#########

العدالة والمساءلة

مشاهد الأولى من نوعها… “زمان الوصل” توثق محارق الأسد وتكشف تفاصيل عن موقعها وعملها والقائمين عليها


يوثق المقطع كيف يتولى بعض عسكريي النظام إنزال الجثامين من الشاحنة واحدة تلو الأخرى، وسكب قليل من الوقود عليها، ثم ركلها ودحرجتها إلى الحفرة، لتتكدس فوق بعضها، مشيعة باللعنات والشتائم.

12 / آب / أغسطس / 2021


مشاهد الأولى من نوعها… “زمان الوصل” توثق محارق الأسد وتكشف تفاصيل عن موقعها وعملها والقائمين عليها
*المصدر: زمان الوصل 

تعد هذه المادة الصحفية وملحقاتها بكل ما فيها من معلومات وصور، بمثابة بلاغ رسمي تضعه “زمان الوصل” وباسم ملايين الضحايا السوريين بين أيدي القوى الفاعلة في العالم، من حكومات وهيئات ومنظمات ومجالس، وتبدي الجريدة استعدادها للتعاون مع أي من هذه الجهات في سبيل تحقيق العدالة وملاحقة المتورطين، وذلك عبر التواصل المباشر مع “رئيس التحرير”.
 
*تقول المقاطع بكل صراحة إن كل عقوبات الأرض ليست سوى أضحوكة في عيون النظام، وأن الحديث عن محارق “نظامية” ليس سوى رواية هوليودية.
*وسط مشهد التوحش الأشنع من نوعه، حضر الضابط الكبير بكامل أناقته وبحذاء لامع للغاية.
*نقدم للسوريين وللعالم أجمع، دليلا طال انتظاره، وجوابا لسؤال بقي معلقا لسنوات، ونفتح ثغرة غير مسبوقة في ملف مصير جثامين المعتقلين والمختفين قسريا.
*بـ”خبرات” محلية وتكلفة شبه مجانية، يقتل الأسد السوريين ويتخلص من جثثهم حرقا.. فأي عقوبات ستردعه؟!
*رغم فظاعتها وكثرة الشهادات المتقاطعة حولها، لم تلق جرائم حرق السوريين سوى اهتمام هزيل من المجتمع الدولي، الذي ثار لاحقا لجريمة حرق طيار.
*يتقدم “أبو طاهر” بابتسامة عريضة للغاية وسط صيحات “راحت عليك” ليقف على الجثث المرمية في قاع الشاحنة.
*تثبت الدلائل المرئية -والأولى من نوعها- أن جرائم الأسد تقوم على خطة ممنهجة لأقصى حد، وهي وليدة مدرسة صارمة التعاليم.
*اتهم السوريون الأسد طويلا بحرق ذويهم، فلم يكترث ولم يجب، وعندما رماه الأمريكيون مرة واحدة بالتهمة سارع  للرد ببيان مؤلف من 150 كلمة.


طوال 10 سنوات مثقلة بكل أنواع الفظائع، بقي ملف المعتقلين والمختفين قسريا هو الملف الأكثر ضغطا على السوريين من مختلف النواحي، وقد زاد من هذا الضغط جدران سمكية من الكتمان، وأسوار عالية من الغموض، بناها نظام الأسد بإحكام، إلى أن أحدث “قيصر” أولى الثغرات النوعية حين سرب مطلع 2014 نحو 55 ألف لقطة، توثق جانبا من مصير آلاف المعتقلين الذين قضوا تعذيبا في معتقلات النظام.
لكن صور “قيصر” على أهميتها البالغة وما كشفته من بشاعات، تركت في أذهان ملايين السوريين من ذوي المعتقلين والمختفين أسئلة معلقة وملحة، في مقدمتها: ماذا حدث بجثامين أعزائنا من آباء وأشقاء وأبناء وأصدقاء.. وكيف وأين دفنها النظام، وماذا فعل بها؟.
كانت مثل هذه الأسئلة تحوم فوق رؤوس الضحايا المعذبين بـ”غياب” أحبائهم، يستوي في ذلك تقريبا من تأكدوا من “وفاة” عزيز لهم عبر صور “قيصر”، مع أولئك الذين لم يتأكدوا بعد، وذلك لأن جثمان الإنسان يحمل في عرف البشرية جمعاء قدسية وحرمة، وهو فوق ذلك مشحون -في عرف السوريين- بمعان دينية وعاطفية عميقة يستحيل تجاوزها.
كانت هذه الأسئلة عن مصير جثامين المعتقلين تستعر كلما وردت شهادة من معتقل ناج –على قلة هؤلاء- أو تسرب مقطع معين أو وثيقة ما، ولكن كل ذلك لم يكن سوى قطرة في بحر، يدرك السوريين بتجاربهم مدى اتساعه وعمقه وظلمته، حتى وإن لم يعاين بعضهم حدوده بشكل واضح.
*عرضاً
أواسط أيلول 2020، فتحت الثغرة الثانية بعد ثغرة “قيصر”، جاء ذلك -وللمفارقة- “عرضا” في سياق محكمة عقدها الألمان لمقاضاة رجلين منشقين عن مخابرات الأسد (ضابط وصف ضابط).. يومها وكما فعلت من قبل في ملف “قيصر”، أولت “زمان الوصل” عنايتها البالغة لما سيدلي به أحد أبرز الشهود في تلك المحكمة، ووثقت تفاصيل مرعبة للغاية في ثنايا كلامه، خلاصتها أنه شارك ولمدة 6 سنوات في دفن “أكثر من مليون ونصف” شخص قتلهم النظام، كما باح الشاهد يومها في حديث خاص مع جريدتنا.


