تمتد المنطقة الآمنة، بحسب المسؤولين الأتراك، من نهر الفرات غربًا حتى مدينة المالكية في أقصى شمال شرقي سوريا بالقرب من الحدود العراقية، بعمق يتراوح بين 30 و40 كم، وعلى امتداد يقدّر بنحو 460 كم
14 / تشرين أول / أكتوبر / 2019
*أحمد طلب الناصر- مع العدالة
انطلقت عملية “نبع السلام” العسكرية في التاسع من شهر تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، وتعتبر العملية الثالثة التي يشترك فيها الجيش التركي مع “الجيش الوطني” المكوّن من فصائل المعارضة السورية المسلحة، لتستهدف هذه المرة منطقة شرق نهر الفرات في الجانب الشمالي من الجزيرة السورية، بعد أن شملت عمليتا “درع الفرات” و”غصن الزيتون” أراضي غرب الفرات من جرابلس إلى عفرين.
ومنذ اللحظة التي أُعلن فيها بدء العملية، انقسم السوريون بين مؤيد ومعارض لها ليعود إلى الأذهان ما شهدته مواقع الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي من صدامات وتباين في الآراء والمواقف التي عاصرت العمليتين السابقتين خلال عامي 2016 و2018 .
فريق واسع من المعارضين السوريين أيّد “نبع السلام”، وغالبيتهم من أبناء المكوّن السوري “العربي” المتواجدين على الأراضي التركية، بالإضافة إلى النازحين المقيمين في مناطق ريف حلب الشمالي وعفرين وإدلب، وخصوصاً من أبناء المدن والبلدات التي سيطرت عليها ميليشيا “قسد” بعد انتزاعها من فصائل “الجيش الحر” أو من تنظيم “داعش” بمساندة الحلفاء، كمنبج وتل أبيض ورأس العين، وكذلك ريفي الرقة ودير الزور؛ ويبقى أبناء مدينة “تل رفعت” وما حولها من أشدّ الداعمين والمشاركين في العملية، إذ لا تغيب عن ذاكرتهم حادثة استعراض مقاتلي قسد لجثث رفاقهم الملقاة على قاطرة تجول بها شوارع عفرين قبل “غصن الزيتون”.
وفريق آخر، من المحسوبين على المعارضة السورية أيضاً، انتقد العملية وهاجم الطرف التركي فيها، متهماً إياه بالتدخّل في شأن سوري داخلي واحتلال أراض لدولة “ذات سيادة” تارة، وتارة أخرى باستهداف مدنيين في شرق الفرات، بالإضافة إلى اعتبار العملية ستساهم في اتساع الشقاق بين العنصرين الكردي والعربي.
جزء من أولئك المهاجمين ينتمون لتيارات وأحزاب يسارية أو قومية ومنظمات ومؤسسات مدنية ذات طابع علماني، إلا أن غالبية المهاجمين هم من أبناء المكوّن السوري “الكردي” عموماً ممن يتبعون لأحزاب سياسية كردية، ويقيمون في مناطق سيطرة قسد أو لاجئين في دول أوروبية مختلفة.
-
أهداف العملية: من الغالب ومن المغلوب؟
الجانب التركي لا يخفي هدف العملية الأول والرئيس، والذي صرّح به رئيس تركيا “أردوغان” ومعه المسؤولون الأتراك، ويتمثل في “إزالة الممر الإرهابي الذي يحاول حزب العمال الكردستاني إقامته جنوب البلاد”. وكما هو معروف، فإن الصراع بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني (pkk) المصنّف إرهابياً على لوائح الأمم المتحدة، يعود إلى أكثر من 3 عقود مضت، ويشكل هذا الصراع عماد الأمن القومي بالنسبة لتركيا على الإطلاق، وترغب الأخيرة بإنهاء كابوسه للأبد والقضاء نهائياً على تهديده المستمر لحدودها الجنوبية الفاصلة بينها وبين سوريا والعراق وكبح سعيه الدائم لاقتطاع الجزء الجنوبي من تركيا لإنشاء “دولة كردية” تشمل كل من “كردستان العراق” وشمال شرق سوريا “روج آفا” بالإضافة إلى كامل ولايات تركيا الجنوبية.
