هناك حاجة ملحّة لاتخاذ إجراءات من جانب المجتمع الدولي والسلطات المحلية على حد سواء لتخفيف الخسائر الناجمة عن هذه الحرائق، وتخفيف حدة التوترات، ومنع المزيد من انهيار الهياكل الاقتصادية والإدارية في المنطقة
24 / حزيران / يونيو / 2019
*المصدر: المركز السوري للعدالة والمساءلة
بعد سنوات من الجفاف، أحيت الأمطار الغزيرة هذا العام الآمال في الحصول على محصول وفير. ولكن المزارعين، في جميع أنحاء شمال سوريا، يراقبون بلا حول منهم ولا قوة شهوراً من الكدّ والتعب تحترق عن بِكرة أبيها وتحترق معها لقمة عيشهم. وبالنسبة للعديد من المزارعين والمجتمعات المحلية الذين يعانون بالأصل من معدلات مرتفعة من انعدام الأمن الغذائي والديون، فإن تدمير محاصيل هذا العام يمثل عقبة أخرى أمام البقاء. ويبدو أن للحرائق في شمال شرق سوريا أسباباً متعددة، بدءاً من الطقس الحار إلى حرائق متعمدة بدوافع شخصية وسياسية. فقد أشار السكان المحليون بأصابع اللوم في كل اتجاه، ولكن تحديد الأسباب أو الجناة غالباً ما يكون أمراً صعباً، ويؤدي إلى مناخ غير مسبوق من جنون الارتياب وانعدام الثقة.
وهناك حاجة ملحّة لاتخاذ إجراءات من جانب المجتمع الدولي والسلطات المحلية على حد سواء لتخفيف الخسائر الناجمة عن هذه الحرائق، وتخفيف حدة التوترات، ومنع المزيد من انهيار الهياكل الاقتصادية والإدارية في المنطقة. ومع ذلك، يجب أن تبتعد هذه الإجراءات عن الاتهامات التحريضية والتركيز على مجموعة من العوامل التي تسهم في اندلاع الحرائق.
اتهامات من جميع الجهات
أثارت الحرائق في شمال شرق سوريا اهتماماً دولياً للمرة الأولى الشهر الماضي بعد ادّعاء تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، في رسالته الإخبارية “النبأ”، مسؤوليته عن سلسلة من الحرائق التي اندلعت عبر عشرات الآلاف من الهكتارات الأراضي الزراعية في شمال شرق سوريا وشمال العراق خلال الأسابيع الأخيرة. وفيما يبدو أنه استراتيجية جديدة لتنظيم داعش لتقويض حكم قوات سوريا الديمقراطية في الأراضي التي كانت خاضعة لاحتلال التنظيم في السابق، حثّ تنظيم داعش أتباعه على مواصلة إشعال الحرائق في المحاصيل الزراعية في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية. وقد أشار مراقبون دوليون عقب ذلك إلى الحرائق كدليل على استمرار نفوذ داعش في المنطقة، ومع ذلك فمن المحتمل أن تنظيم داعش يدّعي مسؤولية أكبر مما يملك حقيقة.
وعلى الرغم من إعلان داعش، استمرت الاتهامات ضد الفصائل الأخرى، بما في ذلك الحكومة السورية، وقوات سوريا الديمقراطية، وتركيا. وتشير لقطات إنتشرت على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي السورية إلى أن هذه الاتهامات قد لا تكون باطلة تماماً. ففي أحد مقاطع الفيديو التي نشرها المرصد السوري لحقوق الإنسان، تشير مزاعم إلى رؤية حرس الحدود التركي يُشعل النيران عبر الحدود مع الأراضي السورية في الدرباسية، وهي بلدة ذات أغلبية كردية في محافظة الحسكة. وهناك مزاعم في مقطع فيديو حديث تُظهر رجالاً يركبون سيارة تحمل علم قوات سوريا الديمقراطية وهم يشعلون النار في حقل قمح في عين العروس، وهي قرية شمال الرقة، حيث واجهت قوات وحدات حماية الشعب الكردية مقاومة قوية من السكان العرب والتركمان. وفي كلتا الحالتين، لم يتمكن المركز السوري للعدالة والمساءلة من التحقق من موقع ومصداقية مقاطع الفيديو. غير أن احتمال وقوع مثل هذه الحرائق لغرض الانتقام على أسس طائفية وسياسية هو تطور خطير.