شناعة ما رواه الشاهد الذي اصطلح على تسميته “Z-30″، تركت كثيرا من السوريين مصعوقين من هول الأمر، رغم إدراكهم بأن الأسد لا ولم يتورع عن اقتراف ذلك وأكثر، لكن الشاهد –في حدود علمنا- لم يقدم أي وثيقة أو دليل ملموس (صورة، مقطع) يمكن أن يجيب على أسئلة السوريين الملتهبة من طرف، ويهز -من طرف آخر- “ضمير” المجتمع الدولي، الذي ما يزال يعد نفسه في مرحلة جمع البيانات وتوثيقها (رغم ضخامة ما جمع)، ولم ينتقل -أو لم يرد الانتقال بعد- لمرحلة التعقب الجدي والمحاسبة لكل من أجرم بحق السوريين.
واليوم، تستطيع “زمان الوصل” أن تقول إنها تقدم للسوريين وللعالم أجمع، دليلا طال انتظاره، وجوابا لسؤال بقي معلقا لسنوات، لتفتح ثالث الثغرات من حيث الترتيب، وأولها من حيث النوع، في ملف مصير جثامين المعتقلين والمختفين قسريا.
*حرق البلد والجسد
لم يكن شعار “الأسد أو نحرق البلد” الذي تبناه النظام عبثا، فهذا الشعار يمثل منهج عمل وهو فوق ذلك يبوح بما كافح الأسد (الوالد والولد) طويلا لإخفائه عن عامة السوريين أو تمويهه في أعينهم.