“صورة للآليات العسكرية التركية المتوجهة إلى الشمال السوري” نت
الهدف الثاني من العملية، ويرتبط بالحالة السورية التي ستكون محور حديثنا في هذا التقرير المطوّل، وسنرصد بعضاً من تفاصيله وأبعاده وتأثيراته على الساحتين السياسية والاجتماعية في الشمال السوري؛ فيتمثّل في خلق “ممر آمن” في شرق الفرات بعد القضاء على قسد، وإقامة “منطقة آمنة” تضمن “عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم” بحسب تصريح الرئيس التركي الذي سبق وطرح في قاعة الأمم المتحدة، في أيلول/ سبتمبر الماضي، خطة لإعادة توطين مليوني سوري في هذه المنطقة بدعم من المجتمع الدولي.
وتمتد المنطقة الآمنة، بحسب المسؤولين الأتراك، من نهر الفرات غربًا حتى مدينة المالكية في أقصى شمال شرقي سوريا بالقرب من الحدود العراقية، بعمق يتراوح بين 30 و40 كم، وعلى امتداد يقدّر بنحو 460 كم.
وتسيطر “وحدات حماية الشعب الكردية” المدعومة أميركيًا على أهم مدن هذه المنطقة، وهي: الطبقة وعين عيسى وسلوك وتل أبيض في محافظة الرقة، والقامشلي ورأس العين والمالكية في محافظة الحسكة، وعين عرب في ريف حلب الشمالي.
ويبدو أن العملية تقاطعت فيها مصالح الطرفين، التركي والمعارضة السورية، من حيث اشتراكهما في مناصبة العداء لـ pkk وأجنحته من جهة، ومن حيث تأمين منطقة الشمال السوري لتشكل خطاً آمناً بالنسبة للأتراك ومنطقة آمنة بالنسبة للمهجّرين والنازحين السوريين تحت حماية تركيا.
-
الانعكاسات الأولى: تضارب في الآراء وانعدام الحيادية:
قبل الحديث عن أخبار ضحايا وأعداد ووجهة النازحين المدنيين عقب انطلاق العملية، والتي تفتقر في الحقيقة إلى الدقة والموضوعية في معظم تفاصيلها نتيجة انقسام وسائل الإعلام وبعض المنظمات الحقوقية وانحيازها إلى طرف دون الآخر من طرفي الاشتباك؛ سنمرّ على أهم بيانات ومواقف المؤسسات السورية المعارضة للوقوف على حجم الانقسام الحاصل داخل بعضها البعض من جهة وبينها وبين المكونات السورية من جهة أخرى.
“تيار مواطنة” السوري المعارض، أعلن في بيانه الذي نشره بعد يومين من بدء العملية عن شجبه وإدانته لما وصفه بـ “الاعتداء التركي السافر على أراضينا السورية تحت سمع المجتمع الدولي وتواطئه وخاصة الولايات المتحدة بعد أن سحبت بعض نقاط تمركزها”.
وأشار البيان إلى أن العملية “تتعارض مع مصالح شعبنا وتدفع بشدة إلى اقتتال السوريين لمصلحة تركيا وتزيد في تفتت النسيج الوطني السوري ومما لا شك فيه أنها ستؤدي إلى كارثة إنسانية جديدة وإلى نزوح عشرات آلاف السوريين عن مناطقهم وقد تؤدي إلى تغيير ديموغرافي إذا ما اكتمل المشروع التركي الخبيث للمنطقة”.
وطالب التيار جميع المقاتلين السوريين في الجيش الوطني بعدم المشاركة في هذه المعركة التي وصفها بـ “القذرة”!
أما “هيئة التفاوض” فقد اعتبر رئيسها، نصر الحريري، أن “حزب العمال الكردستاني، تنظيم إرهابي لا يختلف عن داعش والقاعدة والمليشيات الإيرانية، والمنطقة الآمنة حلم قديم متجدد للسوريين سيساهم في جلب الاستقرار ومواجهة التنظيمات الإرهابية والسماح بعودة المهجرين واللاجئين من أهالي تلك المناطق والدفع باتجاه الحل السياسي في سوريا”.
“صورة لمقاتلين في الشمال السوري” نت
في حين أن “منصة القاهرة” في الهيئة نفسها فقد قالت: “نرفض بشدة هذه الأعمال العسكرية، ونعتبرها حربًا إضافية في سوريا ستؤدي إلى مزيد من الضحايا وخاصة في أوساط المدنيين، وإلى مزيد من موجات النزوح و الهجرة”. وأضافت “نرفض أي تغييرات ديموغرافية قسرية تنتج عن العنف أو أي وسائل أخرى في شمال شرق سوريا”.
كما وصفت “منصة موسكو” في “هيئة التفاوض”، التدخل التركي بـ”العدوان السافر”، ودعت إلى “وقف العدوان فورًا والالتزام بالعمل ضمن صيغة محادثات أستانة وضمن أطر القانون الدولي”.
