تغييب مسار العدالة الانتقالية عن أيّ حلّ سياسي للقضية السورية، سيقلل من فرص تحقيق السلام، ليس في المجتمع السوري وحسب، بل وسينعكس سلباً على الوضع في منطقة الشرق الأوسط ويهدد استقراره الهش.
14 / آب / أغسطس / 2018
*المحامي ميشال شماس ــ خاص مع العدالة
كَثُرَ الحديث اليوم عن العدالة الانتقالية، وعُقدت لأجلها الكثير من الندوات والمؤتمرات، كما كُتب وقِيل الكثير حول ضرورة تطبيقها في سورية مستندين في ذلك إلى تجارب حدثت في أكثر من ثلاثين دولة تعرضت لحروب أهلية ونزاعات داخلية خلال القرن الماضي، والقاسم المشترك بين كلّ ما كتب وقيل، هو أن العدالة الانتقالية أصبحت اليوم حاجة ملحة وضرورية لإرساء السلم الأهلي في المجتمعات التي مزقتها الحروب والنزاعات الداخلية.
والعدالة الانتقالية كما بينت تجارب الدول التي طبقتها وأخذت بها، ليست وصفة جاهزة ولا حلاً سحرياً، بل إن كل دولة طبقت بما يتناسب ووضعها، كما بينت أيضاً أن نجاح أو فشل أي تجربة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخاصة بكل دولة، وبإرادة الأطراف المتنازعة فيها واستجابتهم لتطبيق العدالة الانتقالية، وأيضاً بمدى وعي الناس في هذا المجتمع أو ذاك، كما يرتبط أيضاً بمدى رغبة القوى الدولية في مساعدة الدولة المعنية على تطبيق العدالة الانتقالية.
والعدالة الانتقالية بالشكل الذي طبقت فيه لمعالجة الأثار الناتجة عن الحروب والنزاعات الداخلية وما رافقها من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان خلال العقود الماضية يمكن تعريفها على أنها تشير إلى مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية تتضمن خمسة مبادئ أساسية بوصفها مرتكزات العدالة الانتقالية وهي محاسبة المجرمين، والمصالحة، وجبر الضرر، وإظهار الحقيقة، وإصلاح المؤسسات.
وسورية اليوم هي بأمس الحاجة إلى تطبيق آليات العدالة الانتقالية أولاً، كأساس لإعادة بناء سورية بشرياً ومادياً وإرساء السلام والأمن في المجتمع السوري، فأعداد القتلى في سورية وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة تجاوز الــ 500 ألف قتيل، وأكثر من 700 ألف قتيل وفقاً لتقديرات أخرى وهو المرجح، ومئات آلاف من المعتقلين والمفقودين وملايين المهجرين في أنحاء العالم، وعشرات الألاف من المعتقلين الذين ماتوا تحت التعذيب، عدا عن الدمار الهائل في الممتلكات العامة والخاصة، والأحقاد والضغائن التي حفرت عميقاً في نفوس السوريين..
ثانياً، لأن تطبيق آليات العدالة الانتقالية في سورية سيساعد في إرساء السلام، والأمن واستقرار الأوضاع فيها، وهذا بدوره سينعكس إيجاباً على الاستقرار والسلام في المنطقة والعالم، هذا الاستقرار الذي اهتز بفعل المأساة السورية، التي تناثرت شظاياها في أرجاء المعمورة، وألقت بظلال ثقيلة على مستقبل السلم والاستقرار الدوليين، وقد تجلى ذلك بصورة واضحة في النزاع الدولي الحاد، الذي اشتعل في سورية وعليها، وما قد ينجم عنه من احتمال نشوب حرب لا يحمد عقباها.