ولأنه منهج عمل، فقد طبقه النظام على أرض الواقع وعلى مختلف المستويات، فبدأ بإحراق نسيج البلاد عبر تفريق السوريين وتجييشهم ضد بعضهم، وزامن ذلك مع إحراق مدن وبلدات وأحياء ببيوتها ومدارسها ومشافيها وأشجارها وناسها، تارة بالبراميل المتفجرة وأخرى بصواريخ سكود وثالثة بالعنقودي والفوسفور، ولم ينس بين الفينة والأخرى أن يستخدم سلاحه “المحبب” الكيماوي.
ولما شارفت ذخائر النظام شديدة التدمير على النفاد، وأعيته الحيل مع حلفائه من المليشيات في حرق ما تبقى من سوريا، استدعى الروس ليشاركوا بـ”خبراتهم” مباشرة، ولينقضوا على المدنيين بأشد قنابلهم وصواريخهم فتكا، وأحدث قاذفاتهم الحربية تطورا (فاخر الروس مررا بعدد ونوع الأسلحة التي “جربوها” في سوريا).
كل هذا الإحراق -على كثرته واتساع رقعته- كان موثقا، ويجري تحت سمع “المجتمع الدولي” وبصره، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان “هيناً” في عيون السوريين أمام إحراق من نوع آخر كان يحاذرون حتى مجرد الاستماع للأحاديث الهامسة عنه.. ونعني به إحراق أجساد أو جثامين ذويهم ممن انقطعت أخبارهم عقب وقوعهم في قبضة النظام.
كانت الأحاديث عن إحراق جثامين معتقلين، تتسرب بين الفينة والأخرى في ثنايا شهادة معتقل نجا من مسالخ الأسد، ومع إنها لم تكن تتعدى سوى كلمات مثل “شممت رائحة حرق جثث”، “قيل لي إن هناك محرقة للجثث في السجن”، إلا إن هذه العبارات القصيرة كانت تثير ما لا يمكن تحمله من الرعب في مخيلة أي سوري، لمجرد أن يتصور –مجرد تصور- أن عزيزا عليه مختف منذ مدة، قد يكون تعرض –حتى ولو ميتا- لهذا لأسلوب شديد الوحشية.
*اهتمام خجول
ورغم ما لكلمة “محرقة” من حساسية عالية، لاسيما في قواميس الدول الغربية الكبرى، فإن جرائم حرق السوريين التي اقترفها نظام الأسد، بقيت إلى حد كبير بعيدة عن اهتمام “المجتمع الدولي” ولم تحظ سوى بتصريحات قليلة وخجولة للغاية، منها واحد صادر عن الإدارة الأمريكية أيام “ترامب”.
وبالمقابل، حشد المجتمع الدولي وإعلامه جل جهودهم لتعقب كل جرائم تنظيم “الدولة” بعد تغوله في الميدان السوري، وندد طويلا وهدد باستئصال التنظيم، لاسيما بعد جريمة حرق الطيار الأردني “معاذ الكساسبة” مطلع عام 2015.


هذا السلوك المتلبس بنوع ظاهر من أنواع الانفصام، دفع الشبكة السورية لحقوق الإنسان بالتعاون “المرصد الأورومتوسطي” لإصدار تقرير كامل، يذكر المجتمع الدولي بأن هناك من أحرق ويحرق السوريين أحياء وأمواتا دون أن يندد أحد بفعله الهمجي هذا، أقله بنفس مستوى التنديد بإحراق “كساسبة”.
واعترف التقرير يومها أن توثيق جرائم إحراق السوريين أمر بالغ الصعوبة، وأشد صعوبة منه العثور على مقاطع ترصد هذه الجرائم، مشيرا إلى أنه استطاع التأكد من أن نظام الأسد أحرق منذ بداية الثورة 2011 وحتى لحظة إعداد التقرير (شباط/فبراير 2015) 82 شخصا.. أحرقهم وهم أحياء.
أما من أحرقهم النظام بعد قتلهم، فقال التقرير إنه تأكد من 773 شخصا، بينهم 146 امرأة، و69 طفلا، وعمليات الإحراق هذه تمت خلال ارتكاب مجازر في مناطق مختلفة من سوريا، أي إنها ترافقت مع الاقتحامات وحملات الدهم حصرا.


يدخل التقرير هنا بتوصيف محتوى مقاطع المحارق، فيرجى من أصحاب القلوب الضعيفة أخذ الحيطة والحذر.
*الجنة بتوقيع سدنة الجحيم
لعلها المرة الوحيدة التي تعرضت فيها “واشنطن” لمسألة حرق السوريين، ولكنها بالتأكيد المرة اليتيمة التي تولى فيها النظام الرد ببيان رسمي على هذه الجريمة، رغم كثرة الاتهامات التي وجهت له من السوريين في هذا الشأن.
ففي أواسط حزيران/ يوليو 2017، اتهمت الإدارة الأمريكية نظام الأسد علنا وبوضوح بإقامة “محرقة” في سجن صيدنايا للتخلص من جثث المعتقلين وتحويلهم إلى رماد، وما هي إلا ساعات حتى خرج النظام عبر وزارة خارجيته ببيان كامل مؤلف من 151 كلمة نافيا من أوردته واشنطن “جملة وتفصيلا”، وناعتا إياه بأنه “رواية هوليودية”.


