#########

بيانات وتقارير

الأسد واغتيال الفنّ السوري


تبع ذلك ما أُطلق عليه "مظاهرة المثقفين" في 13 تموز/ يوليو 2011 والتي شهدت اعتقال 19 فناناً ومثقفاً قبل انطلاق المظاهرة بدقائق، ليفرج عنهم لاحقاً بعد أيام من التعذيب والتهديد

26 / تموز / يوليو / 2019


الأسد واغتيال الفنّ السوري

 

 

 

أحمد طلب الناصر- مع العدالة

 

شن نظام الأسد حملات اعتقال واسعة طالت العديد من الفنانين السوريين؛ ممثلين ومخرجين وتشكيليين ومصورين، كما ارتكب جرائم التصفية الجسدية بحق العديد منهم، منذ اندلاع الثورة السورية في ربيع 2011، ليقينه التام من قدرتهم على التأثير الفعال في الشارع السوري.

 

ويعود تخوّف نظام الأسد من الفنانين إلى فترات سبقت الثورة بعقود، ومنذ أيام الأسد الأب الذي قام بالتضييق على الفنانين عموماً، ما نتج عنه حالة من التدجين الفنّي إن صحّ التعبير؛ من خلال تحكّم أجهزة الأمن بالمؤسسات الفنية وأفرادها الذين اقترنت أنشطتهم وأعمالهم بمستوى علاقاتهم الشخصية بضبّاط الأمن وعناصر فروعه.

ولم يكتفِ النظام بوقوف الفنانين على الحياد وعدم المجاهرة برأيهم، بل أجبرهم على الجهر بالولاء والتأييد بصورٍ ساهمت في الحطّ من قيمة الفنّ وشخوصه، مثال بعض الفنانين الذين ظهروا خلال سنيّ الثورة في مقاطع مصورة وهم يرتدون الزيّ العسكري أو يقبّلون أحذية الجنود العائدين من طقوس الذبح.

وعلى الرغم من حجم الخوف المخيّم على الفنانين السوريين، لم يمنعهم ذلك من المشاركة بالتظاهرات السلمية في وقت مبكر من الثورة.

ويعتبر “بيان الحليب” الذي وقع عليه نحو 1200 من الفنانين والمواطنين، الأول من نوعه، إذ طالب الموقعون نظام الأسد بإيصال المساعدات الغذائية والدواء والحليب إلى أطفال درعا المحاصرين في نيسان/ أبريل 2011.

 

 

تبع ذلك ما أُطلق عليه “مظاهرة المثقفين” في 13 تموز/ يوليو 2011 والتي شهدت اعتقال 19 فناناً ومثقفاً قبل انطلاق المظاهرة بدقائق، ليفرج عنهم لاحقاً بعد أيام من التعذيب والتهديد.

وخلال الأشهر الخمسة الأولى اللاحقة لانطلاقة الثورة، لم يخلُ تشييع لأحد ضحايا الثورة في دمشق أو ريفها من مشاركة فنان أو مجموعة من الفنانين.

ونتيجة تصاعد الانتهاكات والجرائم المرتكبة بحقهم وممارسة أساليب الترهيب والمقاطعة الفنية والاقتصادية، والحملات الإعلامية ضدهم، بالإضافة إلى تراجع الحراك السلمي وظهور الفصائل المسلحة مع بداية 2012؛ كل ذلك دفع أكثر الفنانين المشاركين بالثورة للجوء إلى الدول الأخرى.

 

  • التشبيح الأول والاعتقالات الأولى:

لم ينسَ السوريون يوماً حادثة التعدّي التي تعرّض لها فنان الكاريكاتير علي فرزات صباح  25 آب/ أغسطس 2011 حين أوقفه عدد من الشبيحة وأنزلوه من سيارته ليشبعوه ضرباً وتنكيلاً وتكسيراً لأصابعه التي رسمت رئيسهم وسخرت منه.