إن تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا يحتاج إلى تضافر جهود جميع السوريين، وإلى مساعدة دولية، نظراً لوجود عقبات كثيرة تعترض تطبيقها تفوق قدرة السوريين على معالجتها أو تخطيها، ويأتي في مقدمة تلك العقبات، الوضع الدولي الذي مازال غير جاد في وضع حدٍّ للنزاع في سورية، كما أن الأطراف المتورطة في سورية وعلى رأسها روسيا وإيران وأمريكا وتركيا، لا تفكر أساساً في هذا الأمر وخاصة روسيا التي تعمل بكل قوة على استبعاد أي طرح يقترب من العدالة الانتقالية. فضلاً عن أن النظام الحاكم في سورية يعمل هو الآخر لمنع أي حديث عنها، حتى أنه اعتقل العديد من الناشطين لمجرد أنهم شاركوا بندوات العدالة الانتقالية في بيروت، يضاف إليها، مسألة انتشار السلاح والمسلحين والميليشيات المسلحة من كلّ حدب وصوب، وأيضاً فإن هشاشة المجتمع المدني السوري وانعدام فعاليته وبؤس قوى المعارضة السورية وتشرذمها سيصعب من تطبيق العدالة الانتقالية، كما أن الجهاز القضائي في سورية لا يمكن الاعتماد عليه، فهو ليس مستقلاً بل تابعاً لسلطة الأسد، وازداد وضعه سوءاً خلال السنوات الماضية، يُضاف إليه استحداث محاكم أخرى في المناطق التي مازالت تحت سيطرة الجماعات المسلحة والميليشيات الكردية. والقضاء السوري بهذا الوضع، غير قادر على الاستجابة لصرخات الناس وبلسمة جراحهم، بل يحتاج إلى إعادة بناء وتأهيل من جديد.
ومن العقبات أيضاً، تضخّم الجهاز الأمني، وتعدد فروعه ووجود جيش مهمته الأساسية حماية الحاكم وليس الشعب، يضاف إلى ذلك وجود جملة من التشريعات والقوانين والمحاكم الاستثنائية التي يجب وقف العمل بها وإلغائها كقانون إحداث المحاكم الميدانية العسكرية، وقانون إحداث محكمة الإرهاب، وقانون الإرهاب رقم 19 والمادة 16 من القانون14 لعام 1969 الخاصة بحماية عناصر الأمن من المحاكمة، والمرسوم رقم 6 لعام 66 الخاص بمناهضة أهداف الثورة، وعرقلة تطبيق الاشتراكية، والمرسوم 55 لعام 2011، الخاص بتعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية، الذي فوّض الأجهزة الأمنية بمهام الضابطة العدلية، ومَنحها سلطة التوقيف لستين يوماً ..إلخ. وهناك عقبات أخرى لا يتسع المجال لذكرها، ولن يستطيع السوريون مجابهتها وتذليلها لوحدهم دون مساعدة من المجتمع الدولي.
وأخيراً، فإن تغييب مسار العدالة الانتقالية عن أيّ حلّ سياسي للقضية السورية، سيقلل من فرص تحقيق السلام، ليس في المجتمع السوري وحسب، بل وسينعكس سلباً على الوضع في منطقة الشرق الأوسط ويهدد استقراره الهش.
وبالعكس من ذلك تماماً، فإن مساعدة المجتمع على تطبيق العدالة الانتقالية في سورية، لن يقتصر تأثيرها على مساعدة السوريين على بلسمة جراحهم ومعالجة تبعات ما جرى في سورية وإعادة بنائها من جديد على أساس من العدل والسلام واحترام حقوق الإنسان، بل إن من شأن حدوث ذلك أن يحوّل سورية من مصدر دائم للتوتر، إلى مصدر للاستقرار والسلام والأمن في المنطقة والعالم.
باختصار شديد، يمكن القول إن استبعاد تطبيق العدالة الانتقالية في سورية، هو كمن يُبقي الجمر فيها متقداً تحت الرماد، لا يُعرف متى يشتعل وينفجر مرة أخرى، وربما يكون بشكل أوسع وأخطر مما هو عليه الآن.
.
.