ويتبيّن موقف المؤسسات الدينية في المعارضة السورية من خلال البيان الذي أصدره “المجلس الإسلامي السوري”، حيث جاء فيه: “يعلم جميع السوريين أن ميليشيات pkk وpyd عاثت في الأرض فساداً، فقد شرّدت الناس من ديارهم، وعمّ أذاهم كل السكان من كرد وعرب وتركمان وغيرهم، وأعلنت مشاريعها التقسيمية التي تهدد وحدة سوريا واتحاد شعبها، وفي الوقت نفسه تهدد استقرار دول المنطقة بأسرها”.
وتابع “ولم تكن هذه العصابات في يوم من الأيام في ركب الثورة، ولا أفرادها من عداد الثوار، بل على العكس من ذلك تماماً كانت تنسق مع النظام المجرم، وعلاقاتها معه قائمة ومستمرة. وإنّ كسر شوكة هذه الميليشيات يعد مكافحةً للإرهاب الذي يتجاوز الحدود ويتخطى الحواجز”.
ولعل أكثر ما يلفت الانتباه من بين جميع التصريحات والبيانات كان بيان “أعيان مدينة القامشلي بكافة أطيافها” الذي ناشد فيه “الوحدات الكردية وعناصرها”، بإخلاء مدينة القامشلي “من المظاهر المسلحة وعدم اطلاق القذائف باتجاه الحدود التركية من داخل مدينة القامشلي لأن الجيش التركي سيرد على مصادر إطلاقها ويذهب ضحيتها المدنيون والأبرياء”.
“صورة لعوائل تغادر منطقة الاشتباكات” نت
وتابعوا: “دعوا المدينة تعيش بسلام ولا تطلقوا القذائف من الأحياء المدنية، اذهبوا الى الحدود أو مناطق الاشتباكات وقاتلوا هناك. جميع أبناء مدينة القامشلي الآن نزحوا منها والبعض منهم يبيت في العراء أو في المدارس”.
وفي مناطق درع الفرات وعفرين ومحافظة إدلب، شهد يوم الجمعة الأول بعد انطلاق العملية خروج عشرات المظاهرات المؤيدة لعملية نبع السلام، وحمل فيها المتظاهرون لافتات كتب عليها عبارات تدعو لمشاركة جميع الفصائل في العملية ومحاربة ما وصفوه بـ”الميليشيات الانفصالية”، بالإضافة لعبارات تدعو للتفريق بين أبناء المكون الكردي السوري وبين عناصر ميليشيات” pkk و pyd وقسد”.
من خلال استعراضنا السابق لوجهات النظر وآراء التيارات نلاحظ بأن معظم المصرحين، لا سيما الرافضين للعملية، يتناولونها من زاوية رؤيتهم وموقفهم السياسي والأيديولوجي من الأتراك متناسين الجانب السوري المشارك عسكرياً في العملية والجانب المدني الخاص باللاجئين والنازحين السوريين والذي يؤيد غالبيته العملية.
أما المرصد السوري لحقوق الإنسان، فقد تعرّض مديره “رامي عبد الرحمن” لانتقادات حادة ولاذعة من قبل العديد من المتابعين والإعلاميين، وخاصة من المؤيدين لعملية نبع السلام، نتيجة “افتراءات على تركيا والجيش الوطني وانحيازه الصريح لقسد، ويظهر ذلك من خلال مداخلاته ولقاءاته التلفزيونية التي يتهجّم فيها على الأتراك وحلفائهم من الجيش الوطني الذي يطلق عليه رامي عبد الرحمن في تقاريره مسمى (خلايا أنقرة)، ويعلن تأييده لقوات سوريا الديموقراطية، فانحرف بذلك عن الهدف الحقوقي الإنساني للمرصد ليغدو مرصداً سياسياً صرفاً” حسب تعبير الحقوقي السوري “محمد سيف الملا” في حديثه لـ “مع العدالة”.