أما بالنسبة للاعتقالات، فكان أشهر المعتقلين الأوائل من الفنانين الفنانة المرحومة مي سكاف التي أطلت بكل جرأة لتنتقد النظام لعدم استجابته لمطالب السوريين، فكلفها اعتقالاً واعتداءً من قبل قوات النظام. واضطرت لمغادرة سوريا بعد إخلاء سبيلها وإحالة أجهزة الأمن ضبطها الأمني إلى محكمة الإرهاب.

 

 

وطال الاعتقال كذلك الممثل محمد آل رشي الذي شارك في مظاهرات ريف دمشق، وبعد خروجه من المعتقل رحل إلى بيروت.

واعتقل أيضاً الفنان والمؤلف محمد أوسو المشهور بلقب “كسمو” أكثر من مرة بسبب مشاركاته في المظاهرات المطالبة بإسقاط النظام.

كما تم اعتقال الفنان جلال الطويل وتعرض للضرب من قبل الشبيحة إثر مشاركته في تظاهرة حاشدة في حي الميدان الدمشقي.

أما الفنانة يارا صبري فقد تمكنت من الهرب قبل القبض عليها واعتقالها، وتعتبر من أهم الناشطات في مجال متابعة مصير المعتقلين والمختطفين والمغيّبين في سجون النظام.

ولا ينسى السوريون الفنانة الشابة المرحومة  فدوى سليمان التي شاركت في معظم مظاهرات حمص إلى جانب المرحوم عبد الباسط ساروت، قبل مغادرتها إلى باريس بعد أن أضحت حياتها مهددة من نظام الأسد.

 

 

وتطول قائمة الفنانين السوريين الذين تعرّضوا للملاحقات الأمنية والتهديدات المتكررة نتيجة تأييدهم للثورة ومشاركتهم في المظاهرات السلمية، أمثال الممثل فارس الحلو وزوجته سلافة عويشق، وواحة الراهب ومكسيم خليل، والمرحوم عامر سبيعي، والممثلة عزّة البحرة والمغنية أصالة نصري والممثل جهاد عبدو الذي شقّ طريقه للنجومية في هوليود؛ وعبد الحكيم قطيفان الذي عانى من الاعتقال أيام الأسد الأب عام 1983 لاتّهامه بتحريض الرأي العام ضدّ نظام البعث وكان عمره وقتها 25 سنة، فقضى 9 سنوات في سجون الأسد وتعرض خلالها للتعذيب.

واعتقلت الفنانة سمر كوكش، ابنة المخرج السوري علاء الدين كوكش، في نهاية 2013 ليتم الإفراج عنها بعد حوالي أربع سنوات. وتمثّلت تهمتها بمساعدة طفلة في الخروج من حصار مدينة المعضمية لإجراء عمل جراحي عاجل لها، فاعتبره النظام مساعدة للإرهابيين.

كما تعرضت الفنانة ليلى عوض للاعتقال بعد عودتها إلى سوريا التي خرجت منها في السابق لتخوفها من الاعتقال، ووردت أنباء تفيد بأن الفنان دريد لحام هو من أقنعها واستدرجها للعودة ليتم اعتقالها على الحدود السورية اللبنانية.

أما الممثل المسرحي زكي كورديللو، وابنه مهيار الذي كان طالباً في المعهد العالي للفنون المسرحية عندما اعتقلا سنة 2012، فما يزال مصيرهما مجهولاً حتى اللحظة.

 

 

وحين عاد المخرج السينمائي باسل شحادة إلى سوريا ليشارك في ثورتها متخلياً عن حياته الهانئة في الولايات المتحدة، تعرّض للاعتقال إثر مشاركته في مظاهرة المثقفين بدمشق. وفي أواخر أيار/ مايو 2012 استهدفه قصف النظام في مدينته حمص ليفقد حياته فيها وهو يدرّب ثوّارها على فنون التصوير والإخراج.

وفي24 شباط/ فبراير من العام 2013 أُطلقت قذيفة (آر بي جي) من حاجز للنظام في منطقة القدم الدمشقية على سيارة الممثل الليبي- السوري، ياسين بقوش، بعد مروره من جانب عناصر الحاجز الذين سمحوا له بالعبور والتوجّه صوب بيته، فلقي حتفه على الفور. وكان جرمه أن بيته يقع تحت سيطرة الجيش الحر آنذاك!