والحقيقة المفزعة التي ستقدمها “زمان الوصل” عبر اختراقها الاستثنائي ومشاركة العموم لما لديها من مقاطع ووقائع، هي أن عبارة “رواية هوليودية” التي أوردها النظام في معرض نفيه لوجود محرقة بصيدنايا، هي مما يمكن تصنيفه ضمن “الكذب الصادق” أي الكلام الذي يحمل الكذب في وجهه الأول والصدق في وجهه الآخر، فمخيلة “هوليود” فقط هي من تفترض وجود “منشأة مستوفية الشروط” لإحراق جثث البشر، بينما مخيلة النظام أوسع من ذلك وأدواته أبسط!
فعلى أنغام وكلمات أغنية تتغزل بسوريا ومناطقها واحدة واحدة، بوصفها “جنة من عند الرب”، ينطلق مجموعة ممن شاركوا بتحويل سوريا إلى جحيم حقيقي، في سيارتهم الصغيرة، ضمن “موكب” على إحدى طرق سوريا، تتقدمهم شاحنة متوسطة الحجم بيضاء اللون، وقف فيها عدد من العساكر شاهرين أسلحتهم.
تنتقل عدسة كاميرا الجوال بين الجالسين في المقعد الخلفي بأسلحتهم، فإذا بوجوه يعتليها الفرح وعلامات البشر، وكأن أصحابها ذاهبون لأداء مهمة غاية في القداسة والإنسانية.
يمر الموكب على أول حاجز لقوات النظام، فيجد طريقه مفتوحا، تشيعه تحيات العسكريين الواقفين أمام الخيمة، ثم ما يلبث أن يصل إلى الحاجز الثاني، وهناك يلتقي الموكب بموكب آخر من السيارات، وبعشرات العسكريين.
تختلط أنغام الأغاني مع لحظات السلام والعناق والابتسامات، في أجواء احتفالية تذكّر إلى حد ما بالأعراس، وما أن يستعد الموكب للتحرك مجددا، حتى يبرز في “زوم” الكاميرا وجه بابتسامة أشد انفراجا من الجميع، وأقرب للضحك (سنتعرف إلى هويته لاحقا)، وسط صيحات: “راحت عليك أبو طاهر”.
“راحت عليك” جملة تتردد بانشراح، بينما الكاميرا تقترب من صندوق الشاحنة البيضاء، وهنا ينقلب المشهد تماما، ونعرف أن ما “راح” على “أبو طاهر” هو مشاركته في قتل عدد من السوريين، ألقيت جثامينهم في قاع الشاحنة، ليدوس عليها العساكر ويمطروا أصحابها بالشتائم، ومن بينهم فتى بالكاد نبت شعر شاربه، بينما ينبري أحدهم ليعرف بهويات الضحايا: “هادا إدلبي، وهادا إدلبي، وهادا حموي”، لتعود العدسة إلى وجه “أبو طاهر” الذي تكاد تبدو نواجذه من انفراج ابتسامته.
حين يخشى المجرم من الضحية
عند هذا الحد ينتهي المشهد، لنكون أمام مقاطع أخرى، ستُسجل بلا شك في سجل تاريخ الإجرام كعلامة فارقة للأسد، لاسيما ذلك المقطع الذي يرصد مجموعة من حوالي 10 عسكريين، بينهم على الأرجح 3 ضباط، وقد تحلقوا حول شاحنة بيضاء صغيرة أدارت ظهرها لحفرة متوسطة العمق.
يوثق المقطع كيف يتولى بعض عسكريي النظام إنزال الجثامين من الشاحنة واحدة تلو الأخرى، وسكب قليل من الوقود عليها، ثم ركلها ودحرجتها إلى الحفرة، لتتكدس فوق بعضها، مشيعة باللعنات والشتائم.
وسط هذا المشهد المفرط في شناعته، يطل واحد من “الضباط الأمراء”، بكامل أناقته وببسطاره شديد اللمعان الذي لم ينل منه تراب المنطقة شبه الصحراوية، ليشرف بنفسه على المحرقة، حيث توقد النار في الجثامين، ويتحلق الموكلون بالمهمة من مخابرات النظام حول الحفرة وكأنهم متحلقون حول “حفلة شواء”، فإذا ما أحسوا بأن النار لا تواصل اشتعالها كما ينبغي، رموا بقليل من الوقود على الجثث لتستعر من جديد.
