#########

آراء

ثقافة الحقوق شرط الدفاع عن قضايانا العادلة


بعد الثورة التي جاءت في أهم اسبابها خروجاً عن العلاقة التي هندسها الأسد الأب، باستحالة سورية إلى جدار كبير من الصمت والخوف، انكشفت حقائق صارخة أخرى، فضحت رهاب السلطة ومخاوفها المتأصلة، من يقظة الوعي السوري الجديد

09 / شباط / فبراير / 2019


ثقافة الحقوق شرط الدفاع عن قضايانا العادلة

 

*أيمن أبو هاشم _ مع العدالة 

 

 

لطالما أنتجت مؤسسات التربية والتعليم في الدول العربية، أجيالاً ليست أكثر من رعايا في مفهوم السلطات الحاكمة، عليهم التلاؤم في أشكال متعددة من الخضوع، مع أنساق التفكير السلطوي ووظائفه الشموليّة، وبما يمس وينتقص من مفهوم المواطنة وقيّمه وتجاربه الحداثية. أذكر في نهاية الثمانينات حينما كنت طالباً في كلية الحقوق بجامعة حلب، أن وجّه أحد الطلاب سؤالاً إلى مدرّس مادة ” المدخل للعلوم القانونية ” حول كيفية تطبيق قاعدة “لا جهل في القانون” في مجتمع لا يعرف أغلبه حقوقه ولا كيف يدافع عنها…؟ حينها تلعثم المُحاضر في إجابته، ثم قال بعد لحظات من الشرود هذا دوركم أنتم!

كان الواقع السوري لديه ردود وافية ومؤلمة عن هذا السؤال، فلم تستثن سياسات التدجين والإفساد فقط من يقع عليهم مسؤولية تنمية وتعزيز ثقافة الحقوق، وواجب الدفاع عن سيادة القانون، ولم يكن الاستهداف مقتصراً على دارسي وخريجي كليات الحقوق من محامين وقضاة، والموظفين منهم في وزارات ومؤسسات الدولة. إذ كل المرجعيات الاجتماعية والدينية والثقافية، كان يتم استخدامها سياسياً وأمنياً بهدف كيّ الوعي المجتمعي عموماً، وتكريس تعويذة الولاء لقائد الحزب والوطن والأمة، بالضد من ثقافة الحقوق والحريات والمواطنة.

 

 أمام هذا الافتقار لإرث وطني يمحض الفرد تعريفاً سياسياً وقانونياً، يُطابق بين مفهوم الدولة الحديثة والمنتسبين إليها، أضحى كل نقد أو اعتراض على دور السلطة في تعميق وتصليب مفهوم الرعية، مدعاة لاستنفار آليات القمع والتعسف بحق من يجرؤون على هذا الأفعال، ومواجهتهم بوسائل عنفيّة وقهرية متنوعة، سواء من خارج القانون وموجباته، أو بتوظيف القوانين لتغطية ممارسات غير قانونية. نجم عن ولوغ السلطة في إهدار حقوق الإنسان السوري، ضمن سياق طويل وممنهج من تزييف الوعي واستلاب الإرادة الحرة، ليس فقط إلى منع السوريين وحرمانهم من ممارسة حقوقهم الفردية والجماعية، وإنما وهو الأخطر إيجاد قطيعة معرفية بينهم وتجارب النظم الديمقراطية في عالمنا الحديث. بمعنى أن من يكتسب هذه المعرفة من نخب سياسية ومثقفة، يصبحون في نظر السلطة أعداء خطرين على وجودها، ومصيرهم محتوم ما بين السجون والموت والمنافي.