 

  • الأغنية الأولى.. الثورة الأولى:

“يا حيف”..

الأغنية التي أطلقها سميح شقير، ابن مدينة السويداء، بالتزامن مع إطلاق الرصاص الحي على أبناء درعا في الأيام الأولى من الثورة؛ لتنتشر انتشار النار في الهشيم بين أبناء المدن السورية وتحثّهم على الوقوف في وجه نظام الأسد.

أقضّت تلك الأغنية مضاجع نظام الأسد لدرجة أنها صارت دليلاً دامغاً يدفع عناصر الأمن لاعتقال أي شخص يستمع إليها أو يحفظها داخل حاسوبه الشخصي وهاتفه الجوّال؛ بل وتعرّض البعض للتصفية الفورية على الحواجز العسكرية بمجرد عثور عناصرها على الأغنية مخزّنة بداخل أجهزة الهاتف.

ولا ننسى الموسيقار العالمي مالك الجندلي ابن مدينة حمص، صاحب أغنية “وطني أنا” الذي حاز من خلالها على جائزة حرية التعبير لعام ٢٠١١ في لوس أنجلس، ولدفاعه الصارخ عن الثورة السورية.

 


  • ظاهرة “الناشط الفنّي”..

انتشرت ظاهرة الناشط الإعلامي (المواطن الصحفي) منذ بداية الثورة السورية نتيجة إغلاق مكاتب المؤسسات الإعلامية الخارجية بأمر من نظام الأسد، منعاً لرصد انتهاكاته وجرائمه الممارسة بحق السوريين وبثّها على العالم الخارجي.

أما على الساحة الفنية، فقد نشأت ظاهرة “الناشط الفنّان”، إن صحّ التعبير، نتيجة التضييق على الفنانين داخل سوريا.

فظهرت لوحات ورسومات مدينة “كفرنبل” الشهيرة التي أبدعها المرحوم رائد الفارس، إضافة إلى الجداريات التي عمّت أرجاء المدن والبلدات الثائرة.

وصدحت الأغاني الفلكلورية المستسقاة من تاريخ كل مدينة على الجغرافيا السورية، فكانت “جنة يا وطنّا” التي أبدع بها الساروت، و”اللي بيقتل شعبه خاين”، وكانت أيضاً “الموليّا” الفراتية الممزوجة بعبارات الثورة، والأهازيج الحورانية المترافقة مع الدبكات، ثم جاءت أغاني نشطاء الثورة السورية ذات اللحن والنسق الواحد والكلمة الواحدة التي طغت على الفلوكلور الشعبي، وأعطت طابعاً متميزاً جديداً ومختلفاً استساغته أطياف ومناطق الشعب السوري الثائر.

وحازت أغاني “إبراهيم القاشوش” في مدينة حماة على المرتبة الأولى، لتصدح بها أصوات “نشطاء فنون” المظاهرات في بقية المدن السورية الأخرى.

وكانت الانطلاقة مع مظاهرات يوم الجمعة، التي تخطّت أعداد المتظاهرين في بعض أيامها كجمعة “ارحل” السبعمئة ألف حموي يقودهم في وسط ساحة “الساعة” صوت إبراهيم القاشوش بأغانٍ قام بتأليفها وتلحينها وإلقائها على مسامع المتظاهرين، فتناقلتها جميع محطات التلفزة من خلال بثها عبر أجهزة المحمول والشبكة العنكبوتية.

تلك الأغنيات كانت: يالله إرحل يا بشّار، ويا وطنا ويا غالي، ويا محلاها الحرية، وسوريا بدها حرية، وبس اسمعوني، ويا عيني ويا روحي والسوري شايف حالو..

واشتملت الأغاني على عشرات العبارات الساخرة من الرئيس السوري وأركان نظامه رغم إدراك خطورة الكلمة والصوت في ظل تسلّط ذلك الأخير.