وعلى أية حال، سنذكر ما أتى عليه المرصد السوري بمعزل عن صحة أنبائه من عدمها؛ إذ أشار إلى حدوث عمليات نزوح للمدنيين من مناطق متفرقة في شرق الفرات، “بسبب الهجوم التركي”. وبحسب إحصاءاته، فإن عدد النازحين تجاوز 75 ألف مدني نزحوا من تل أبيض ورأس العين والدرباسية ومناطق أخرى شرق الفرات عند الشريط الحدودي مع تركيا، وتوجهوا نحو عمق المنطقة، ومنهم من يفترش العراء ومنهم من توجه إلى مدينة الرقة، فضلاً عن الأوضاع الإنسانية الصعبة التي تعيشها المنطقة من انقطاع المياه عن مدينة الحسكة، وخروج محطات تغذية كهرباء عن الخدمة بسبب القصف والاشتباكات. وبحسب ما رصدته مصادر المرصد السوري لحقوق الإنسان على الأرض، فإن مدينتيّ الدرباسية ورأس العين باتتا شبه خاليتين من السكان تمامًا.
ويتابع المرصد القول بأن الهجمة أدت إلى سقوط قتلى وجرحى في صفوف المدنيين “نتيجة القذائف (العشوائية) التي أطلقتها القوات التركية على مناطق متفرقة”.
-
اتهامات متبادلة وخطابات كراهية عربية- كردية، وأزمة ثقة:
بالرغم من ارتفاع الأصوات المعتدلة داخل أجسام المعارضة، ودعوتها للسوريين المدنيين من أبناء المكونين العربي والكردي للنأي بالنفس عمّا يحصل من اشتباكات بين فصائل الجيش الوطني وقسد، والحفاظ قدر المستطاع على النسيج الاجتماعي الوطني؛ إلا أن العديد من الشخصيات الإعلامية وممثلي الرأي من كلا الطرفين انجروا خلف انفعالاتهم العاطفية فأخذت خطابات الكراهية والعنصرية تملأ منشوراتهم وتغريداتهم، ووصلت حالات التخوين والإقصاء إلى مستويات لم نعهدها خلال الفترات السابقة، لدرجة أن الاتهامات بالعمالة والارتزاق صارت تُرمى ضد الفئات الصامتة والمحايدة.
غالبية المؤيدين للعملية من العرب وغيرهم تجاوزوا باتهاماتهم عناصر العمال الكردستاني وأجنحته لتشمل كامل المكوّن “الكردي” بسعيه للانفصال، وممارسة التمييز العنصري والتغيير الديموغرافي وتهجير العرب من بلداتهم داخل مناطق سيطرة وحدات الحماية الكردية، ويذكرونهم بمنعهم للعرب من دخول مناطق سيطرتهم، بالإضافة إلى حجز الآلاف منهم داخل مخيمات أشبه بمعسكرات اعتقال وعدم السماح لهم بالخروج إلا بعد دفع آلاف الدولارات، وإطلاقهم صفة “الدواعش” على جميع العرب في المناطق الشرقية ما تسبب بمقتل نحو 3 آلاف مدني في ريف دير الزور خلال حملة (الباغوز) أكثرهم من الأطفال والنساء، هذا بالإضافة بالطبع إلى مشهد استعراض جثث عناصر الجيش الحر في شوارع عفرين.
أما الفئة المناهضة لـ “نبع السلام” فيصفون كافة فصائل الجيش الوطني بالمرتزقة لدى الأتراك، وينعتون فئة كبيرة من اللاجئين السوريين في تركيا بـ “الشبيحة” لرئيسها، ويذكرونهم بمساندة الأتراك في “احتلال” عفرين واتهامهم بإفراغها من سكانها “الأكراد” والاستيلاء على منازلهم، وتوطين نازحي الغوطة وبقية المناطق فيها بقصد التغيير الديموغرافي أيضاً، ويذكرونهم كذلك بتخليصهم من تنظيم داعش بدعم من التحالف.
والحال، فإن الفريقين اعتمدا صيغة التعميم في التعامل مع الآخر؛ فالعربي أضحى بنظر الكردي إما “داعشي” أو عميل لتركيا، والكردي صار بنظر العربي “أوجلاني” أو قسدي!
وبناءً على هذه المعطيات فإن ما تخبّئه العملية العسكرية في شرق الفرات خلال الأيام والأسابيع القادمة، قد ينذر بنشوء كارثةٍ سوريةٍ من نوع آخر يفوق ما تعوّد عليه السوريون من موت ودمار ونزوح؛ كارثة جديدة تنخر نسيجهم الإنساني، ويُستبعد أن تزول آثارها النفسية من داخل التركيبة المجتمعية على المدى المنظور، بل ويُخشى من ديمومتها لدى الأجيال القادمة التي من المفترض أن تشكّل مستقبل سوريا الجديدة، في حال عدم التصدي للخطاب الشعبوي القائم وتغليب لغة العقل والمنطق ومصلحة سوريا التي هي فوق كل مصلحة فئوية.