قبل اندلاع الثورة السورية، كان خوف المجتمع من التضامن مع الضحايا وذويهم، انعكاساً مأساوياً لضعف ثقافة التضامن مع الضحية بكل صورها، بل أن تأديب المجتمع وتخويفه إلى حد الفزع بأولئك الضحايا ومصائرهم، كان أكثر ما يعبّر عن شيوع تلك الثقافة على نحوٍ واسع، ما صنعه حكم الأسد الأب من إغلاق الوعي المجتمعي، عند حدود البحث عن متطلبات الحياة ولقمة العيش، وفرض واقع النأي بالنفس، وخنق كل محاولة للخوض بقضايا حقوق المواطن من خارج صندوق السلطة. بعد الثورة التي جاءت في أهم اسبابها خروجاً عن العلاقة التي هندسها الأسد الأب، باستحالة سورية إلى جدار كبير من الصمت والخوف، انكشفت حقائق صارخة أخرى، فضحت رهاب السلطة ومخاوفها المتأصلة، من يقظة الوعي السوري الجديد، وانفلاتها الدموي مستعينةً بميليشيات مسلحة، لمنع تمكين السوريين من بلوغ الحرية والكرامة. فعلياً أطلقت الثورة فرصة تاريخية لإعادة بناء ثقافة الحقوق الفردية والعامة، على أنقاض بنية النظام المعادية لها، وكان توحش النظام لوأد الثورة وإخضاع السوريين، منفلتاً من أية حدود أو ضوابط تصون حرمة الحق بالحياة والأمان والحرية، والحق بالنشاط السياسي والمدني السلمي.

  شهدنا في المقابل الوجه الآخر لتلك الحقائق، لاسيما خلال تجارب إدارة المناطق المحررة من سيطرة النظام، والتي كشفت بدورها عن نتائج وآثار حجب منظومة الحقوق وتغييب آليات ممارستها لعقود طويلة، وكان من أبرز تلك الحقائق حجم ونوعية الانتهاكات الجسيمة التي تعرّض لها سكان تلك المناطق، لاسيما على يد القوى المتطرفة (داعش وأخواتها) وفي حالات أخرى صدوراً عن تشكيلات وفصائل عسكرية محسوبة على الثورة. فتح مسلسل تلك الانتهاكات التي طالت عمليات اعتقال وتعذيب وتصفية خارج نطاق القانون، وانتهاك حقوق أطفال ونساء ومرضى وفئات مشمولة بالحماية وفق القانون الدولي، تساؤلات كبيرة عن تكامل أدور الاستبداد الأسدي مع الإيديولوجيات المتطرفة، في التناوب على إهدار حقوق المدنيين في أوقات الحرب؟ وأبعد من ذلك التساؤل عن معنى الاستهانة بحقوق الإنسان السوري، من جانب بعض من ثاروا على جرائم وانتهاكات النظام الأسدي والقوى الحليفة له؟ 

 قلّما أظهرت وقائع تمادي واتساع شأفة الانتهاكات في الحالة السورية، تركيزاً على مشكلات القصور في بناء وعي مجتمعي، يجسر الهوة التي أحدثها طول أمد الاستبداد بين ثقافة الحقوق، وكيفيات ترجمتها في سلوك الجمهور المخاطب بها. بينما اقتصرت محاولات ردم هذه الهوة على أنشطة نخبوية محدودة النطاق، فمثلاً أقامت منظمات المجتمع المدني عشرات وربما مئات الورشات، حول موضوع العدالة الانتقالية، لم يمتد أثرها إلى البيئات المحلية والقوى التي تدير شؤونها، لترسيخ فكرة العدالة بديلاً عن نزعات الثأر والانتقام. ثمة أمثلة من هذا القبيل؛ لازالت تتناول قضايا الفيمينيست والجندرة ضمن نطاق التنظير المنفصل عن الواقع، فيما المطلوب جهود نوعية أوسع، لترسيخ وعي شعبي يؤمن بحقوق المرأة في المجتمع السوري.

 المراد هنا العمل على إطلاق مبادرات أهلية ومجتمعية، تقرن التغيير الوطني والسياسي المنشود، بإحداث تغييرات بنيوية وفكرية وثقافية عميقة، تقطع مع أمراض الرعية وإرثها الاستبدادي الثقيل في مجتمعاتنا، إلى مدركات مفهوم المواطنة وثقافة الحقوق التي يقوم عليها. بالطبع ليس من السهولة القيام بهذه المهمة الجوهرية، في مناخات الحرب والفوضى والمآسي، ولن يكون مجدياً بقاؤها في دائرة النشاط النخبوي الضيق. لكن لا مناص من تراكم الجهود والخطى المؤسساتية في هذا الاتجاه، لأنها ضمانة الدفاع عن قضايانا العادلة. وكما قال الفيلسوف هربرت ماركوز: “حين لا ننجح في بناء منظومة تقدمية للحقوق الفردية لن نفلح في إنجاز تحررنا الجماعي وتلك هي جدلية التحرر.”