إن حالة التعايش والانتماء التي كانت تجمع مختلف أطياف ومكونات المجتمع السوري، حولته التنظيمات الجهادية إلى الولاء لـ "الخليفة" و"الأمير" و"الشرعي" و"الأمني" بالمطلق، وتنفيذ كل الأوامر الصادرة منهم دون تشكيك أو مجادلة
25 / نيسان / أبريل / 2020
*مع العدالة | أحمد طلب الناصر
يتعرّض السوريون بكافة مكوناتهم، القومية والدينية والطائفية والمناطقية اليوم، لخطر يتهدد وجودهم وكيانهم إثر تفشّي حالة غير مسبوقة من الكراهية والعداء بين أفراد وجماعات تلك المكوّنات، ما ينذر بتفكّك مزيجها الاجتماعي ويهدد عملية بناء مجتمع سوري مؤمن بالعدالة والمواطنة واحترام مبدأ التعددية.
ولعب الطرفان الرئيسان في الحرب السورية، ونقصد التنظيمات المتشددة ونظام الأسد، الدور الأبرز في تفريق السوريين وانتزاع مفاهيم الروابط المجتمعية من ثقافتهم، ما يسهل آلية التحكم بالمناطق المسيطر عليها من قبل الطرفين، وضمان ديمومة ولاء القاعدة الشعبية فيها.
بالنسبة لنظام الأسد، كثيرة هي الأمثلة المرتبطة بانتهاكاته وجرائمه التي ساهمت باتساع الهوة بين أبناء المناطق والطوائف والقوميات المقيمة في سوريا منذ ما قبل الثورة، فخلال فترة حكم عائلة الأسد لسوريا تمكن النظام من تفكيك روابط البيت الواحد والأسرة الواحدة عبر اختراق أفرادها أمنياً وتجنيد بعضهم ضمن فئة كتبة التقارير أو المخبرين المباشرين.
وبالصورة ذاتها استطاع النظام تشويه العلاقات الوظيفية داخل المؤسسات الحكومية والأهلية، واختراق أعضاء وقادة الأحزاب السياسية والتجمعات الدينية والثقافية.
إلا أن حالة التفكك وانهيار القيم المجتمعية التي خلفتها جرائم النظام تجلّت بأبشع صورها بعد اندلاع الثورة، بحقّ المعارضين والموالين على حدّ سواء. وقد وثّقت “مع العدالة” منذ انطلاقتها المئات والآلاف من مختلف جرائم وانتهاكات الأسد.
أما بالنسبة للتنظيمات المتشددة التي أفرزتها الحرب السورية، فقد استطاعت التغلغل فكرياً ودينياً بل وعشائرياً أيضاً داخل المناطق التي سيطرت عليها بالشكّل الذي مكّنها من تشريب أفرادها عقيدة “الولاء والبراء”، بل وفرضتها عليهم كواحدة من أركان الدين الرئيسية والعلاقات الاجتماعية؛ بالتالي فإن ناكرها أو المتردد بتنفيذها منبوذ أو كافر يُقام عليه الحد، كائن من كان، وبصرف النظر عن صلة القرابة والرابطة الأسرية أو الاجتماعية. وهنا يُستدل على أن رابطة الولاء والبراء بين أفراد الجماعة تتربع فوق قمة الهرم العقائدي للتنظيمات والجماعات المتشددة.
“صورة لمقاتلي تنظيم داعش” ــ أنترنت
يروي “سامر” (20 عاماً)، ما حدث معه قبل نحو 6 سنوات في مدينة دير الزور، أو ولاية (الخير) بحسب تسمية “تنظيم داعش” آنذاك، فيقول: “بعد صلاة أحد أيام الجمعة أبلغونا بعدم مغادرة المسجد عبر مكبّر الصوت. كان اثنان ملثمان من عناصر التنظيم يمسكان بابن خالتي، وهو شاب في الثلاثينات من عمره، أجلساه القرفصاء وفكّا وثاقه ومدّدا يده على طاولة معدنية”.
وتابع سامر واصفاً المشهد: “قرأ عنصر ثالث بياناً يتضمن آيات من القرآن توضّح حكم السرقة، ثم عرضوا تهمة ابن خالتي (اختلاس من أموال المسلمين خلال عمله كمحاسب مدني في ديوان الحسبة التابع للتنظيم). تقدّم بعدها أبو مصعب، وهو (عديل) ابن خالتي، وكان يقيم في أحياء النظام، وظهر فجأة مع دخول التنظيم إلى الأحياء المحررة. وأبو مصعب هو الذي قطع يد ابن خالتي بالساطور..”.