وتتكرر عملية سكب الوقود من قارورة بلاستيكية صغيرة بيد أحد العسكريين، فإذا بآخر يبدي استياءه: “هاد الأخو الـ.. ما عم يشعل ليش؟”، فيرمي صاحب القارورة قليلا من الوقود، وسط تحذيرات من حوله بأن يبتعد عن الحفرة “ويدير باله” مخافة أن يلحقه أذى.
المكان والزمان
عكف فريق “زمان الوصل” على فحص ومراجعة ما بحوزته من مقاطع ووقائع، فخلص إلى عدة نتائج، استطاع من خلالها تحديد مجموعة من النقاط المتعلقة بمحارق الأسد.. موقعها، تاريخها، هوية بعض المشاركين ورتبهم، فضلا عن تحليله محتوى مقاطع المحارق ووضعها في السياق العام لجرائم النظام التي وثقتها من قبل مقاطع وصور لاتحصى، في محاولة لإثبات “منهجية” نظام الأسد في هذا المجال.
أما بالنسبة لمكان المحارق، فهي تقع في منطقة شبه صحراوية تتداخل فيها الحدود الإدارية لكل من محافظات ريف دمشق، درعا، السويداء، ويسيطر عليها مخابراتيا كل من جهاز الأمن العسكري والمخابرات الجوية.
وإذا أردنا التحديد أكثر فإن ما لدينا من معلومات، يقول إن منطقة المحارق تقع في محيط “المسمية” إحدى بلدات ريف درعا (شمال غرب)، والتي تحاذي الحدود الإدارية لمحافظة السويداء من جهة الشمال الغربي، وهي أيضا –أي ناحية المسمية- لا تبعد سوى كيلومترات قليلة عن الحدود الإدارية لمحافظة ريف دمشق.
زمانيا، تم التقاط مقاطع المحارق في مدة تسبق العام 2013، حيث عمدت مخابرات النظام منذ بداية حربها على الشعب السوري، إلى سياسة الحرق والمقابر الجماعية، في مواجهة “أزمة” تكدس الجثامين التي يقتل أصحابها من المدنيين تحت التعذيب أو خلال المداهمات، فضلا عن جثامين العسكريين الذين يعدمهم النظام عقابا على انشقاقهم.
تقول المعلومات التي بحوزتنا أن مجموعات من مخابرات الأسد، كانت تقوم دوريا بجولة على فروع المخابرات المحيطة بمنطقة المحارق، وعلى الحواجز والقطعات العسكرية، لـتجمع ما لدى هؤلاء من “مخزون” جثث، قضت إما تعذيبا في المعتقلات أو خلال المداهمات، أو بعيد محاكمات ميدانية سريعة.
يتم نقل هذه الجثامين في شاحنات متواضعة ومكشوفة، متوسطة الحجم غالبا، تسير ضمن موكب من السيارات المرافقة، على أن تغطى الجثث بأغصان الأشجار أو البطانيات، وأحيانا لا يتم تغطية الجثث.
تتوجه “الحمولة” إلى موقع شبه صحراوي معزول عن المناطق المأهولة، حيث تكون قد أعدت حفرة يتم إلقاء الجثث فيها، بعد سكب كمية قليلة من الوقود على كل جثة ضمانا لاحتراقها.
لا تضمن هذه الطريقة “الرخيصة” والبدائية حرق الجثث بشكل كامل، ويتبقى في معظم الأحيان عظامها، التي يمكن لأي لجنة تحقيق أن تنبشها من تلك المحارق وتعاينها.
أما عن المتورطين، فقد توضحت لـ”زمان الوصل” وبشكل قطعي هوية اثنين من أبرز المشاركين في جريمة المحارق، وهما الرائد “ف.ق”، الملقب “أبو جعفر” والتابع لمرتبات الأمن العسكري، والمتحدر من إحدى قرى جبلة بمحافظة اللاذقية، والمساعد “م.إ” الملقب “أبو طاهر” والمتحدر من إحدى قرى السلمية بمحافظة حماة (نتحفظ حاليا عن ذكر الأسماء الصريحة وكامل ما لدينا من بيانات، خدمة لأغراض أي تحقيق قضائي في الملف).
رخيص
إن تحليل مقاطع المحارق ومضاهاتها بما سبق وتسرب من مقاطع خلال السنوات العشر الماضية، يكشف عن عدة مسائل لابد من الوقوف عندها واحدة فواحدة، نظرا لأهميتها في إدراك الصورة بأبعادها.
