#########

العدالة والمساءلة

“نحن لم نعُد كما كنا في السابق” ردود سوريين على التوثيق والحقيقة والمصالحة


تشير ردود الفعل هذه إلى أن منظمات التوثيق السورية بحاجة لأن تكون مجهزة للتعامل مع الأفراد الذين قد لا يكونون مستعدين لرفض روايتهم الشخصية للنزاع ، لكنهم ما زالوا على استعداد لتطوير التعاطف مع أولئك الذين يختلفون معهم.

13 / حزيران / يونيو / 2021


“نحن لم نعُد كما كنا في السابق” ردود سوريين على التوثيق والحقيقة والمصالحة

*المصدر: المركز السوري للعدالة والمساءلة


في الغالب إن عملية المصالحة بعد النزاع تسير جنباً إلى جنب مع البحث عن الحقيقة وإحياء ذكرى انتهاكات حقوق الإنسان، على أمل أن لا يتم تكرارها في المستقبل. ولكن في سوريا، فإن العملية التي تسميها الحكومة “مصالحة” هي في واقع الأمر عملية نسيان: يجب على اللاجئين العائدين تعبئة استمارة بحيث يعلنون البراءة عن أي أنشطة متعلقة بالمعارضة من الماضي في مقابل  حقوق المواطنة بينما يُجبَر مقاتلو المعارضة السابقون على استعراض ولائهم للقوات الحكومية. كما أدت حملات التضليل الإعلامي المنسقة إلى تشويه السجل الحقيقي للنزاع وساهمت في الروايات المستقطبة التي نراها اليوم. وعلى الرغم من أن محاكمات الولاية القضائية العالمية التي تجرى حاليا خارج سوريا تعرض مكاسب استراتيجية ورمزية، ولكنها ليست بديلاً عن آليات الحقيقة القوية والشاملة


وفي ظل هذه الظروف، هل سيتمكن السوريون من التعاطي مع ما وقع من أحداث في السنوات العشر الماضية والتوصّل إلى فهم مشترك للنزاع؟ وهل يعتبر هذا النوع من الرواية المشتركة ضروريا لإنشاء الاحترام والتعاطي المشترك اللازم لدعم برنامج عدالة يشمل ضحايا سوريين عبر مختلف ألوان الطيف السياسي؟ كما يشرح المركز السوري للعدالة والمساءلة في تقريره الجديد، “الحقيقة وراء الملاحقة القضائية: إعادة تقييم التوثيق والبحث عن الحقيقة في النزاع السوري،” لا يزال توثيق انتهاكات حقوق الإنسان يتمتع بقدرة هائلة على تحدي الروايات المسبقة حول النزاع. وفوق ذلك كله، إذا تم جمع التوثيق وعرضه بشكل إبداعي، فإنه يمكن للتوثيق تيسير نوع من المصالحة يعتمد على الخبرات المشتركة بقدر ما يعتمد على تفسير واحد مشترك لحقائق الصراع السوري.


تستند هذه الاستنتاجات إلى استطلاعات ميدانية ومراجعة البحوث والممارسات المختصة بالتوثيق والبحث عن الحقيقة وإحياء الذكرى لمنظمات من السياق السوري وخارجه. وعلى الرغم من أن بعض البحوث يزعم أن  الاتصال المتبادل (والتفاوض البراغماتي حول المشكلات اليومية) قد يكون أكثر أهمية لتيسير المصالحة من القبول المشترك النهائي لحقيقة واحدة، فإنه لا يزال قدر محدود من البحوث حول كيف التوثيق يغير معتقدات فردية. هل هناك وسائل توثيق معينة (صور فوتوغرافية، شهادات، تقارير، إلخ) من شأنها أن تؤدي إلى أن يغيّر الناس رأيهم؟ هل هناك خصائص خاصة أخرى يجب أن يتحلى بها توثيق معين لتجعله أكثر أو أقل احتمالاً للتأثير على الفرد الذي يميل إلى الاختلاف مع الأدلة المقدمة؟


سعى المركز السوري للعدالة والمساءلة إلى الإجابة على بعض هذه الأسئلة من خلال ٤٠ استطلاعات كيفية قام بها بدعم ميداني من منظمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة. عرضت هذه الاستطلاعات توثيقات مختلفة لسوريين من خلفيات سياسية متنوعة وهي تظهر انتهاكات حصلت في مناطق البيضا والحفة منتصف عام ٢٠١٣؛ وتم ارتكاب هذه الانتهاكات من قبل قوى تابعة للحكومة والمعارضة السورية على التوالي. سأل باحثون ميدانيون المستجيبين سلسلة من الأسئلة حول ما إذا كانوا قد وجدوا المحتوى والادعاءات دقيقة والسبب وراء ذلك، كما سألوهم بعض الأسئلة المتعلقة باستهلاكهم لوسائل الإعلام.