يصف سامر تأثير ما رآه فيتابع: “ذلك المشهد لم يفارق مخيلتي على الإطلاق، وبقيت أعاني من كوابيس امتدت لشهور طويلة، وكنت حينذاك طفلاً في الرابعة عشر من عمري فقط”، وينهي سامر حديثه بالقول: “أبو مصعب يعيش اليوم في الدير بعد أن استرجعها النظام، ويرأس مجموعة تابعة للدفاع الوطني”.
إن حالة التعايش والانتماء التي كانت تجمع مختلف أطياف ومكونات المجتمع السوري، حولته التنظيمات الجهادية إلى الولاء لـ “الخليفة” و”الأمير” و”الشرعي” و”الأمني” بالمطلق، وتنفيذ كل الأوامر الصادرة منهم دون تشكيك أو مجادلة. وكذلك تم تحويل وتحوير المعنى الثاني الذي يخص البراء، فلم يوجّه صوب الفئات الدينية والطائفية والفكرية الأخرى فحسب، بل استهدف أصحاب التوجّه الإسلامي كذلك، ممّن خالفوهم بآرائهم، وكذلك استهدف معتزلي مبايعتهم والمحايدين. فكان الأمر بإقامة الحدود عليهم والاقتصاص منهم بصفتهم “منافقين ومرتدين ومتآمرين وعملاء..”
“مقاتلون متطرفون يبايعون تنظيم داعش الإرهابي” – أنترنت
تلك الممارسات يوضحها لنا “حارث” (21 عاماً) عبر تجربته، فيقول: “بعد متابعتي عملية لتطبيق حدّ (الاتصال مع أعداء الدولة والتآمر ضدها) على ما أذكر، وتمت بقطع رأس جارنا الذي كان مقاتلاً في الجيش الحر؛ التحقتُ بأحد معسكرات التنظيم”.
ويتابع حارث: “كنت حينها في الخامسة عشر، أخضعونا في البداية إلى دورة شرعية، أهم ما ركّزت عليها الدورة طروحات (الولاء والبراء) في الإسلام مع تدريبات بدنية بسيطة. في بداية الدورة كنا نتأثر بمشاهد قطع الرؤوس والصلب وقطع الأعضاء ومشاهدة الجثث في الطرقات، ومعظمها لأشخاص نعرفهم. أما في نهايتها أصبح منظر الدم مألوفا كالماء”.
يستمر حارث بسرد ما مر به فيقول: “بعد إنهائي الدورة، عانت والدتي كثيراً حتى استطاعت انتزاع ما تم حفره في رأسي، فجمعنا بعض المال، وعبرنا الحدود سراً إلى تركيا بمساعدة قريبٍ لي، ثم ركبت البحر لأصل القارة الأوربية، بعد يقيني أن بقائي هناك، في أرض (الدولة)، معناه موتي المؤكد في حال شعروا بأني لن أستطيع الاستمرار معهم”.
حالة الولاء تلك لا تختلف مطلقاً عن مشهد التبعية العمياء لدى الطرف المقابل، ونقصد الفئات المنضوية تحت إمرة نظام الأسد والميليشيات الطائفية الشريكة. فإذا ما استعرضنا بعضاً من ممارساتهم الوحشية خلال السنوات التسع الأخيرة، سنلاحظ مدى التفكك الذي صنعوه داخل أطياف ومكونات المجتمع السوري، طائفياً واثنياً وعشائرياً ومناطقياً. ليصل إلى درجة متقدمة من العداء والإقصاء، يصعب التخلّص من آثارها الكارثية في المدى المنظور.
“الدكتاتور بشار الأسد ونوري المالكي اللذان ساعدا على انتشار وتغوّل تنظيم داعش في سورية والعراق”
وكما جيّرت التنظيمات المتشددة مفهوم الولاء ليصبح محصوراً بجماعاتها، كذلك فعل نظام الأسد في مفهوم المواطنة والانتماء للوطن حين ربطه بالتبعية المطلقة لـ “قائد الوطن”، ولا ولاء حقيقي إلا لـ “سوريا الأسد”.
وكحالة الناس تحت رحمة التنظيمات، كذلك لم يسلم الموالون للأسد، حتى من أبناء طائفته، من النبذ والملاحقات والاعتقال والتصفية في حال تجرأ أحدهم على طرح انتقاد أو الوقوف على الحياد، إذ يعتبر ذلك إعلاناً صريحاً بالعمالة. ولعل من أكثر الدلالات تجسيداً للولاء الخالص تحملها العبارة المرعبة “الأسد أو نحرق البلد”.
Eng