيث ارتأت محكمة النقض الفرنسية بأن المدعين العامين الفرنسيين لا يمكنهم التحقيق في الجرائم ضد الإنسانية أو مقاضاة مرتكبيها بموجب قانون فرنسي صدر منذ عهد بعيد لأن سوريا لم تجرّم الجرائم ضد الإنسانية محلياً. وثمّة قلق من أن القرار سيحرم السوريين – والضحايا من الدول الأخرى التي لا تعترف بالجرائم ضد الإنسانية – من السعي للمساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان من خلال الولاية القضائية العالمية. سيكون هذا منعطفاً مؤسفاً للأحداث حيث أصبحت الولاية القضائية العالمية الملاذ الأخير للعديد من ضحايا الفظائع عندما اختارت المحكمة الجنائية الدولية (إلى جانب مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة) عدم اتخاذ إجراء. وينبغي تعديل القانون الفرنسي كما اقترح ائتلاف منظمات غير حكومية. ولكن في غضون ذلك، لا تزال هناك فرص كبيرة للسعي لتحقيق العدالة في فرنسا على الجرائم الفظيعة المرتكبة في سوريا، بما في ذلك الإبادة الجماعية والتعذيب وجرائم الحرب.
محكمة النقض تمنع محاكمة الجرائم ضد الإنسانية
في 24 تشرين الثاني/نوفمبر، 2021، أصدرت محكمة النقض حكماً نهائياً مفاده أن الادعاء العام الفرنسي ليس لديه الاختصاص للتحقيق مع مجرم حرب سوري مزعوم ومقاضاته بسبب افتقار القانون السوري لتعريفٍ للجرائم ضد الإنسانية. وتتعلق القضية بعبد الحميد س، 32 عاماً، الذي خدم بين عامي 2011 و2013 كجندي احتياطي في جهاز أمن الدولة بدمشق – الجهاز المعروف بقمعه العنيف للمظاهرات ضد نظام بشار الأسد. حيث أفادت المحكمة أنها لا تستطيع محاكمة تهمة “التواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية” بحق جندي سوري سابق على الأراضي الفرنسية. وقالت إن المدعين الفرنسيين لا يمكنهم مقاضاة الجرائم ضد الإنسانية إلا إذا كانت جزءاً من القانون الجنائي في سوريا كما هو الحال في فرنسا أو أن تكون سوريا طرف في اتفاقية روما للمحكمة الجنائية الدولية.
كان القرار بمثابة صدمة كبيرة لكثير من المدافعين عن حقوق الإنسان والنشطاء والسوريين خصوصاً. وحذّر هؤلاء المراقبون من أن فرنسا قد تصبح الآن ملاذاً آمناً لمنتهكي حقوق الإنسان. وثمّة قلق أيضاً بشأن تأثير ذلك على قضية لافارج. في تلك القضية، بعثت محكمة النقض حياة جديدة في القضية الجنائية المرفوعة ضد شركة لافارج للإسمنت بتهمة التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية بسبب مبالغ قدّمتها الشركة لتنظيم داعش من أجل مواصلة عمليات الإسمنت التي تقوم بها في سوريا. ومن المحتمل أن يتم الآن إسقاط هذه التهم بناءً على القرار الجديد، وبالتالي لن يبقى سوى تهم أقل جسامة ضد الشركة.
ومع ذلك، هذه ليست نهاية الطريق. في الواقع، بما أن سوريا قد صادقت على اتفاقيات جنيف بالإضافة إلى عدد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية الأخرى التي تجرّم السلوك المعني، لا تزال هناك بدائل قابلة للتطبيق لمحاكمة الجناة الذين يعيشون في فرنسا.
القانون المحلي السوري
كما أوضحت محكمة النقض، يشترط القانون الفرنسي التجريم المزدوج للجرائم ضد الإنسانية لتتم الملاحقة القضائية في فرنسا. وعلى الرغم من عدم تجريم الجرائم ضد الإنسانية في سوريا، يمكن العثور على عدد من الجرائم الأخرى في التشريعات السورية. بالنسبة لهذه الجرائم، يتم تلبية شرط التجريم المزدوج مما يسمح بتحريك الدعوى. على سبيل المثال، صادقت سوريا على اتفاقيات جنيف الأربع في عام 1953. وعلاوة على ذلك، انضمت سوريا إلى بروتوكول جنيف الذي يحظر استخدام الغازات الخانقة والسامة وأساليب الحرب البكتريولوجية بموجب المرسوم التشريعي رقم 117 لعام 1970. وبالتالي، يمكن توجيه اتهامات مستقبلية بارتكاب جرائم حرب بشكل عام بالإضافة إلى جرائم الأسلحة الكيميائية.