وكشفت الردود على الاستطلاع كيف لا يزال للتوثيق التمكن من أن تؤدي إلى تغيير جذري لمعتقدات الناس فيما يتعلق بكلا من انتهاكات معينة والطبيعة الأوسع للنزاع. وخير مثال على ذلك هو رد أحد المستجيبين، 30 عاماً، الذي عرّف نفسه أيضاً على أنه مؤيد بشدة للمعارضة ولم يكن على دراية بما حدث في الحفة، على الرغم من شعوره بأنه على اطلاع جيد بالنزاع. “بعد أن تابعت الأحداث منذ بداية الثورة، اعتقدت أنه لم يكن هناك سوى عدد قليل من هذه المجازر، لكنني الآن أعرف أن ما حدث كان في الواقع أكثر وحشية وقسوة. يتحمل كل من النظام والمعارضة مسؤولية ما حدث في سوريا”. ومع ذلك، حاول مستجيبون آخرون تحديد موقع التوثيق بالنسبة إلى رواياتهم السابقة، بدلاً من تغيير رواياتهم لتتناسب مع التوثيق. وعلى سبيل المثال، أوضح أحد المستجيبين، 26 عاماً، وصف نفسه بأنه مؤيد للمعارضة، أكّد أن الجماعات المتهمة بالهجوم كانت في الواقع متحالفة مع الحكومة. وتكهّن بأن الناجي ربما يكون قد تعرّض لضغط من قبل الحكومة ليروي الأحداث على ذلك النحو، وبينما “أثقُ في لجنة التحقيق الدولية، لا أعتقد أن لديها إمكانية الوصول إلى جميع الحقائق”. وأخيرا، كان هناك هؤلاء الذين ردوا بطريقة عدائية ورفضوا التوثيق عندما تناقض مع معتقداتهم السابقة. وغالبا ما أوضحوا أنهم لا يثقون بالمنظمة التي قامت بالتوثيق، بدلاً من تقديم أي تقييم واقعي للمواد نفسها. وعلى حد تعبير أحد المستجيبين، 55 عاماً، والمؤيد بشدّة للحكومة، “ربما كانت قوى متحالفة مع المعارضة [هي التي قامت بفبركة هذا الفيديو]… [من أجل] تشويه الحقائق وزيادة الفوضى في سوريا.”


وبالنسبة لأنواع التوثيق المختلفة، انجذب بعض المستجيبين إلى التفاصيل وعدم التحيّز المتوقّع لتقارير لجنة التحقيق الدولية بينما أعطى آخرون قيمة للشهادات ومقاطع الفيديو والصور لأنه تم التقاطها في مسرح الجريمة أو مباشرة من قبل ناجين. وكان لدى المستجيبين أيضاً ردود فعل قوية على المصداقية الظاهرة للموثقين أو الروابط السياسية المتصورة. وكانت تقارير لجنة التحقيق الدولية هي الأكثر احتمالاً لتعتبر “موضوعية” ومقنعة بسبب التفاصيل الغنية التي قدّمتها تلك التقارير. على سبيل المثال، قال أحد المستجيبين المؤيدين بشدة للمعارضة، 24 عاماً، إنه كان من الأهمية بمكان أن تقارير لجنة التحقيق الدولية عن كل من البيضا والحفة قدّمت أسماء مجموعات معينة متورطة في الهجمات، كما أنها كانت شفافة فيما يتعلق بعملية التوثيق. وعلى خلاف ذلك،  قال أحد المستجيبين المحايدين سياسياً، 40 عاماً، إنه “على الرغم من أنه قدّم العديد من الحقائق والأرقام، إلا أنها ليست بالضرورة صحيحة تماماً لأنها [لجنة التحقيق الدولية] تعتمد في النهاية على تقديرات الأشخاص”. وفي نفس السياق، كما أوضح أحد المشاركين المحايدين سياسياً، 46 عاماً  فإن الجهات الفاعلة الدولية مثل لجنة التحقيق الدولية كانت “عديمة الجدوى في سوريا. حيث لم تحرّك تلك الجهات ساكناً لوقف ما كان يحدث، ولهذا السبب، لا يمكنني الاقتناع [بالتوثيق الذي أجرته اللجنة] … ساعدت المنظمات الدولية في تأجيج الوضع في سوريا”.


