ان إغضاء الطرف عن هذا الكم الهائل، من الحقوق التي انتهكت، والجرائم الفظيعة التي ارتكبت، سيكون سببا في زعزعة الثقة، بعدالة أممية مأمولة، وسيكون هذا علة، في ولادة وانبعاث المزيد من التطرف
24 / آب / أغسطس / 2018
محمد برو – مع العدالة
ربما يذكر معظمنا، المرات المتعددة والقليلة، التي حفل بها العالم، بمسارات العدالة الانتقالية، التي تشكل أحد أهم مطالب الناجين، من حرب دائرة، أو بعد سقوط حكم ديكتاتوري، أوغل في اجرامه.
لكننا بالتأكيد سنجد صعوبة، في تذكر المرات التي أفضت فيها هذه المسارات، الى نتائج تشفي صدور الناجين، من ذاقوا الويلات والتعذيب، والقهر والاعتقال الطويل.
وتتميز مقاربة المسألة، “التحضير للمطالبة بعدالة انتقالية” في سوريا، عن نظيراتها، أنها جاءت في مرحلة مبكرة جدا من عمر الثورة السورية، بينما نجدها في بلدان أخرى، أتت عقب وقف الحرب أو الاقتتال الدائر، أو سقوط النظام الحاكم، كما هي حال جنوب افريقيا “المثل الأكثر تداولا”
بالطبع يمكن اعتبار هذا الاتجاه، والاهتمام المبكر، مؤشرا مهما على الرغبة العميقة، لدى عموم السوريين، بأن تأخذ العدالة مجراها، عبر سيرورة قانونية، بعيداً عن مسارات الانتقام الشخصي، الذي سيفضي الى حرب أهلية، كارثية النتائج، لكنه بالتأكيد يمكن أن يمنح المنتهكين طمأنينة، نلمس ظلالها، في استمرار الإيغال في ارتكاب الجريمة، دون أدنى تخوف من عقاب، قد يناله المنتهكون.
ويجد المتتبع للنشاط الحقوقي، لدى مؤسسات المجتمع المدني السوري، في المنفى وفي الداخل السوري، وإن كان بشكل شبه سري، لما ينطوي عليه عملهم من مخاطر جمة، أنهم قطعوا أشواطاً واسعةً، في تقصي الحقائق، وتوثيق الكثير الكثير، من الجرائم التي ارتكبت، هذا التوثيق يمكن اعتباره اللبنة الأساسية، التي ستبنى عليها القضايا التي يحلم السوريون، أن تكون أدلة كافية لإنصافهم.
وبالرجوع الى أحد أهم المراجع، في توصيف العدالة الانتقالية، سنجد ما كتبه مارك فريمان وبريسيلاب هاينر، من المركز الدولي للعدالة الانتقالية بنيويورك، في كتابهما “المصارحة”.
فهما يحددان السمات العامة المشتركة، لـ “هيئات الحقيقة”، في كونها غير قضائية، مؤقتة، تتمتع باستقلال قانوني، ومعترف بها رسميًّا، وتستمد صلاحياتها من الدولة والمعارضة المسلحة، أو يُنَصُّ عليها في اتفاقية سلام، وتعمل لعام أو عامين، في سياق انتقال من حرب إلى سلم، أو من حكم تسلطي إلى ديمقراطية، وينصبُّ عملها على التحقيق في انتهاكات الماضي، ثم تختم عملها بتقرير حول استنتاجاتها وتوصياتها، النقطة الأولى، أننا إذا حاولنا، الرجوع الى كل فقرة من هذه السمات، سنجد أن السعي لمسارات العدالة الانتقالية في سوريا، ما هو إلا ضرب من ضروب العبث واللاجدوى، في ضوء هذا العمل المحموم، من معظم القوى والدول الفاعلة في الملف السوري، والذي يمكن إجمال إطاره العام، بإعادة انتاج نظام الأسد، وربما في أحسن الظروف، تنحية الأسد عبر توفير هبوط آمن له، ولقادة الصف الأول من أركان نظامه، مع الإبقاء على نظامه، الأمر الذي سيوقعنا في حلقة معيبة، نهايتها تفضي الى بدايتها، وبدايتها تفضي الى نهايتها.
فهذه الهيئات إنما تستمد صلاحياتها من الدولة والمعارضة المسلحة وهما في واقع الأمر موضوع التقصي والمسائلة لدى هذه الهيئة ولنا ان نتخيل مقدار الصلاحيات التي يمكن الحصول عليها في هذه الحال.
النقطة الثانية، هي استحالة الخلوص، بنتائج مهمة، فهذا التشويش الهائل الذي حصل، بشكل ممنهج وبفعل فاعلين، من تشابك أيدٍ كثيرةٍ، في آلاف الانتهاكات التي حصلت، تجعل من إمكانية المسائلة أمراً مشكوكاً فيه، فقد اسرف النظام من جهته، بارتكاب عددا لا يحصى من الانتهاكات والجرائم، وأشرك في تنفيذها أعداداً كبيرةً من أعوانه، بحيث تستحيل مسائلتهم أصلا.
النقطة الثالثة، أن النظام ما يزال منتصرا بداعميه، وسيكون تغيير رأسه، لو حصل مشروطا، بطي صفحة المساءلة، وهذا ما تكرر الحديث عنه، في ظروف أصلح من ظروفنا اليوم، وكما سبق لإسرائيل أن عرضت مقايضة الأرض مقابل السلام، سيتمسك داعمو الأسد، بمقايضة السلام مقابل بقاء نظام الأسد، والكف عن المسائلة مستقبلا، وإن كان هذا الشرط يتناقض جوهريا، مع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، إلا أن الأسد المحمي بداعميه، سراً وجهراً، إن لم تتغير موازين الأمور، سيتمكن من الحصول على هذه الصفقة.
ستبقى هذه الصفحة، مفتوحة على احتمالات كثيرة، لكن هناك ملايين الضحايا في سوريا اليوم، ينتظرون انصافهم من قوى أممية، وان إغضاء الطرف عن هذا الكم الهائل، من الحقوق التي انتهكت، والجرائم الفظيعة التي ارتكبت، سيكون سببا في زعزعة الثقة، بعدالة أممية مأمولة، وسيكون هذا علة، في ولادة وانبعاث المزيد من التطرف، والركون الى تحصيل الحقوق، بوسائل مختلفة، ابسطها وأكثرها شيوعا، الانتقام الذي لن يقتصر على الانتقام من الجاني، انما سيمتد الى داعميه ومصالحهم.
.
.