كما يمكن النظر في القضايا ذات الصلة بتهم التعذيب لأن سوريا انضمت إلى اتفاقية مناهضة التعذيب، والتي تم تنفيذها محلياً بموجب المرسوم التشريعي رقم 39 لعام 2004. علاوة على ذلك، تنصّ المادة 53 من الدستور السوري على أنه “لا يجوز تعذيب أحد جسدياً أو معنوياً أو معاملته معاملة مهينة”. وإن هذا مدرج كذلك في المادة 391 من قانون العقوبات السوري التي تحظر التعذيب وتعاقب مرتكبي هذه الجريمة.
في بعض الحالات، قد يوفّر قانون مكافحة الإرهاب السوري أيضاً أساساً معقولاً للتجريم المزدوج. وتجدر الإشارة إلى أن قانون مكافحة الإرهاب السوري قد أسيء استخدامه بشدة من قبل الحكومة السورية لاضطهاد من لديهم آراء معارضة وكذلك المواطنين العاديين. وفي الحالات التي تكون الدول هي نفسها المسؤولة عن انتهاكات حقوق الإنسان على نطاق واسع يتجلى عدم صحة شرط التجريم المزدوج. ومع ذلك، يمكن استيفاء شرط التجريم المزدوج في الحالات التي يختار فيها المدعون العامون الفرنسيون ملاحقة المسؤولين عن الجرائم المتعلقة بالإرهاب، مثل أعضاء تنظيم داعش أو جبهة النصرة.
تطبيق بأثر رجعي
من المهم تعديل القانون في فرنسا للسماح للمحاكم بالنظر في القضايا المتعلقة بالجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في سوريا. وحتى لو تم تعديل القانون، فقد لا تؤدي التعديلات إلى حلّ المشكلة برمتها. وفقاً للمادة 112-1 من قانون العقوبات الفرنسي، لا تنطبق القوانين الجنائية الجديدة أو القوانين المعدّلة حديثاً بأثر رجعي. لذا، حتى لو تم تعديل القانون، يمكن للمحاكم الفرنسية أن تجد أن الجرائم المرتكبة أثناء النزاع السوري، بدءاً من عام 2011 حتى يومنا هذا، لا تخضع للملاحقة القضائية بموجب أي تشريع معدّل. غير أن هناك استثناء للقوانين المعدلة لأغراض الولاية القضائية فقط. لذلك قد تخلص محكمة فرنسية في نهاية المطاف إلى أن التعديل واجب النفاذ فوراً وتسمح بالنظر في القضايا ذات الصلة بسوريا، إذا تبين أن القانون يختص بالولاية القضائية البحتة.
وبغضّ النظر عن النتيجة، يسمح تعديل القانون بملاحقة الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في سوريا، أو في دول أخرى، بعد إجراء التعديل. لذلك سيكون من المناسب تعديل التشريع مرة أخرى لإلغاء شرط التجريم المزدوج كلياً بالنسبة للجرائم ضد الإنسانية.
الخلاصة
يُعتبر قرار محكمة النقض في قضية عبد الحميد س. صفعة لضحايا الجرائم ضد الإنسانية في سوريا. وتعتمد الجهود المبذولة حالياً للحصول على قدر من العدالة في سوريا – في كل من فرنسا ودول أخرى – بشكل كبير على محاكمات الولاية القضائية العالمية نظراً لأن روسيا استخدمت حق النقض (الفيتو) ضد الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية، وأيضاً سوريا ليست دولة طرفاً في نظام روما الأساسي (حيث وقّعت على النظام الأساسي في عام 2000 ولكنها لم تصادق عليه). وإن فرض التجريم المزدوج في هذه الظروف يتعارض مع مبدأ الولاية القضائية العالمية القائم على فهم أن هناك جرائم من الخطورة بمكان بحيث تهدّد العالم بأسره وتؤثر على الضمير العالمي. ومن المفهوم أن المدافعين عن حقوق الإنسان قد يعتبرون أن هذا القرار يمنح المجرمين فرصة للتمتع بالإفلات من العقاب على الرغم من ارتكابهم أخطر الجرائم.
غير أن سوريا، كما هو مذكور أعلاه، تجرّم جرائم الحرب والتعذيب والإرهاب، وتبقى هذه سُبلاً ناجعة للمحاكمات في فرنسا على الرغم من شرط التجريم المزدوج. وعلى هذا النحو، فإن رأي محكمة النقض، وإن كان مؤسفاً، لا يعني نهاية الولاية القضائية العالمية في فرنسا.