أول ما يلفت النظر في مقاطع المحارق أنها تتضافر مع مقاطع لا تحصى وثقت انتهاكات النظام، في ظروف وأماكن وأزمنة مختلفة، وكان القاسم المشترك في كل تلك المقاطع (مقاطع المحارق وما سبقها) عدة أمور ملفتة:
1- حرص عسكريي النظام على ممارسة جرائمهم وسط طقوس احتفالية، توحي بأن ما يقدمون عليه يمثل في ذهنهم مهمة مقدسة تستدعي الفخر والتباهي، أو هي في أضعف الاحتمالات مهمة طبيعية لا تتنافى إطلاقا مع الكينونة البشرية، ولا حتى في أدنى مستوياتها.
2- معاملة جثامين البشر، مهما كانت أعمارهم أو ظروف قتلهم، بمنتهى الاحتقار، المتمثل في الدوس على الجثث والسخرية منها والضحك على ما اعتراها من تشوه، وشتم أصحاب تلك الجثامين مترافقا ببعض عبارات الكفر أحيانا… وهكذا يتضح من جديد أن هذه الطقوس بمجملها لم تمثل يوما “ممارسات فردية”، بقدر ما هي خطة عمل ممنهجة تخرج القائمون عليها من مدرسة واحدة، صارمة التعاليم، واضحة “القوانين”.
3- لا يجتهد النظام –فقط- في قتل ضحاياه بــ”أرخص” الوسائل، بل يجتهد أيضا في التخلص من جثثهم وطمس آثارهم بنفس الوسائل، وهنا يتجلى مظهر آخر من مظاهر ازدراء السوريين أحياء وأمواتا.
هوليودي
وهنا أيضا لابد لنا من وقفة لنؤكد أن الحديث عن وجود محارق “نظامية” ومجهزة في بعض معتقلات النظام أو مشافيه العسكرية قد يكون واردا إلى حد بعيد، ولكن الأسد في النهاية –وبالدليل الدامغ الذي تقدمه مقاطع المحارق- ليس مضطرا إلى محارق من هذا النوع “الفاخر” والمكلف في عرفه، ما دام يستطيع أن يفعل ذلك بـ”سنتات” قليلة، وبـ”خبرات محلية”.
إن النظام الذي يستطيع أن يقتل السوري بذبحه بشظية زجاج ملقاة على الأرض، أو يرضخ رأسه بحجر يلتقطه من قارعة الطريق، أو بحقنة “مازوت” تساوي قروشا، أو يتركه يموت جوعا، أو… أو.. هو نفس النظام الذي يستطيع أن يحرق عشرات الجثث في حفرة واحدة مستخدما ليترات قليلة من الوقود، يحرص عساكره على صبها فوق الجثث بالتقسيط، ليس شفقة، وإنما في سبيل أن يتبقى لهذا العنصر أو الضابط شيء من مخصصات الوقود المرصودة لحرق الجثث، عله يبيعه أو يضعه في خزان سيارته وهو عائد بها في إجازة إلى عائلته وأطفاله.
إن نظاما من هذا الصنف، الذي لم يسبق أن عاينت البشرية مثيلا له، ليس بحاجة لبناء أفران غاز لترميد ضحاياه كما فعل أحدهم، ولا هو بحاجة لتشييد محارق تحتاج إلى أموال وخبرات قد تعرقلها العقوبات الدولية.
إن ما تبوح به مقاطع المحارق التي نعرضها اليوم أمام أعين الجميع، هو أن كل قوانين العقوبات ومهما طال أمدها واشتدت (بما فيها أشدها: قانون قيصر) لن تردع الأسد لحظة عن قتل السوريين وحرقهم، لأن أدواته بسيطة جدا ورخيصة جدا جدا، ومتوفرة في كل وقت وزمان، لا تمويل يعوقها ولا مواد أو خبرات مستوردة توقفها، وعلى القوى الفاعلة في المجتمع الدولي إن كانت هذه المقاطع ستهزها، أن تتخذ مسلكا مغايرا تماما بخصوص الأسد ونظامه، فمن يقتل ويحرق ويدفن بتكاليف شبه مجانية وبدائية، لايمكن للعقوبات الاقتصادية أو التقنية المفروضة عليه أن تمثل في عينيه سوى أضحوكة، وسيبقى يسخر من الأنباء المتداولة عن تشييده محارق “نظامية”، معتبرا إياها “رواية هوليودية”.. وسيبقى من حق ملايين الضحايا السوريين وذويهم أن ينظروا إلى بيانات الإدانة والشجب التي لا تدعمها أي تحركات ميدانية جدية بوصفها حركات هوليودية.