ولتعقيد الأمور، يبدو أن المصالح الشخصية وعمليات الانتقام تلعب دوراً أيضاً. وفي مقابلة أجرتها وكالة Synaps، لاحظ أحد المزارعين أن مَزارِع مؤيدي داعش قد تم حرقها أيضاً. حيث وضّح قائلاً: “إن إشعال النار في أراضي هؤلاء الناس هو وسيلة للانتقام وتهدئة الغضب”. وأخبر مصدر محلي آخر المركز السوري للعدالة والمساءلة أن العديد من المزارعين يخشون من أن الحرائق قد استُخدمت عمداً لاستعادة ملكية الأراضي. ففي أعقاب الجفاف في السنوات الأخيرة، اضطُر العديد من المزارعين المحليين في شمال شرق سوريا إلى الحصول على رهونات شخصية مقابل مزارعهم. وغالباً ما تكون هذه الاتفاقات غير رسمية وقد يؤدي تنفيذها بعد هذه الحرائق إلى التعجيل في وقوع دورة أخرى من العنف.
وهناك مجموعة من العوامل الطبيعية والعَرَضية الأقل ضراوة، ولكنّها مدمِّرة بنفس القدر. فقد تسبَّب الطقس الحار والجاف على نحو غير معقول في ازدياد شيوع الحرائق التي تنشب بشكل طبيعي في السنوات الأخيرة، ولكن في السياق الحالي، لدى السلطات المحلية وسائل محدودة للغاية لمكافحتها. وقد ادّعى سكان الرقة أنه لا يوجد لدى سلطات قوات سوريا الديمقراطية حاليا سوى ثلاث سيارات إطفاء لخدمة محافظة الرقة بأكملها. ويجادل آخرون بأن رداءة نوعية الوقود المكرر من قبل سلطات قوات سوريا الديمقراطية قد جعل المركبات الزراعية أكثر عرضة لإصدار شَرَر في الحقل. وفي الوقت نفسه، أدى الوجود المتزايد للعمال الزراعيين عديمي الخبرة – نتيجة عمليات النزوح الجماعية للعمال المحليين – إلى أخطاء غير مبالية مثل إلقاء السجائر المشتعلة في الحقول الجافة.
في هذا السياق، غالباً ما يكون من الصعب للغاية على السلطات المحلية التأكد مما إذا كانت الحرائق الفردية قد اندلعت بشكل طبيعي أو عَرَضي أو متعمّد. وحتى في الحالات التي يوجد فيها دليل على حريق متعمّد، فإن الجناة ليسوا واضحين دائماً. وإن الصور على وسائل التواصل الاجتماعي التي يُزعم أنها تُظهِر سبب نشوب أحد الحرائق في العراق – وهو عدسة مكبّرة بسيطة مثبّتة في حقل محترق – توضّح مدى سهولة إشعال أي حريق مدمِّر. وقد تم الإبلاغ عن تقنيات مماثلة من قبل فريق التوثيق التابع للمركز السوري للعدالة والمساءلة في سوريا. ويعني هذا أنه يمكن لأي شخص أن يكون مشتبهاً به، وأنه من الصعب إخماد جنون الارتياب وانعدام الثقة اللذين تشعل فتيلهما الحرائق.
دور التحالف الدولي
بدلاً من العمل على نزع فتيل التوترات والتضليل، فقد شاركت السلطات المحلية غالباً في تسييس اللوم، حيث ذكرت في صفحتها على الفيسبوك أن “معظم هذه الحوادث متعمدة من قبل أطراف مختلفة، مثل داعش والنظام السوري وتركيا، تريد تدمير اقتصاد المنطقة وتهديد سُبل معيشة سكانها”. ولا تؤدي هذه التصريحات إلّا إلى مزيد من التوترات العرقية وانعدام الثقة. وبالنظر إلى الطبيعة المسيّسة بشدة لحرائق المحاصيل الزراعية، فإن الأمر متروك للتحالف الدولي لضمان أن تتصدى السلطات المحلية للحرائق بالمساءلة والنزاهة، وأن يتم تزويدها بموارد كافية للقيام بذلك.
كخطوة أولى، يجب على التحالف الدولي توفير المزيد من التمويل والمعدات لرجال الاطفاء في المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية. وعلى الرغم من أنه لا يمكن منع الحرائق المتعمدة والحرائق التي تنشب بشكل طبيعي كلياً، فمن الضروري أن يكون لدى السلطات المحلية القدرة على إخماد الحرائق بسرعة وتقليل الخسائر للمزارعين. ويجب أن تجري السلطات المحلية تحقيقاً دقيقاً ونزيهاً في حالات الاشتباه في الحرائق المتعمدة، بما في ذلك تلك الحرائق التي يُحتمل أن يكون قد أشعلها مؤيدو قوات سوريا الديمقراطية. ويجب أن يلقى الجناة محاكمة عادلة، ويجب التمسك بمعايير الإثبات، ولكن يجب أن يتم مساءلة الأشخاص الذين ثبتت إدانتهم لتثبيط الآخرين عن ارتكاب جرائم مماثلة. وبالإضافة إلى ذلك، سيحتاج المزارعون الذين فقدوا محاصيلهم إلى الحصول على مساعدات غذائية للتعويض عن خسائرهم.