كان النمط المهم وغير المتوقع لإجابات الاستطلاع هو عدد المرات التي وصف فيها المستجيبون التوثيق ليس كطريقة لفهم تفاصيل أحداث معينة، ولكن بالأحرى كممثل للدمار الأكبر للنزاع السوري والتجارب الشخصية المؤلمة للنزاع التي كان يتقاسمها السوريون عبر الطيف السياسي. وأظهرت صور من مدينة الحفة للبعض “كيف أن هذا النوع من المجازر أصبح أمراً تافهاً في سوريا”، بينما أثارت شهادة ناجية من مجزرة البيضا الحزن على كيف يمكن لناجية “أن تعيش بقية حياتها بعد أن رأت أشياء كهذه. كيف ستكون قادرة على النوم وحتى التطلع إلى المستقبل؟” شعر أحد المستجيبين المحايدين سياسياً، 35 عاماً، أن أهم جانب من التوثيق هو أنه “جعلك تفهم بشكل أفضل الدمار الذي مررنا به. حيث لم يقتصر الدمار المادي على الدولة، بل نحن أيضاً تدمّرنا كأشخاص. نحن لم نعُد كما كنا في السابق.” حتى بعض المستجيبين الذين رفضوا التوثيق باعتباره مؤامرة أو ذهبوا إلى حد تبرير الانتهاكات كتكلفة سياسية ضرورية، ما زالوا يعربون عن تعاطفهم مع الضحايا. حيث تعاطف المستجيب المؤيد بشدة للحكومة، 49 عاماً، الذي اعتقد أن مذبحة البيضا كانت دليلاً على تضحيات سياسية إيجابية، مع تجربة الضحية في التكيّف مع الخسارة (“رحم الله زوجها”).


تشير ردود الفعل هذه إلى أن منظمات التوثيق السورية بحاجة لأن تكون مجهزة للتعامل مع الأفراد الذين قد لا يكونون مستعدين لرفض روايتهم الشخصية للنزاع ، لكنهم ما زالوا على استعداد لتطوير التعاطف مع أولئك الذين يختلفون معهم. ففي المجتمعات المنقسمة بشدة، تكون لغة الخسارة والدمار المشتركة في بعض الأحيان هي الخطوة الأولى للتعافي، حتى لو استمر الانقسام فيما يتعلق بهوية الجناة المحددين. وبالتالي فإنه قد يمهد لعمليات العدالة الأخرى، مثل برامج جبر الضرر للأشخاص الأكثر تضررا. وكما يوصي المركز السوري للعدالة والمساءلة في تقريره، بينما يجب على منظمات التوثيق السورية الاستمرار في تعزيز جهود التوثيق التقليدية لأغراض قول الحقيقة والمساءلة التقليدية، فإنه يجب عليها أيضا انتهاج الأنواع الجديدة لمنهجيات البحث التشاركية التي تم تطويرها خارج السياق السوري. وقد تضمن هذه المنهجيات الجديدة ورشات النقاش بين الأجيال، والمعارض التفاعلية للذكريات الفردية من النزاع السوري والذكريات المجتمعية  الشخصية حول انتهاكات معينة عبر المدى الطويل. ومن خلال القيام بذلك، فإنه يمكن لمنظمات التوثيق أن تعالج بشكل أفضل الطبيعة المعقدة للردود السورية على التوثيق ومسألة الحقيقة والمصالحة: من جهة، قد تطور سجلات أقوى للنزاع من أجل برامج عدالة أكثر شمولا؛ ومن جهة أخرى، تسهل الاتصال بين السوريين من خلفيات متنوعة على أساس تجارب النزاع المتعددة، دون أن ينتج بالضرورة قبولًا فوريًا لحقيقة واحدة مشتركة.