انتشرت كلمات وألحان الأغاني في المدن والبلدات السورية بسرعة عجيبة، لتضاف إليها كلمات وعبارات تناسب لهجات أهالي المحافظات الشرقية والجنوبية، ثم لتغدو شعاراً للمظاهرات والاعتصامات في ساحاتها؛ هذا بالإضافة إلى إحدى الأغاني التي أصبحت شعاراً من شعارات الثورة السورية “سورية بدها حرية”.

 

 

لم يهنأ النظام ليلة واحدة إلى أن قام باقتلاع حنجرة القاشوش، ومزّق جسده بالرصاص المتفجر، ورمى جثته في نهر العاصي.

لم يحمل القاشوش السلاح، ولم ينضم إلى “العصابات الإرهابية المسلحة” حسب وصف النظام، لكن الأسد يدرك جيداً أثر الفنون على الشعوب الراغبة بالانعتاق، فقرر سحقها إلى الأبد.

 

  • فنون النظام.. تحريض على القتل وتكريس الدكتاتور:

وبالمقابل، فقد استغل نظام الأسد مؤيديه من الفنانين للردّ على فنون الثورة السلمية الخالية من كل تجييش وتفرقة. فجاءت ردودهم متخمة بالبارود والرصاص والقتل والإبادة.

فعلى مستوى الغناء، برز العديد من المغنين والمغنيات يؤدون أغان تتضمن كلمات تمجّد الأسد وجيشه وممارساته الوحشية، وتحرّض على الطائفية والعنف وإبادة المدنيين، مترافقة مع موسيقا صاخبة توتّر الأعصاب.

راحت تلك الأغاني تنتشر وسط المناطق المدنية والأسواق والتجمعات السكنية والمدارس والجامعات. كما يحرص غالبية الشبيحة على استمرار بثّها بأعلى صوت عبر مسجلات سياراتهم وهم يجوبون شوارع المدن والبلدات التابعة للنظام.

نذكر بعض العبارات الواردة في تلك الأغاني على سبيل المثال وليس الحصر:

 

  • مكتوب على ذي الفقار.. الله وسوريا وبشار
  • مكتوب على المسدّس.. حافظ أسد مقدّس.

وكلمات أخرى تقول:

 

  • الله محيي هالجيش.. الحامي ترابك سوريّة
  • ويحمي قائدنا بشار.. رئيس الجمهورية

 

كما برز مؤخراً على ساحة النظام الفنية مطرب جديد اسمه “جمال عساف”، يلقّب بـ “مطرب الجيش العربي السوري”.

وبالتزامن مع حصار الغوطة الشرقية وقصفها بالكيماوي، أطلق “عساف” أغنيته التي تقول:

 

  • أقصف يا جيش السوري على غوطة الشرقية
  • أقصف ع جيش الإسلام واحرق هالإرهابية
  • اطلع مع الطيارة.. احرق واقصف هالحارة

 

وينهي “مطرب الجيش” أغنيته (الملحمية) بالعبارة التالية:

الله وشبيحة البلد.. وبشار حافظ الأسد.

 

ولا يختلف فن التمثيل عن فنون الغناء لدى نظام الأسد، وأقرب مثال على ذلك ما أثير مؤخراً حول المشهد المقتطع من مسلسل (كونتاك) وأدّت بطولته الممثلة “أمل عرفة”؛ والذي سخر من ضحايا الكيماوي من أطفال الغوطة الشرقية، مدّعياً بأن ما حصل من قتل نتيجة اختناق للأطفال ليس سوى مقاطع كاذبة تم تمثيلها على يد أفراد “الخوذ البيض”.

 

 

أمّا الفنون التشكيلية فحدّث ولا حرج؛ فبدل أن ينحت الفنانون نُصُباً جمالية مستوحاة من الحضارة السورية العريقة أو من طبيعتها الغنيّة بالتفاصيل المميزة، راحت منحوتاتهم لتجسّد “جزمة” عسكرية وسط بعض الساحات، أو إعادة تشكيل لتماثيل “القائد المؤسس” في قلب المدن المدمّرة.

 

المزيد للكاتب